نفق الحرية .. رواية واقعية وأبطال استثنائيون
كريمة الروبي
كاتبة فلسطينية - القاهرة
قبل غزو القنوات الفضائية، كان التليفزيون المصري يقدم برامج، ارتبطنا بها وأصبحت جزءاً من ذاكرتنا وذكرياتنا، منها برنامج (حدث بالفعل) وكان يعرض أفلاماً أجنبية مأخوذة عن قصص حقيقية حدثت بالفعل، وكنت حريصة على متابعتها، وأذكر أن أكثر ما كان يثير دهشتي هو ما في الواقع من قصص أغرب وأكثر إثارة من الخيال، وأن الحياة قد تفرض على الإنسان المرور بتجارب لم يكن يتخيل أنه يستطيع تخطيها، ذلك أن الإنسان بداخله إرادة لا يعرف قيمتها، ولا يدرك وجودها، إلا في أوقات الشدة.
تعودنا أن نشاهد قصصاً حقيقية تتحول لأفلام، لكن ما حدث وتابعناه من قصة انتزاع ستة أسرى فلسطينيين حريتهم من داخل سجن جلبوع شديد الحراسة، هو تحول قصص خيالية إلى واقع، أبطاله هم أبطال حقيقيون واستثنائيون، وحتى هذه اللحظة لا يستطيع العقل تخيل فكرة حفر نفق بأقل الإمكانيات، داخل معتقل شديد الحراسة، وهروب الأسرى من دون أن يشعر بهم أحد، رغم كل الإمكانيات التي يتمتع بها العدو، من أجهزة تعقب وغيرها. لكنها الإرادة الصلبة وشباب فلسطين الذين – رغم كل ما مرت به القضية الفلسطينية من انتكاسات وخذلان – ما زالوا يجيدون فن صناعة المستحيل.
منذ اللحظات الأولى للعملية - التي اعترف العدو بها – بادر المتخاذلون إلى نفي الرواية، معتمدين على استحالة تحقيقها، وادّعوا أن الأسرى ماتوا من التعذيب، وأن العدو يخفي ذلك خوفاً من المجتمع الدولي - وكأن هذا الكيان الغاصب الذي انتزع وطناً كاملاً، وقتل وشرد أهله بمساعدة الغرب الإمبريالي، يمكن أن يضحي بصورته التي يكتسب وجوده منها، وهي صورة القوي الذي لا يقهر، خوفاً ممن ساندوه وساعدوه على الوجود، ساعدهم في انتشار تلك الرواية الصورة التي يتم تصديرها دوماً عن قدرات العدو، التي لا يمكن مواجهتها (وفقاً لرؤيتهم).
والحقيقة، أنه لا غرابة في هذا الموقف المتخاذل، فهناك من كانوا وما زالوا يرددون أن مصر هي الطرف المهزوم في معركة العدوان الثلاثي 1956، رغم أنها المعركة التي تسببت بعقدة للمعتدي يعاني منها حتى الآن، ويراها الأزمة الأكبر في تاريخه، والمسمار الأخير في نعش امبراطوريته. فمن قرر اختيار طريق الانبطاح لأنه الأسهل، ولا يفرض عليه أي نوع من المقاومة، لن يتحدى المستحيل، أو يحارب من أجل قضيته، وبالتالي لن يستوعب ما حدث، رغم أن التاريخ مليء بالقصص البطولية غير القابلة لحسابات المنطق (هزيمة الولايات المتحدة في حرب فيتنام على سبيل المثال وقرارها من أفغانستان)، فالانبطاح، يفرض على صاحبه نمط تفكير رافض لانتصار الطريق الصعب، الذي تخاذل هو ورفض السير فيه. أما من صدقوا الرواية من دون حتى انتظار ما يؤكدها، فهم واقعيون أكثر ممن كذبوها رغم صعوبة تصديقها، لأنهم أدركوا أن الطريق الذي اختاروه هو طريق المقاومة التي لا تؤمن بالقوة المطلقة للخصم، واستوعبوا من دروس التاريخ ما جعلهم يؤمنون أن قوة الإرادة التي يمنحها الإيمان بالحق، تصنع ما يظن البعض أنه مستحيلٌ.
إلقاء سلطات الاحتلال القبض على الأسرى أبطال معتقل جلبوع، أكد صدق الرواية، وأهال التراب على المشككين الذين أثبتوا افتقارهم لإرادة الصمود والقتال، ورغم حالة الحزن التي أصابتنا جميعاً إلا أن إلقاء القبض عليهم لم ينفِ البطولة عن هؤلاء الأبطال، فهو أمر طبيعي ومتوقع، أما ما لم يكن طبيعياً وكان معجزة بكل المقاييس، فهو قدرتهم على التحرر من معتقل شديد الحراسة، يعتبر الهروب منه أمراً مستحيلاً.
تعرض الأسرى للتعذيب، وقد ظهرت آثاره أمام عدسات الكاميرات من دون أن يتحرك المجتمع الدولي (الذي ظنوا أن العدو يخشاه)، وأخذت القصة وقتها لدى الجمهور العربي ثم انتهت، لم يعد أحد يذكرهم أو يسعى لمعرفة مصيرهم، لم تعد أخبارهم تثير اهتمام وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية، فقضيتهم لم تعد تجذب الجماهير. أمرٌ محبطٌ حقاً ولكننا على يقين من أن المقاومة لن تتخاذل في سبيل حصولهم على حريتهم، فالأمر يتخطى مجرد قضية تحرير لبعض الأسرى، إلى ضرورة أن تظلَ قصةُ هروبهم ملهمةً لكل صاحب حق، قادر على صنع المستحيل لاسترداد حقه.
قد ينسى الجميع، ولكننا لن ننساكم، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، أعلى منا جميعاً، أعلى من سجّانيكم، وممن تولوا أمركم فخذلوكم. أنتم المنتصرون، حققتم المعجزة وأكّدتم أن الكيان أوهن من بيت العنكبوت وأن المقاومة جدوى مستمرة، وأن الحق يمنح صاحبه القدرة على صنع المستحيل. رفعتم رؤوسنا بعد أن مرغها غلمان التطبيع والتبعية ممن اتخذوا من العدو صديقاً وحليفاً، ولكن أمة ما زالت رغم كل سنوات التيه من صحراء كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، إلى صحراء الاتفاقات "الإبراهيمية" تنجب أمثالكم، هي أمة حية أبية عصية على الانحناء واليأس.. أنتم الأحرار ونحن الأسرى.. الحرية تليق بكم.. البطولة خلقت لأجلكم.