📁 آخر الأخبار

رواية جنازة بدون ميت

 مقتطف من رواية جنازة بدون ميت 


....قبل أن نصعد القارب الصغير قطف ميشل تفاحة: «تفضلي جميلتي عربون حبي الذي لا يموت»، ثم صار يحدثني ونحن نخترق بقاربنا نهر اللكوس عن الملوك الثلاثة الذين قضوا جوار هذا النهر في معركة وادي المخازن الشهيرة، وكيف أن الإمبراطورية البرتغالية العظيمة انهارت بعد موت ملكها سيبستيان على مشارف هذا الوادي. ثم صار يحكي عن التّجار قديما حينما كانوا يحملون سلعهم في قوارب ليصلوا عبر هذا النهر إلى المحيط الأطلسي في الشمال على مشارف مدينة العرائش. لم أكن مهتمة كثيرا بحديثه، كنت منشغلة أكثر بتفاحته التي أهداني إياها قبل قليل، ومن كثرة سعادتي وشغفي وولعي بها، أضعتها! كنت أرميها في الهواء ثم أتلقفها في أحضاني، لا أدري كيف فقدت تركيزي فسقطت في الماء، شعرت بخيبة وقلت بحزن: «لقد ضاع مني عربون حبك ميشل». نهض فنزع بسرعة ثيابه، وقبل أن يغطس في الماء همس لي: «لن يموت عربون حبي أبدا». لم يترك لي الفرصة لكي أمنعه، كان في عجلة من أن يستمع لندائي، فصار يسبح مع التيار يحاول اللحاق بـ (العربون)، فجأة استدار برأسه نحوي، رأيته يهوي إلى الأسفل يُقاوم بلّاعة تسحبه إلى قاع الوادي فيحاول جاهدا النجاة، صرت أصرخ بكل قوة طلبا للمساعدة، كان مشهدا حزينا جدا حين رأيت رغوة بيضاء تخرج من فمه فعلمت أنه يعاني أزمة قلبية، خُيل إليّ في تلك اللحظة وكأني سمعته يناديني باسمي الحقيقي: «مارتا، مارتا، مارتا...». ربما كان ساعتها يعبر تلك الشّعرة الرقيقة التي تفصل الحياة عن الموت حيث تنجلي هناك كل غشاوة عن أعيننا، فنرى في أقل من رمشة عين شريط حياتنا التي نودّعها بكل تفاصيلها وأسرارها وخباياها... في اللحظة التي كان يفارق فيها الحياة اكتشف كذبتي. أي ذكرى سيئة عنّي حَملتَها معك إلى آخرتك؟ ألم تكن تعتبرني حوريتك التي نزلت من السماء؟ كيف سَتأمَن حوريات الجنة بعدما عشتَ الكذب والخداع مع حوريتك التي في الأرض؟ رأيت الماء يبتلعه شيئا فشيئا وبدا وكأنه استسلم أخيرا لقدره، لم أسمعه يستغيث أو يصرخ، لقد مات في صمت وكبرياء الأبطال، لم يتبق منه إلا كفه التي وضعها قبل قليل فوق شفتيّ تعتلي صفحة الماء ثم مالبثتْ أن اختفت هي الأخرى،... لم أكفّ عن الصراخ، رأيت من بعيد فاطمة وبعض الصيادين قادمين مسرعين نحونا، لكن كان ميشل وقتها قد جرفه التيار إلى الهاوية. حبيبي ميشل، كيف أسامح نفسي؟ ألست أنا من أسقطت عربون حبك في الماء؟ ألست أنا أيضا من كان يترصد الانتقام منك؟ وها أنت تموت من أجل تفاحة أردتَها أن تكون هدية لي؟. حبيبي ميشل، أي قوة خارقة تستطيع أن تنسيني ذاك الصباح عندما رافقني رجل الشرطة إلى المشرحة لكي أتعرّف على جثتك بعد أن لفظك البحر في شاطئ العرائش القريب. لم يكن السّمك قد أبقى من ملامحك شيئا. ها هو البحر الذي أنقذك من الموت مرتين يسحبك هذه المرة لموت أكثر فتكا، وكأنه يريد أن يكفّر عن خطيئته السابقة حينما منحك ذات يوم الحياة. وجدت جثةً بدون ملامح، ممدودة فوق سرير أبيض، كان من المستحيل التّعرف عليك فلم يتبق منك إلا شبه جسد منخور التَهمَه الحوت. لاحظ الطبيب أن قبضة كفك بفعل الموت صارت متحجّرة وكأنها تمسك شيئا فأخذ بصعوبة يفتحها ويفكّ أصابعها الواحد تلوى الآخر. شهقتُ من هول المفاجأة حينما وجدتك تمسك ببقايا تفاح! ساعتها بصمتُ للطبيب بأصابعي العشرة أنها جثتك. آه حبيبي ميشل كم كنتَ مُحقّا حينما منحتني تفاحتك وقلت: «عربون حبي الذي لا يموت». لقد مات فيك كل شيء إلا عربون حبك... فمن شدة حزني عليك لم أبكيك. ها أنا أتركك ترقد بسلام أيها السلطان، ألم يغرق الملك محمد المتوكل وسط هذا النهر، بينما الإمبراطور البرتغالي سيبستيان والملك المعتصم بالله ماتا على ضفاف نفس الوادي؟ وكأن نهر اللكوس مقبرة خاصة بالنبلاء والملوك والأباطرة... أتركك ترقد بسلام أيها القديس. فليس صدفة أبدا أن تكون تربتك في المدينة التي تكتظ بالأضرحة، من يموت من أجل تفاحة الحب فهو شهيد....