تاريخ
الجالية الأرمنية ومساهمتها في الحياة الفلسطينية
المؤلف:
ماهر الشريف
لا يشعر الأرمن بأنهم أقلية في فلسطين، فهم يتكلمون اللغة العربية كأهلها؛ ومع محافظتهم على خصوصيتهم كشعب له تقاليده وعاداته وصفاته، فهم يشعرون بانتمائهم القوي للأرض التي احتضنتهم، ويقفون، عموماً، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ويشاركون في نضال الفلسطينيين العام ضده.
الوجود الأرمني وتطوّره في فلسطين
يعود وجود الأرمن في فلسطين إلى القرن الرابع ميلادي، وذلك بعد أن اعتنقت مملكة أرمينيا، حكومة وشعباً، المسيحية التي أصبحت دين الدولة الرسمي في سنة 301 م، وتعتبر الجالية الأرمنية في القدس أقدم جالية أرمنية في الشتات في العالم. وبحسب المعلومات التي يوردها المؤرخ الأرمني جورج هنتليان، أمين أرشيف البطريركية الأرمنية في القدس[1]، والباحث الأرمني آرا دمبكچيان[2]، كان الأرمن يشكّلون خلال الفترة البيزنطية نسبة كبيرة من آلاف الرهبان الذين عاشوا في صحراء فلسطين، وكانوا يحجون إلى فلسطين في قوافل من 400 إلى 500 شخص لزيارة الأماكن المقدسة. وقد حافظ الأرمن على ممتلكاتهم وحرية العبادة بعد تحوّل فلسطين إلى الإسلام في القرن السابع ميلادي. ومع تحسن الطرق ووسائل النقل، صار يحج إلى فلسطين ما بين 8000 إلى 10000 أرمني سنوياً، تتحمّل البطريركية الأرمنية في القدس مسؤولية استضافتهم وتأمين إقامتهم. ومع أنه لا توجد معلومات موثوقة عن عدد الأرمن في فلسطين ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، فقد كان هناك، وفقاً لتعداد سنة 1903 الذي أجرته السلطات العثمانية، 1200 أرمني في القدس، و 300 أرمني في بيت لحم، وبضع مئات آخرين في يافا وحيفا والناصرة وغزة.
وخلال الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد المذابح الجماعية التي استهدفتهم من جانب السلطات العثمانية في سنتَي 1915 و 1916، لجأ بضعة آلاف من الأرمن إلى فلسطين، وكان على الدير الأرمني في القدس أن ينظم نفسه لإيوائهم وإطعامهم. وفي سنة 1922، افتتح الدير دارَي أيتام لـ 700 يتيم من العراق، ووصلت في ذلك العام بعض قوارب الأرمن الذين تمّ إجلاؤهم من مدن جنوب تركيا (كيليكيا)، بعد هجوم مصطفى كمال، إلى الساحل الفلسطيني ولا سيما إلى حيفا، فمنعتهم السلطات البريطانية في البداية من الدخول، ولكن بعد احتجاجات من الوجهاء العرب الفلسطينيين، سُمح لهم بالنزول وقدم لهم زعيم قرية الشيخ بريك الأرض المجانية ليبنوا فوقها قرية عتليت بالقرب من حيفا. وفي سنة 1925، كان هناك نحو 15000 أرمني في فلسطين يقيمون بصورة رئيسية في القدس وحيفا ويافا. بيد أن الاضطرابات التي رافقت نكبة الفلسطينيين في سنة 1948 دفعت آلاف الأرمن إلى الفرار إلى الأردن ولبنان وسورية، ولم تسمح إسرائيل للكثيرين منهم بالعودة. وكان عدد من الأرمن قد استفادوا في سنة 1947 من سياسات إعادة التوطين في الاتحاد السوفيتي وغادروا فلسطين طواعية إلى هناك. وهكذا، تقلص عدد أفراد الجالية الأرمنية في مدينتَي يافا وحيفا، البالغ عددهم 10000 شخص، إلى 1000 على الأكثر، وفقدت مئات من العائلات الأرمنية منازلها وأعمالها التجارية في القدس الغربية، وكان على السلطات الكنسية تلبية احتياجات بضعة مئات من الأرمن الذين لجأوا إلى القدس الشرقية.
وبعد النكبة، سافر العديد من الأرمن إلى عمان وبيروت والكويت للبحث عن عمل، ثم صاروا اعتباراً من مطلع ستينيات القرن العشرين يتوجهون نحو كندا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا. وبعد عدوان حزيران/يونيو 1967، تسارعت هجرتهم وخصوصاً إلى مدينة لوس أنجلوس الأميركية، وهي الهجرة التي صار نزيفها يهدد المجتمع الفلسطيني بأسره جراء الاحتلال وصعوبة ايجاد فرص عمل. واليوم، تتفاوت التقديرات بشأن عدد الأرمن في فلسطين، إذ يقدّر المؤرخ جورج هنتليان عدد الأرمن في القدس بنحو 2550، وفي الضفة الغربية، وخصوصاً في مدينتَي بيت لحم ورام الله ، بنحو 500، فضلاً عن 400 في مدينة يافا، و350 في مدينة حيفا، و 100 في مدينة الناصرة والمناطق المحيطة بها، و 200 في بقية المناطق. بينما يقدّر الباحث الأرمني آرا دمبكچيان عدد الأرمن في فلسطين عامة بنحو 7500 نسمة، منهم ثلاثة آلاف يعيشون في القدس، و2100 يسكنون حي وادي النسناس في مدينة حيفا، و300 نسمة في مدينة بيت لحم، فيما يتوزع الباقون بين عكا والرملة والناصرة وبئر السبع وقطاع غزة.
ومن الجدير ذكره أن إسرائيل استقبلت نحو 8000 أرمني عند تفكك الاتحاد السوفييتي، ادّعوا أن لهم جذوراً يهودية قديمة، واندمجوا مع بقية السكان الإسرائيليين.
الحي الأرمني وبطريركية الأرمن في القدس الشرقية
الحي الأرمني هو أحد الأحياء الأربعة في البلدة القديمة، فضلاً عن الأحياء اليهودية والمسيحية والإسلامية. ويحتل هذا الحي الجزء الجنوبي الغربي من البلدة القديمة وتبلغ مساحته نحو 14٪ من مساحتها الإجمالية، وهو محاط بسور داخلي يضم بطريركية القديس يعقوب وديراً ملحقاً بها، ومساكن، ومستشفى، والعديد من المتاجر الصغيرة، ومدرسة بنيت سنة 1924 وتستوعب نحو 120 طالباً، يداومون فيها إلى حين إنهاء تعليمهم الثانوي، ومن ثم يكملون تعليمهم الجامعي إما في الجامعات الفلسطينية أو خارج البلاد، وصارت حديثاً تستقبل طلاباً عرباً من مدينة القدس وتدمجهم مع الطلاب الأرمن، كما هناك أيضا مدرسة أخرى لتخريج الرهبان وتدريس التعاليم المسيحية.
وترتبط كنيسة بطريركية الأرمن في القدس بالكنيسة الأرمنية الرسولية (الأرثوذكسية)، وهي تحتوي على مزار مخصص للقديس يعقوب، ويحيط بأبواب مجمعها الخزف الأرمني الرائع، ويحق للسياح دخول فناء الكنيسة عصر كل يوم، وتُعرض كنوزها للجمهور مرة واحدة سنوياً في عيد القديس يعقوب. ويضم دير القديس يعقوب مكتبة غنية تأسست سنة 1929 بأموال تبرع بها ثري أرميني، وهي تحتوي على أكبر مجموعة من الوثائق الأرمنية القديمة في العالم. كما يوجد في الحي متحف مارديجيان للثقافة والفنون، الذي يعرض الإنجازات في مجال الهندسة المعمارية والرسم، والمخطوطات والوثائق التي تغطي تاريخ الشعب الأرمني[3].
وتمتلك البطريركية الأرمنية، في مدينة القدس الغربية، ثمانية مبانٍ وحوالي 250 متجراً ، معظمها على طريق يافا وشلوم تسيون همالكا (شارع الأميرة ماري سابقاً)، وتشكّل آجارات هذه المحلات التجارية المصدر الرئيسي لدخل البطريركية. كما تؤجر البطريركية 120 عقاراً سكنياً وتجارياً في البلدة القديمة، وتمتلك قطعتين من الأرض (حوالي 15 دونماً) في سلوان والجثمانية وجبل الزيتون، و50 دونماً قرب بتير، فضلاً عن ممتلكات متفرقة في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ويافا[4]. وبما أنّ الحي الأرمني في البلدة القديمة يجاور الأحياء اليهودية الأستيطانية، فقد حاولت السلطات الأسرائيلية، منذ سنة 1967، إجبار الكنيسة الأرمنية على بيع الأراضي التابعة لها للتوسع في عمليات الاستيطان، وصادرت بالفعل، متذرعة بالمنفعة العامة، جميع الأراضي الواقعة أسفل الجانب الغربي من الأسوار الممتدة من الجدران الخارجية إلى فندق فاست القديم، الذي هُدم وبيعَت أرضه الى شركة إسرائيلية أنشأت في مكانه فندقاً جديداً، وقد أقامت البطريركية دعوى قضائية لدى محكمة الاستئناف الاسرائيلية العليا التي لم تبت في القضية حتى الآن[5].
مساهمة أرمن فلسطين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية
كان أرمن فلسطين رواداً في إنشاء المطابع وفي فن التصوير وفي صناعة الخزف والسيراميك، إذ افتتحوا واحدة من اوائل المطابع في القدس في سنة 1833، وصار العديد منهم يعملون في الطباعة والتنضيد وتجليد الكتب، كما افتتح غرابيد كريكوريان أول ورشة تصوير تجارية في القدس ظلت تعمل من سنة 1885 حتى سنة 1948، كما اشتهر في هذا الفن مصوّر آخر هو هرانت نكاشيان (أبو سارو) ، الذي وثّق حياة اللاجئين في مخيمات غزة بين سنتَي 1948 و 1952 من خلال صوره. وبرز ديفيد أوهانسيان ومساعدوه، نيشان بليان ومكيرديتش كاراكاشيان، في تصنيع الخزف الأرمني منذ سنة 1919، وقد افتتحوا ورشة عمل في الحي الإسلامي لإعادة ترميم بلاطات قبة الصخرة، وقاموا، خلال عشرينيات القرن العشرين، بتزيين الواجهات والديكورات الداخلية للعديد من المباني العامة. ثم أسسوا ورشة كبيرة ومصنعاً على الطريق إلى نابلس، أطلقوا عليه اسم "الخزفيات الفلسطينية"، وووظفوا في ذروة نشاطهم ما يصل إلى 20 رساماً، وقد واصلت هذه الورشة عملها لأكثر من 75 عاماً، وشجعت أرمن آخرين على تعلم هذه المهنة. كما عمل أرمن فلسطين في قطاع البناء وصقل الحجارة، وتميّزوا أيضاً بأنهم صاغة مهرة وصيادلة ورسامون وموسيقيون وعلماء وأطباء وصانعو ساعات. وكانوا يسيطرون تقليدياً على قطاع صناعة الأحذية، لكن هذا القطاع راح يتقلص بسبب منافسة الأحذية الجاهزة الصنع، وبسبب مضايقات الاحتلال لقطاع الصناعات الفلسطينية بصورة عامة في مدينة القدس. أما اليوم، فيعمل معظم الأرمن في هذه المدينة في شغل وبيع المجوهرات، وفي صناعة أواني النحاس وزخرفتها، ويملك الكثير منهم متاجر لبيع الهدايا للسياح الوافدين إلى الأراضي المقدسة[6].
وفضلاً عن الجمعية الخيرية الأرمنية التي تأسست في القدس في سنة 1935 بغية العمل على خدمة أبناء الجالية، هناك أندية رياضية مثل الهومنتمن، وأخرى ثقافية تهتم بإبراز الثقافة واللغة الأرمنيتين مثل نادي أراكس الكاثوليكي. وغالباً ما يتزوج الأرمن من داخل الجالية للحفاظ على الهوية الأرمنية، وتندر حالات الزواج من خارج الجالية، إلا أن هذا لا يعني أن الأرمن منغلقون على أنفسهم، بل لهم علاقات واسعة ومنفتحة على المجتمع العربي الفلسطيني المحلي.
مساهمة أرمن فلسطين في الحياة السياسية
نظراً لقلة عددهم في فلسطين، تظل مساهمة الأرمن في الحياة السياسية محدودة، من دون أن يعني هذا أنهم بمعزل عنها، أو عن تعبيراتها التنظيمية.
ففي سنة 1947، وقفت بطريركية الأرمن في القدس ضد قرار تقسيم فلسطين الدولي، وشارك أفراد الحرس المدني الأرمني، خلال أحداث النكبة الفلسطينية في سنة 1948، في الدفاع، بأسلحة بسيطة، عن البلدة القديمة من القدس، وتعرض حيهم لأضرار جسيمة جراء قصف قوات الهاغاناه للبلدة، ولقي أربعون مدنياً حتفهم وأصيب 250 آخرون. وفي سنة 1982، رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية تجديد تأشيرة كبير الأساقفة كاركين كازاندجيان وأصدرت أمراً بترحيله، وانضمت جميع الكنائس والهيئات العامة الأخرى إلى البطريركية الأرمنية في نشاط تضامني معه، واستمرت هذه المسألة عالقة ثماني سنوات إلى أن انتهى الأمر بانتخاب كازاندجيان بطريركاً أرمنياً في اسطنبول. وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى وخلالها، تم اعتقال العديد من الشباب الأرمن في بيت لحم ورام الله والقدس، واستشهد، في آب/اغسطس 1991، الشاب الأرمني هاروتون جوليزيان أثناء قيادته مظاهرة في مدينة رام الله، ودفن في مقبرة الأرمن في القدس. وبسبب مواقفها في الدفاع عن قضايا الحرية وحقوق الإنسان، تواجه البطريركية الأرمنية، مثل المؤسسات الأخرى، صعوبات كبيرة في الحصول على تصاريح البناء في القدس الشرقية. ويشارك أرمن القدس في مواجهة حملات الاستيطان الإسرائيلية، وهم يرفضون رفضاً قاطعاً أن يبقى الحي الأرمني في القدس تحت السيادة الإسرائيلية، ويتعرضون خارج حيهم لاستفزازات من طلاب المدارس اليهودية الدينية المتطرفة، الذين يكيلون الشتائم لرهبانهم ويبصقون عليهم، ويدنسون ممتلكاتهم ويشوهون الملصقات التي تستحضر الإبادة الجماعية للأرمن. وقد تولى بعض أبناء الجالية الأرمنية مناصب رفيعة في السلطة الوطنية الفلسطينية، منهم مناويل حساسيان سفير فلسطين في المملكة المتحدة، والأكاديمي ألبرت أغازريان الذي شغل منصب الناطق الرسمي باسم الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد سنة 1991 [7].
النقمة على حكام إسرائيل لدعمهم العسكري أذربيجان
ومما يزيد من نقمة أرمن فلسطين على سياسات حكام إسرائيل دعمهم أذربيجان في صراعها مع أرمينيا على إقليم ناغورني كاراباخ. فقد أثار تعرض القوات الأرمنية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لهزيمة ثقيلة في ناغورني كاراباخ على يد القوات الأذربيجانية، غضب الجالية الأرمنية في فلسطين على الحكومة الإسرائيلية التي تعتبر أحد موردي الأسلحة الرئيسيين لباكو، وخصوصاً الطائرات من دون طيار التي استخدمت على نطاق واسع في الحرب في ناغورني كاراباخ. وقد تظاهر أفراد من الجالية الأرمنية في تل أبيب في 6 تشرين الثاني 2020 ضد مبيعات الأسلحة الإسرائيلية لأذربيجان، وأرسل البطريرك الأرمني في القدس عدة رسائل إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الدولة وبعض الوزراء، وكذلك إلى الحاخامين الرئيسيين في البلاد، طالباً منهم وقف مبيعات الأسلحة إلى أذربيجان، ولكن من دون جدوى، إذ يجلب هذا السوق عدة مليارات من الدولارات إلى إسرائيل، ناهيك عن إسرائيل، عبر تسليحها أذربيجان، تشير لإيران بأنها موجودة على حدودها[8].