يوميات الحب والحرب126:
كلام الله وكلام الناس: في بعض مبادئ التفسير:
يقول تعالى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف/175ــ 176)
يعرض القرآن قصةً حدثت في زمنٍ مضى للاعتبار والاتعاظ، فيأبى الناس إلا البحث عمّن فعل ذلك، ولم فعل ذلك. فيُضَيِّعون في ذلك جوهرَ الكلام.
قالوا إن من نزل فيه قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا﴾ كان يعلم اسم الله الأعظم، بل كان نَبِيِّاً، واسمه «بلعام بن باعوراء». ثم قالوا بأنه زاغ عن الهدى، فقال فيه الله ما قال.
فليت شعري، ما شأننا باسم كلب!
وما شأننا بالقول إن كلباً كان نَبِيَّاً، أو يعلم اسم الله الأعظم!
أهكذا يسهل علينا القول بأن الله يمنح نبوّته أو يُعلم اسمه الأعظم ـ الذي إذا دُعيَ به أجاب ـ لمن سبق في علمه بأنه سيكون أدنى من كلب؟
فوالله إن قيل لأحدكم: «إنك أسأت اختيار صديقك الذي خانك»، لساءه ذلك. أفلا ترون أن ما تقولون يسيء إلى مولاكم؟
لقد كان فيما قال القرآن بلاغٌ أيّ بلاغ. ولقد كان فيما صمت عن قوله القرآن بلاغٌ أيّ بلاغ. ولو كنا محتاجين للإيمان بما لم يقل القرآن من تفاصيل، لأتى لنا بها القرآن، لأنه كتاب أنزله الله للادّكار، أو لقصّه علينا رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ المُكَلَّفُ بالبيان. فلهذا لن نقول فيه إلا ما قال القرآن مما تحتمله اللغة.
والتأويل عندي بحول مولاي هو:
﴿وَاتْلُ﴾ من بلاغنا ـ يا محمد ـ ويا كل من تأَتّى له من أُمَّتك التبليغ: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: على يهود المدينة ـ ومن يقول بقولهم في المستقبل ـ فيعلموا أنك تعلم ما يخفون من أخبار قبائحهم، ﴿اتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ قصة ﴿الَّذِي آَتَيْنَاهُ﴾ فيما يرى الناسُ ﴿آَيَاتِنَا﴾ فبدا وليّاً من أوليائنا، وتعامل معه الناس وفق هذا، حتى صار معروفاً به. وقد صمتنا عن ذكر اسمه، لنشير إلى أنه يمثل نموذجاً عاماً، ومثالاً لقبح الانحراف في كل زمن، فما عاد اسمه هاماً، بل ما فَعل وما فُعل به، إذ بدا للناس داعي خير، فتلبّس بهيئة داعي الخير، فما عاد يُعرَف بين الناس إلا بثوبه هذا، وصفته تلك، فأردنا أن نفضح كذبه، فهديناه أن ينزع عنه لباسه ليرى المخدوعون به حقيقته.
ولقد كان لباساً تَمَلَّك صاحبه ـ لطول ما تزيّا به ـ كالجلد، لا يسهل نزعه إلا بمشقة. ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ أي: من ظاهر ما بدت للناس آياتنا، فطال تلَبُّسُها إيّاه، حتى بدت جزءاً من كينونته، حتى إنه لما أراد نزع ثوبٍ ألبسته إيّاه خديعةٌ طال عهدها، احتاج منه ذلك جهداً ومحاولات، فصعب عليه ذلك.
وإنه لصعبٌ أن يطول بك العمر في زي الوليِّ، ثم تضطرُّ إلى نزع ثوب الولاية أمام الناس، مثل شيخ اشتراه الحاكم، ثم تخلّى عنه، فرماه للناس، فصار كلباً!
لقد تحول من وليٍّ إلى كلب. وما كان يوماً وليّاً، بل بدا للناس وليّاً، فها هو الآن يكافح ليعود إلى حقيقته كلباً، فربما يشفق الناس على كلبٍ، أكثر مما يشفقون على وليٍّ كذاب.
ولكي ينزع الرجل عنه لباسه الكذوب، فلقد احتاج أن يكافح كفاح كلب طلب أن يسلخ عنه الناس جلده.
ولقد تعب في هذا الكفاح، حتى صار يلهث إن قيل إنه ولي، ويلهث إن قيل إنه كلب. فلا جرم كان نزع ما يراه الناس عليه منذ سنوات صعيباً!
لقد كافح الرجل حتى عاد كلباً، بل أدنى من الكلب، تصوره الآية، يلهث ويدلع لسانه إن حُمل عليه، ويلهث ويدلع لسانه إن تُرِك، في مشهدٍ مُقَزِّز يستحقه من يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.
لقد تغيرت الظروف من حول الكلب، فصار لا يستطيع الحياة، دون أن يخلع عنه رداء الوليّ الكاذب، فاستحال عليه أن يعيش ـ في ظل الظروف الجديدة ـ وليّاً، فعاد كلباً. ولا يعود الوليُّ كلباً إلا بأن يخلع زي الولاية. لقد كانت له جلداً، فصارت الآن عليه لعنة، فهو الآن يكافح أن يخلعها، ليعيش. وقد رأيت في حياتي القصيرة أمثال هذا النموذج المتكرر، يبدو للناس ولِيَّاً، فحين ألتقيه فأحدق بعينيَّ في عينيه، ينكسر فينزع عن نفسه رداءه المزيف، فأكلمه كما أكلم كلباً، فلا يعترض.
ولقد قلت: إنه نموذج متكرر، لما تقوله الآية: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ أي أنه مثلُ سوءٍ، الهدف من ذكره أن يَتَّعِظَ الناس بمصيره، إذ صار عظةً وآية.
تلك هي قصة الوليّ الكذاب، الذي التحق به الشيطانُ، فاقتدى به، وتعلم منه، وصار للشيطان شيخاً وإماماً. ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾: في نظر الناس، وإلا فهو عند الله غويٌّ مبين، من قبل أن يخلقه.
وأحسب أنَّ صمت التنزيل عن ذكر اسم الكلب، كان لسببين: الأول: لأنه لا يليق بكلام الله، أن يعتني بذكر أسماء الكلاب. والثاني: ليشير إلى أن المتلوَّ عليهم البيان ـ من يهود المدينة ـ يعرفونه، فالصمت هنا أبلغ في البيان، إذ هو تلويح بقول المعلوم، أبلغ من التصريح.