ضيوف أضواء : ضيف حلقة الاسبوع الاديب نور الدين الغطاس المقيم في ألمانيا إعداد وتقديم رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل اسبوع مع مبدع اوفنان اوفاعل في احدى المجالات الحيوية في اسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد انتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الاسبوع الاديب نور الدين الغطاس المقيم في ألمانيا
(1) كيف تعرف نفسك في سطرين؟
نور الدين الغطّاس مهندس، ألماني من أصل مغربي، ترعرعت بمدينة القنيطرة بالمغرب. هاجرت في عمر الشباب إلى ألمانيا، من أجل الدراسة. أعمل وأعيش في ألمانيا تحديدًا مدينة دورتموند منذ حوالي ثلاثين سنة، أحبّ الكتابة الإبداعية، والفوتوغرافيا. إلى جانب مهنتي أمارس الكتابة والترجمة.
(2) ماذا تقرأ الآن؟ وما هو أجمل كتاب قرأته؟
غالباً ما أقرأ أكثر من كتاب في نفس الوقت وبلغات مختلفة، حالياً أقرأ باللغة الألمانية ديوان "قصائد حبّ" لبرتولت بريشت، وبالفرنسية "بلد الآخرين" للكاتبة الفرنسيةألمغربية "ليلى سلماني" وبالعربية كتابين "اعترافات رجل لا يستحي" للكاتب "سليم مطر"، "السحر والدين في شمال إفريقيا" لـ"إدمون دوطي"، ترجمة د.فريد الزاهي.
لا يمكن الإجماع على جمالية كتاب دون آخر، هناك الكثير من الكتب تركت أثرًا عميقًا في نفسي. انشغالي بالكتاب يبدأ دائماً بعد قراءته، وهذا هو مقياس إعجابي بالكتاب، وكلما طال انشغالي به، زاد إعجابي لأعود إليه من جديد. لأعمل على البحث في سيرة الكاتب وتفاصيل حياته، لأتخذ من الكاتب صديقًا لي طوال فترة قراءتي له حتى أنني يمكنني محادثته متى شئت.
كما أنني اكتشفت أمرًا آخر، مع مرور الوقت يصبح وقع الكتاب على نفسي له علاقة طردية بالمرحلة والظروف التي أعيشها، مثلاً: قبل مغادرتي المغرب كنت عاشقاً لكتابات "محمد زفزاف"، "عبدالرحمن منيف"، "حيدر حيدر"، "محمد الماغوط"، "نوال السعداوي" وفرج فودة"، أما في بداية إقامتي بألمانيا وسط تسعينيات القرن الماضي، كان اهتمامي كبير بما يسمى بـ"أدب المهجر"، من حسن حظي أنني أقمتُ لمدة طويلة بمدينة كُولُونيا، حيث كان آنذاك مقر دار الجمل لصاحبها "خالد المعالي"، وبالتالي أعجبتُ بكتابات "سركون بولص"، "مؤيد الراوي"، "سالمة صالح" وزوجها "فاضل العزاوي"، كنت وقتها حريصاً على اقتناء المجلة الأدبية "فراديس" للشاعر العراقي "عبد اقادر الجنابي" التي كان يصدرها خالد المعالي. مع مرور الوقت انخرطتُ في المجتمع الألماني وأصبحت لغتي الأولى هي الألمانية التي أقرأ وأكتب بها إلى جانب حرصي على اللغة العربية. الأدب الألماني بحر ما زلت أسبح فيه بمتعة كبيرة، من كلاسيكياته مثل "غوته"، "راينا ماريا ريلكه"، "هرمان هسه"، عبر "الواقعية الجديدة" في ثلاثينيات القرن الماضي مع الكتاب والشعراء أمثال "إيريش كستنر"، "ماشا كالكو"، كما ألهمني الأدب الألماني ومازال بعد الحرب العالمية الثانية وما صنعته المجموعة الأدبية "47"، وصولاً إلى الأدب الألماني المعاصر بكل أجناسه، القصة، الرواية، الشعر، المسرح... الخ مما حفزني وما زال على نقل وترجمة الأدب الألماني خاصة الشعر، من الألمانية إلى العربية.
(3) متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتب؟
جميعنا يكتب بشكل يومي، شعورياً ولا شعورياً، تاريخ البشرية في حد ذاته عبارة عن تاريخ دوّنه البشر، بالنسبة لي، وعيي بذاتي يقترن بالقراءة والكتابة، خصوصاً عندما تصبح الكتابة متنفس لا يمكن الاستغناء عنه وضرورة ماسة من أجل الصيرورة.
رغبتي في الكتابة تبلورت أكثر عندما غادرت المغرب، وجدتني في عالم جديد، مختلف، لتصبح الكتابة باللغة العربية كتلك السنبلة التي حاولت التمسك بها ضد النسيان، قبل أن أستوعب سفري الشخصي، الخروج من هناك (الثقافة بشمولتها، واللغة العربية بحمولتها)، والدخول إلى هنا (الثقافة بتنوعها، واللغة الألمانية بخصوصيتها)، لتصبح الكتابة بكلا اللغتين جزءًا حيويًا في حياتي.
فها أنا ذا أحاول عبر الكتابة الإبداعية، الترجمة، والفوتوغرافيا، نقل أحاسيسي، وخلق توازن مع عملي العلمي والتقني، من أجل محاربة الروتين اليومي. كما قال الكاتب السويسري "ماكس فريش": (الكتابة ضرورية من أجل تحمّل الحياة، الكتابة هي محاربة الملل بداخلي) (*). ما دمتُ أكتب فأنا سعيد.
(4)ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
هناك الكثير من المدن تسكنني، عملي كمهندس يُتيح لي فرصة زيارة العديد من الدول والمدن، أحياناً بشكل مستمر ولسنوات، لأن المشاريع غالباً ما تكون طويلة المدى، المدن أيضًا لها ما يميزها من سحر وجماليات، تسكننا قبل أن نسكنها، عندما أجلس مثلاً في مقهى، أو فندق أو عند عودتي بالطائرة، تتملكني رغبة جارفة للكتابة عن أمر بسيط، هنا يبدأ تعلقي بالمكان، وهذا ما حدث لي مع مدن عديدة مثل إسطنبول، عمّان، القاهرة، أصيلة، ڤيينا، لندن، برلين، باريس... لكن ثمة مدينة تسكنني أكثر من كل ما ذكرت هي مدينة بُودابست، عاصمة المجر.
أفضّل "بُودَابِسْتْ" في الصيف والشتاء، في الشتاء بحماماتها التركية العتيقة، والتجوّل صيفًا على قناطرها التاريخية والجلوس بالمقاهي التي تتوسّط بناياتها المهجورة. للإشارة، أتقاسم عشقي لمدينة بودابست مع شعراء عرب آخرين مثل مريد البرغوتي ونجيب سرور (سلام على أرواحهم).
(5) هل أنت راض على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
لا أعتقد أن أي كاتب يصل لدرجة الرضا عن كتاباته، محرّك الكتابة هو عدم الرضا وهاجسها هو التساؤل المستمر، السعادة أو ما يسمى "منطقة الراحة" عدو حقيقي للكتابة، سُؤل الكاتب المغربي "محمد زفزاف"، إذا ما قال كل ما يريد قوله، فأجاب: (لم أقل بعد كل ما أريد، ولا يمكن لكاتبٍ أن يدّعي أنه قال كل ما يريد… فهو يستمر في الكتابة ويستدرك ما فاته).
بالنسبة لي فالكتابة الإبداعية في أول الأمر متعة أدبية، هوايتي المفضلة، بعد العمل المشحون بالهندسة وتسيير المشاريع أجد متنفساً في الكتابة، الترجمة والفوتوغرافيا، لدي الكثير من الأفكار والأعمال التي تشغلني، لكن الوقت عدوي اللدود، إلا أنني متفائل فيما يخص المستقبل القريب، منعكف على ترجمة عن الألمانية وكذلك جمع نصوص شعرية ونثرية أريدها أن تخرج إلى النور في القريب العاجل، بالإضافة إلى عملي الفوتوغرافي الجديد.
(6) متى ستحرق أوراقك الإبداعية بشكل نهائي وتعتزل الكتابة؟
ما دامت في جسمي خليّة حيّة فلن أتوقف عن القراءة والكتابة، هل يمكننا الاستغناء عن الماء والهواء!؟
(7) ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
هناك الكثير من الكتب الجميلة والعميقة التي تمنيت أن أكون كاتبها، مثلاً رواية "قصة حبّ مجوسية" لعبد الرحمن منيف، التي قرأتها أكثر من مرة، رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، الرواية الوحيدة التي قرأتها بأربع لغات، عربي، ألماني، إنجليزي، وفرنسي، عندما التقيت الكاتبان خلال زيارتهما إلى مدينة كولونيا بألمانيا وسط تسعينيات القرن الماضي، حينها كنت طالباً بالجامعة، زاد إعجابي بهما وتمنيت لو كنت أحدهما. تأثرت كثيراً بدراسات وكتابات "إدوارد السعيد" و"فاطمة المرنيسي"، الشاعرة السورية "دعد حداد" والشاعرتان النمساويتان "پاولا لُودڤِيغو" و"إنغبورغ باخمان" وكذلك الشاعرة الألمانية "ماشا كالكو" وقد تطول اللائحة...
ليس لدي طقوس معينة للكتابة، أحتاج فقط لشيء من الخلوة، بعيداً عن الصخب والضجيج، هكذا يمكنني أن أكتب في كل مكان وقراءة كل ما يقع بين يدي، وإذا اقتضى الأمر أكتب على ذراعي، على صفحة يدي... أحياناً تكون كلمات متفرقة دون أي رابط، قد أستيقظ من النوم من أجل كتابة جملة سقطت علي، مع مرور الوقت تبحث كل كلمة أو جملة عن جملة تكمّلها، وهكذا يكتمل النص. لا أكتب في عجلة من أمري، لأنني أومن أن النص العميق يحتاج إلى وقت، رغم سرعة وسطحية الكثير من الأمور من حولنا، كوسائل التواصل الاجتماعي، عدد السطور والصفحات لا يهمني، بقدر ما تهمني الفكرة وكتابتها بطريقة بسيطة ومكثفة، الكاتب ليس مهندس معماري له تصميم مسبق ودراسة لكل حيثيات مشروع البناء، الكاتب غالباً ما يشرع في الكتابة دون فكرة نهائية عمّا يكتب، الكتابة في حد ذاتها هي التي ترسم الطريق للكاتب...
لا أحبّ الكتابات الفضفاضة والفارغة وكذا الطويلة والمعقدة، رغم كل ذلك تبقى البداية هي أصعب لحظات الكتابة، أشعر بقشعريرة حينها، أستغني على الكثير من المحاولات حتى أجد المفتاح الذي أدخل به إلى النص.
هناك نصيحة للصحافي والناشر الأمريكيألمجري "جوزيف بُوليتزر" أحترمها كثيراً "اقتصر في الكتابة – وسوف يقرؤون. أكتب بوضوح – وسوف يفهمون. أكتب بالصور – وسوف يحتفظون بما تكتب في الذاكرة" (*).
(😎 هل للمبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
• في البداية يا صديقي دعني أوضح لك شيئاً، لا أحبّ كلمة "مثقف" لأنها تقصي الآخرين، تحمل في جوفها، ربما عن غير قصد، روح نخبوية، ألم يقل "جوزيه ساراماغو" (أكثر الناس الّذين عرفتهم في حياتي حكمة كان رجلاً لا يعرف القراءة والكتابة) ، أفضل الكلام عن إنسان يقرأ ويكتب، نعم، هناك مسؤولية للكاتب، تبدأ باحترام القارئ الذي سوف يضحي بوقته لقراءة الكتاب، وبالتالي يجب الابتعاد عن كتابة الخزعبلات. السؤال في نظري هنا، لماذا نكتب؟ وبالتالي ما الهدف من الكتابة؟
قد يكون لكل واحد منا جوابه الخاص، بالنسبة لي أريد أن أركز على بعدين، أولهما ضرورة الكتابة ولا أجد أجمل وأعمق مما كتبه راينا مارِيا رِيلكه في كتابه "رسائل إلى شاعر شاب":
(لا أحد يمكن أن ينصحك ويساعدك، لا أحد. هناك فقط وسيلة واحدة. أنظر بداخلك. ابحث عن السبب الذي يجعلك تكتب؛ تَحقّق، إذا كانت جذور ذلك منتشرة في أعمق نقطة من قلبك، اعترف لنفسك، هل الموت مصيرك، إذا تم منعك عن الكتابة) .(*)
ثانياً، ما جدوى الكتابة؟ أن تفتح عيون الآخرين، أن تُحرض على طرح الأسئلة، وبالتالي فالكاتب هو ضمير المجتمع، هو الطفل المشاغب بالمعنى الإيجابي للكلمة، له عدوّان لدودان وهما الغرور والإغراء، أجد الثاني أكثر خطورة، الحفاظ على مسافة صحية بين الكاتب والمؤسسات الرسمية أمر ضروري، فقط إذا كانت الكتابة حرّة يمكنها أن تنتج قارئ حر. للأسف، الكثير من أصحاب القلم في ثمالة مما شربوه من ماء المؤسسات، قد يقول قائل، الكتاب يجب أن يدعم من طرف المؤسسات، أكيد، لكن دون أي تدخل في المحتوى أو التوجيه. من حسن حظي أنني أعيش في ألمانيا وبالتالي أعايش تعامل الكتّاب الألمان مع المؤسسات، الدولة تشجّع الفن والإبداع وهناك ميزانية لذلك، لكن حرية الفنان مصونة، التاريخ الألماني يحتوي على الكثير من الأمثلة، من بينها تجربة الكتّاب الألمان مع المؤسسات الألمانية في المرحلة النازية التي أحدثت شرخاً بين الكتاب، إما "مع" أو "ضد"، لتصل إلى محرقة الكتب الشهيرة في العاشر من ماي ١٩٣٣، حيث التهمت النيران أجمل ما أنتجه العقل الألماني، على سبيل المثال لا الحصر، كتب برتولت بريشت، الإخوة توماس وهاينرش مان، هاينرش هاينه، روزا لوكسمبورغ، سيغموند فرويد، ، ڤالتر بنيامين، هرمان هسّه...
عندما أمر النظام بحرق الكتب علناً بدعوى المعرفة المضرّة، وجُلبت الثيران من كل مكان لجرِّ عربات مثقلة بالكتب، اكتشف شاعر، أن لائحة حرق الكتب لا تحتوي على عناوين كتبه، سارع إلى مكتبه غاضباً، وكتب رسالة إلى أصحاب السلطة:
احرقوني!
احرقوني!
لا تفعلوا كل هذا بي! لا تتركوني وحدي!
ألم أكتبْ دائماً الحقيقة في كتبي؟
والآن، تعاملوني مثل مخادع!
إني آمركم: احرقوني! (*)
أما "غينتر غراس"، الروائي والشاعر الألماني المعاصر، الطفل المشاكس بمعنى الكلمة والحاصل على نوبل للأدب سنة ١٩٩٩، فقد أجاب عن سؤال، أي نصيحة يمكنه إعطاءها إلى كاتب شاب:
(أولاً، أحذره أن يصبح كاتباً، لأن هذه المهنة تفرض عليه الحفاظ على استقلاليته، في عالم يسعى إلى التطابق في كل المجالات، قد يتطلب منه ذلك التضحية من أجل الحفاظ على استقلاليته. بعد ذلك أنصحه أن يمارس مهنة بعيدة عن الأدب، مهنة لها علاقة واحتكاك مع الكثير من الناس، ولو نادلاً في مطعم على سبيل المثال، مهنة يتعرّف فيها على الحياة والعالم، وإلا قد يتعرض مبكرًا إلى خطر الكتابة عن نفسه وسرة بطنه، أولاً استيعاب العالم، ثم محاولة تأثيثه باللغة، وإنتاج واقع آخر ليس فقط على الورق، بل واقع حيّ) (*).
(9)ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
كما سبق أن ذكرت أحبّ الخلوة مع نفسي، خصوصاً من أجل الكتابة، الشعور بالحرية يختلف من مجتمع لآخر، من إنسان لآخر، لكن يمكن القول بصفة شبه عامة أن زمن الكورونا زمن مقيت، سرق منا أثمن ما نملك حريتنا في التنقل، لكن الوباء استوجب ذلك، وهذا أمر ضروري من أجل سلامتنا، عمليًا كنت أسافر كثيراً، وبغتة وجدتني في المنزل، قلتُ إذن هذه فرصة للقيام بأمور أخرى كنت دائماً مضطرًا لتأجيلها بسبب زحمة الوقت، مثلاً القراءة والكتابة، بدأت بترتيب دفاتري، ترجماتي وأعمالي الفوتوغرافية، في هذا المناخ من التأمل والإبداع وُلد كتابي "الملائكة تحبّ اللّيمون" الذي نشرته في نوفمبر الفارط. حوّلتُ من خلاله الفراغ إلى إبداع.
(10) شخصية في الماضي ترغب لقاءها ولماذا؟
أريد لقاء أمي التي مضى على رحيلها المفاجئ تقريباً ثلاث سنوات، أمي "ورقة، سقطت مبكراً من الشجرة" كما كتبت الشاعرة الألمانية "ماشا كالكو" في إحدى قصائدها، هذه الوفاة التي خلّفت صدمة كبيرة بداخلي، أريد أن أحكي لها ما وقع خلال غيابها، أن أقول لها لقد طال فراقُكِ حتى أصبحتْ يدايْ تخجل من رفع سماعة الهاتف. أخشى من صوتٍ غير صوتكِ على التلفون، أن أقول لها أن صمتك وقناعتك علماني أن الإنسانية في عمقها النبيل لا تحتاج إلى مطالعة الكتب.
نعم، "نكتب لأننا نريد من الجٌرح أن يظل حيًا ومفتوحًا. نكتب لأن الكائن الذي نحبّ ترك العتبة وخرج ونحن لم نقل له بعد ما كنا نشتهي قوله" هذا ما قرأته البارحة للكاتب واسيني الأعرج.
(11) ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
سوف لن أغيّر ولو نقطة واحدة. أقول كما غنّت الفنّانة الفرنسية "إِيدِتْ بِييَافْ" (أنا لستُ نادمًا على شيء).
(12) ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
كل شيء فان، لا بقاء سوى للكلمة. وبالتالي فالكتابة هي الوسيلة الوحيدة التي نتحدى بها الموت.
(13) صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثنا عن ديوانك الصادر مؤخرا: “الملائكة تحب الليمون”، كيف كُتب وفي أي ظرف؟
"الملائكة تحبّ اللّيمون" صدرت حديثاً عن منشورات "سطار" بألمانيا، المجموعة تحتوي على نصوص مزيج من الشعر، النثر والومضة القصصية مرفقة بصور فوتوغرافية من التقاطنا، نصوص كُتبت على شكل صور، وصور التقطتْ الكلام بطريقة ما، كلاهما يريد أن ينجلي ويترك المساحة للآخر، لكن سرعان ما تكتشف أن مصيرهما واحد، لا يمكن لأي منهما الاستغناء عن الآخر، تجعل القارئ في حركة دائمة، يسافر كلمة وصورة ويتمنّى ألاّ ينتهي سفره.
الفضل يعود إلى الحجر، حيث وجدتني في المنزل أرتب دفاتري وأعمالي الفوتوغرافية. الألمان يقولون في مثل هذه الحالات (حظ داخل اللاحظ) (*)، حاولت التعامل مع العزلة الإجبارية بشكل إيجابي.
(14) ماجدوى هذه الكتابات الإبداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟
عندما نتكلم عن الكتابة الإبداعية نتكلم بصفة عامة عن الفن والإبداع، الإنسان جسد وروح، لذا فهو في حاجة إلا ما يشفي غليله، تجعلنا نحلم بأعين مفتوحة. بالنسبة لي لا معنى للحياة دون فن وإبداع، أقول كما قالت الشاعرة الألمانية "رُزُه أوسلندر"، التي أحبها، (من أنا عندما لا أكتب؟) (*).
(15) هل يعيش الوطن داخل المبدع المغترب أم يعيش هو بأحلامه داخل وطنه؟
هل الوطن مكان أم لا مكان؟ هل هو إحساس وشعور بالانتماء؟ أم أناس نحبهم؟ أم حدود جغرافية؟ أم حب نادي كرة القدم؟ بل ربما حب قهوة الصباح؟ أم ربما قرار عدم إنجاب أطفال؟ أم هو اللَّمسة العشوائية للشَّعْر عندما نكون نفكر؟ أم قِيَّم إنسانية كونية؟ أم...؟
نلاحظ إذن أنه ليس هناك جواب واحد. لكل منا تعريفه للوطن، وهذا أمر طبيعي. أجابت الكاتبة الأمريكية "جرترود شتاين" التي عاشت في باريس لمدة طويلة (ما جدوى الجذور، إذا لم يأخذها الإنسان معه) (*)، أم ربما يمكن القول، ما جدوى الجذور، إذا لم أستطع تركها ورائي، الكلام عن الوطن يقودنا لا محالة للكلام عن الهوية في تركيباتها المعقدة، كلاهما ينبض في قلبي، ثقافتي المغربية العربية والألمانية، لغتي (الأم) العربية ولغتي (الأب) الألمانية، كل واحدة منها تعتبر الأخرى قيمة مضافة، لا وجود لإحداهما دون الأخرى. الوطن أكثر من مجرد فلكلور، تقاليد وعادات، بل علاقة الإنسان مع ذاته. لا أخفيكم، الوطن والهوية عناصر موجودة في كتاباتي، لقد كتبت في أحد النصوص:
أيّها الوطن، أين أنت؟
أنت بالنسبة إليّ شجرة
تنمو في خيالي
تنمو كلّما أغلقتُ عينيّ
أسقيها بدموع الحنين
احتضن أطفالك
إنّهم مستعدون للسقوط في يديك.
(16) كيف ترى تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
موضوع الطباعة، النشر والتوزيع في العالم العربي موضوع شائك، وعلاقة الناشر بالكاتب تبدو غير سليمة البتة، الناشر (دون تعميم طبعًا) له هموم أخرى، هواجسه ربحية بعيدة عن الفن والإبداع، لا يهتم ببناء الثقة بينه وبين الكاتب، دون الحديث عن انتهاك حقوق الكاتب في الكثير من الحالات. هنا أتكلم عن تجربة شخصية وكذلك تجارب الكثير من الكاتبات والكتاب مع دور نشر عربية. أمام هذه الوضعية يلجأ الكاتب إلى النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على الأقل له الحرية الكاملة فيما وكيف ينشر، حتى أصبح هناك كُتاب عرب ينشرون كتبهم على صيغة بي دي اف بالمجان. هناك دول رائدة فيما يسمى بأدب النت، مثلاً الصين الشعبية. نمطية مواقع التواصل الاجتماعي، الاستهلاك السريع، ما يجعل جودة المنشورات الإلكترونية تعاني، هناك منشورات على النت ركيكة وكذلك كتب ورقية أكثر ركاكة، إذن لا يمكنني القول إن كل ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي لا يستحق القراءة، بل العكس في نظري، النشر الإلكتروني في تطور وستكون له مكانته مستقبلاً. في نفس الوقت أتمنى استعادة الثقة بين الناشر والكاتب من أجل الكتاب حتى يلعب هذا الأخير دوره الفعّال في تنمية العقول والمجتمعات.
(17) أجمل وأسوء ذكرى في حياتك؟
أتحسّس الماضي بنوستالجيته، بعطر الأمكنة، كما أستحضره بذكرياته المؤلمة والمشاهد المنفرة، إلا أن أجمل الذكريات تلك التي مازالت لم تحدث، لا أنظر كثيراً إلى الوراء، ولا أنشغل بالمستقبل، أعيش الآن وهنا.
(18) كلمة أخيرة أو شيء ترغب الحديث عنه؟
في الختام يمكنني الإدلاء بشهادتي كإنسان خاض تجربة اغتراب لما يفوق 30 سنة هاجرت إلى ألمانيا في بداية العشرينات من العمر، ورقة بيضاء بمعنى الكلمة، درست وتخرجت كمهندس من جامعة كولونيا بألمانيا، تسلقت سلم الوظائف من مهندس مبتدئ إلى مدير عام لشركات ألمانية صناعية كبرى (وما زلتُ). أسّست أسرة مع زوجتي الألمانية ولدينا أطفال من زيجة مختلطة، أدفع ضرائبي بانتظام وأحترم القوانين، كما أشارك في الحياة الاجتماعية، الثقافية، السياسية الألمانية بشغف كبير، أشعر أنني فرد كامل الحقوق ومواطن ألماني. لدي ملاحظة من الداخل حول نجاح التجربة الألمانية.
وأنا معجب بنجاح هذه التجربة في غياب الثروات الطبيعية يشكّل الإنسان محور الحياة الألمانية. كل مؤسسات الدولة في خدمة الإنسان، تهيئ المناخ الصحيح له من أجل تطوير نفسه. والمعادلة الألمانية لها عنصران: التعليم والصحة، بهما يقف ويسقط المجتمع. طوبى للمجتمعات التي تجعل تعليم وصحة الطفل وبالتالي إنسان المستقبل محور اهتماماتها، ونرجو من المجتمعات العربية أن تحذو حذوها. تحياتي | نور الدين الغطّاس.
(*) ـ ترجمة من الكاتب من الألمانية إلى العربية.