النهاية
-1-
بدت عبير شاردة جدًا وهى تجمع متعلقاتها من فوق سطح مكتبها بداخل المركز الطبي وقد انتهى وقت عملها فى انتظار حضور زوجها الدكتور بلال لتتحدث معه فيما حدث اليوم صباحًا, عندما شاهدت ياسين بجسده المُكتنز وقامته القصيرة يقف أمام جهاز التعقيم يُجهز أدوات الحجامة ويُعقمها وهو يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع كمن يحاول حل شِفرة ما, وعندما سألته عما به وهى تتصور بأنها مشكلة جديدة مع زوجته, فاجأها بالقصة التى انتشرت بالحي عما دار فى شقة هشام والنصاب الذى كاد أن يودى بحياة والدته وزوجته, والكلام الذى تناقلته جاراتها فيما بينهن عن الحالة التى أصبحت عليها زوجته مُذ أن عادت من المشفى بالإضافة إلى مغادرتها قبيل شروق اليوم فى حالة يرثى لها, زمت شفتيها باستياء وهى تلقى باللوم على والدة هشام التى نقلت كل ما يحدث فى بيت ولدها إلى تلك المدعوة عنبر, من المؤكد أنها بتلك المعلومات التى قامت بتمريرها إلى ذلك النصاب عبدالفتاح ساعدته على إيهامهم بما يريد بسهولة لتحقيق مآربه, ولكن شعورها بالشفقة على المرأة العجوز غلب عليها فى النهاية وهاهى تُفكر فى زيارتها بالمشفى فلربما كانت تحتاج إلى مُساعدة فى تلك الظروف الغريبة التى يعبرون من نفقها .
ثلاث طرقات تعرفهم جيدًا جعلن وعيها يطفو من جديد فوق سطح أفكارها, راقبت دخوله لحجرتها بتحية مُشفَّعة بابتسامة يُجيد خصَّها بها وحدها, تلك الابتسامة التى انزلقت من عينيه إلى شفتيه قلمت سريعًا أظافر ظلال مشاعر سلبية تحوم حول قلبها, كتفاه العريضتان احتلتا مجال رؤيتها, مما يُجبر نظراتها أن تحط على لحيته المُهذبة بعناية, رنا نحوها وهو يُعدل من وضع نظارته الطبيبة الأنيقة فوق عينيه بحركة اعتيادية وهو يقول:
- لا داعي لكل هذا الإعجاب فى عينيكِ, فأنا رجلٌ متزوج, مع الأسف!
مُذ سنوات وهو يستطيع استمالة ضحكاتها رغمًا عنها, قذفته بحقيبتها الجلدية فتلقفها فى الهواء وهو يقترب منها بمرح ويرفع غطاء وجهها مُقبلاً جبهتها فدفعته مُدعية استياءً كاذبًا من اقترابه الذى لم يُقس بالمسافات بينهما يومًا, هاتفة بغيظ مُحبب:
- لحُسن حظك أننى لستُ فى مزاج جيد هذا اليوم
لم يندهش كثيرا, فهو يعلم أنها بحكم عملها واختلاطها بأنواع مختلفة من صنوف النساء من المُمكن جدًا أن يتعكر صفوها أو تفقد القدرة على الصبر آخر يومها, هو أيضًا بحكم عمله يحدث معه ذلك وأكثر ولكنه يقذف كل هذا عند قدميها فى تلك الدقائق القليلة التى يلتقيان فيها بعد عودته من المشفى وبداية عمله فى مركز العلاج الطبيعي خاصته, جلس على المقعد المقابل لمكتبها وهو يخلع نظارته عن عينيه مُدلكًا أعلى أنفه وهو يقول ببساطة:
- الأمر يعود إليكِ حبيبتي, لو العمل هنا يُرهقك فلا داعي منه وتفرغي للأولاد فقط
ثم التفت نحوها متذكرًا أنه لم يسأل عن أطفالهما:
- على ذِكر الأولاد, أين هما الآن يا تُرى؟
جلست بدورها على مقعدها الجلدي خلف مكتبها, وتزفر بنعومة قائلة:
- أختى عزة هنا فى إجازة ولقد أصرت على اصطحاب الأولاد من الروضة إلى بيتها اليوم, ومن المُفترض أن ألحق بهم عندها الآن, ولكن حدث أمر غير وجهتي.
أومأ برأسه باهتمام يحثها على التحدث فبدأت تسرد عليه ما أخبرها به ياسين فى الصباح, ورغبتها فى زيارة أم هشام فى المشفى وقد ساءت حالتها كما علمت, ففى كل الأحوال المرأة كانت تحرص على زيارتها بشكل دائم وتتودد إليها وقد أحبتها للغاية رغم عدم رضاها عن بعض من تصرفاتها مع زوجة ولدها الراحلة .
كعادته يُفكر قليلًا قبل أن يجيبها عن أمر كهذا, وكعادتها تنتظر قراره الذى لم يكن يومًا ضد رغبتها إلا نادرًا, وأخيرًا أنار لها الضوء الأخضر لتعبر إلى موافقته بسلام ولكنه اشترط أن يصطحبها بنفسه إلى هناك حتى يطمئن عليها, نهض من مجلسه وهو يُشير لها بأن تُسدل غطاء وجهها مُجددًا, خرج من الغرفة متوجهًا نحو غرفة الكشف الخاصة به, فوجد ياسين يهتم بها ويُرتبها قبل بداية العمل, وطلب منه تأجيل مواعيد المرضى إلى ما بعد صلاة العشاء ليكون لديه متسع من الوقت وهو يصطحب زوجته إلى زيارة أم هشام, أعلن الامتنان فى عيني ياسين عن نفسه بوضوح وهو يهتف شاكرًا له بحماس وتقدير.
***
جلست والدة هشام على فراشها الأبيض وقد ارتدت جميع ملابسها مستعدة للخروج من المشفى, وأمامها حقيبتها الزرقاء الكبيرة التى جهزت فيها أغراضها منتظرة مجىء عادل, فهى تعلم بسفر هشام لمقر الشركة وبأن عادل هو من سيصحبها إلى المنزل, عندما أخبرتها المُمرضة بأن ولدها حضر باكرًا جدًا ظنت بأنه كان يريد الاطمئنان عليها قبل سفره, وهاهى الساعات تمر وجدايل أيضًا لم تأتِ .
ضربت الأرض الملساء بعصاها وهى تزفر متململة بجلستها, وهى تستعد للنهوض بنزق, ستخرج وحدها وتعود للمنزل وستضربهم جميعًا بالعصاة على رؤوسهم حتى تهشمها, طرقات خفيضة جعلتها تكافح تقدم أفكارها العنيفة بالتراجع, تهلل وجهها فجأة وهى ترى عبير تدلف من الباب بحرج بالغ وتُحيها بخفوت, عرفتها بالرغم من غطاء وجهها أو كما تقول لها دائمًا - أستطيع تمييزك من بين مئات المنتقبات
أخبرتها عبير بأن ياسين قص عليها ما حدث لذلك أتت لزيارتها وأن زوجها بلال ينتظر فى الخارج, أصرت المرأة على دخول بلال وقد هالها وجوده بالخارج كالمطرود, تركت عبير وخرجت إليه وهى تُقسم عليه أن يدخل ويجلس معهما بالداخل, كان متحرجًا بشدة ولكنه لم يستطع مقاومتها وخصيصًا وهى مُقدمةً على جذبه من ذراعه, فاختار الدخول بكرامته أفضل !.
كل ما قالته لها عبير كانت تعرفه لذلك لم تُعلق إلا بمصمصة شفاها وهى تتحسر على ذكائها الضائع ولكن جملة عبير الأخيرة والتى نقلتها عن ياسين عن خروج جدايل بتلك الهيئة ثم تبعها هشام بهيئة لا تقل عنها تشعُثًا هو ما أثار ريبتها وشرودها من غرابة ما تسمع .
فُتحَ باب الحجرة دون استئذان, وبلا وعيٍ حاضر دلف هشام يحمل دفتر ابنته جنى بيده, وبالرغم من سقوط نظراته على بلال وعبير ولكن إدراكه سقط على والدته فقط وهو يمُد لها الدفتر بيديه مؤشرًا بأنامله على العبارة التى جعلته يدور حول نفسه منذ أن قرأها فى شقة جدايل قائلاً بصوت مشحون:
- فقدت قدرتي على الفهم, أفهميني أمى, جميعكم خدعتموني أليس كذلك؟!
زفرت والدته بعدم رضا وهى تنهض واقفة مُنحنية الظهر قليلاً وهى تُجيبه زاجرة:
- أنت السبب, رأسك كان كالحجر, رفضت رؤى دون سبب لمجرد أنها كانت تعمل وكأنها وصمة عار بالرغم من أننى أكدت عليها بأنها لن تعود للعمل مُجددًا, أخترت راحتك على مصلحة بناتك, وتناسيت أن أختيار رؤى من الأساس كان لأنها الأقرب إليهما وتعرف كيف تتعامل مع حالتهما, ولكنك فكرت فى راحة بالك فقط .
أنحنى بلال نحو عبير الجالسة بجوار الفراش تشعُر ببلاهة مما تسمع من الحوار الدائر وهمس لها ليرحلا, فالموضوع المُثار عائلى للغاية, بمجرد أن نهضت عبير وهى تستأذن للمغادرة, قبضت المرأة على ذراعها قائلة بعصبية زائدة:
- انتظرى يا دكتورة عبير سأرحل معكما لا أريد البقاء مع هذا المعتوه
عاد إدراك هشام يعمل من جديد على بقية مساحة الحجرة دون والدته والتفت بحدة لم يقصدها نحو عبير وقد كانت بالنسبة له كـسفينة إنقاذ أتته وهو يصارع أمواج بحر يوشك على الهلاك فيه, وهتف وهو يقترب منها خطوة واسعة:
- أنتِ الدكتورة عبير؟, كيف لم أُفكر بكِ من قبل وأنا أبحث عنها فى كل مكان, أين أجد زوجتي الآن أخبريني؟
تلك الخطوة كانت كفيلة بأن تجعلها مَأسُورة خلف جسد زوجها الذى وقف أمامها مباشرة واضعًا يده على كتف هشام بخشونة ولسانه ينطق بشراسة أقل حسيسًا من التى انطلقت شرارتها من عينيه:
- اقترب خطوة أخرى وستندم صدقنى !
رفع هشام نظره بدهشة نحو بلال وكأنه لم يلحظه إلا الآن, بينما تدخلت المرأة بينهما وهى تسحب ولدها بعيدًا عن يد بلال, فالوضع لن يكون مُتكافئًا أبدًا, بالإضافة إلى ضيق صدرها الذى شعرت به وقد فاض بها الكيل مما يموج به, يكفى مُداراةً وصمتًا وليفعل ما يفعله لقد تعِبتْ, أبعدته الخطوة التى اقتربها وهتفت غير مبالية بوجود آخرين معهما:
- الدكتورة عبير لا تعلم شيئًا عن جدايل, ألا زلت أعمى البصيرة حتى الآن؟!, أنا بالفعل طلبت منها أن تُرشح لي عروسًا لك ولكنها لم تجد من توافق على ظروفك العائلية, وبما أنك لم ترَ رؤى حتى, وركبت رأسك ورفضتها دون أن تعلم حتى اسمها اضطررت أن أُسايرك وأخبرتك أن هناك عروسًا أخرى من طرف الدكتورة عبير.
غرز هشام أصابعه المرتعشة بين خصلات شعره بقوة ثم يحرك رأسه يمينًا ويسارًا كأبله لا يفهم ما يُقال له بوضوح, ولكن كيف؟ فتح الدفتر مرة أخرى ونظر لسطوره وهو يهذي بالعبارات الغير مترابطة التى تطحن عقله بلا هواده:
- أمى, هالة تقول فى وصيتها للفتاتين أن رؤى مُعلمتهما غير مُحجبة لذلك أهدتها وشاحها الرمادى لأنه نفس لون عينيها, ورؤى زوجة عادل هى نفسها مُعلمة البنات ولقد كانت غير مُحجبة بالفعل ولكن عينيها سوداء, أنا رأيتها بنفسي عندما ذهب عادل ليراها فى الروضة, وجدايل زوجتى عينيها رمادية ومستديمة على ارتداء حجابها الرمادى, سأُجن بالتأكيد !
زفرت والدته بضيق ولكن الحدة خَفُتت فى نبراتها وهى تربت على كتفه بتفهم:
- رؤى زوجة عادل ليست هى رؤى نفسها التى أوصت لها هالة بوشاحها, هى زميلتها وقد كانت تعمل معها بالروضة, حدث خلط بينهما عندما ذهب عادل ليراها, ولو توقفت عن مناداة زوجتك بـ جدايل لحُل الموضوع من تلقاء نفسه .
وكأنها ضغطت قابسًا أحمر كبيرًا فى عقله, أضاء بضوضاء الإدراك المُتأخر دافعًا إجابات منطقية لكل أسئلته بتلافيف عقله بقوة وسرعة وليدة, عندما استقبله عمها وقتما ذهب لرؤيتها, حدثه عن مدى ارتباطها بوالدها رحمه الله, ومدى تدليله لها حتى أنه أطلق عليها أسم جدايل كتدليل لها, جدايل اسم جدتها من أبيها وكان ذلك سببًا كافيًا ليجعل والدتها ترفض أن تكتبه فى شهادة ميلادها, وأصرت أن يُسجلها باسم رؤى!, ومنذ ذلك الحين والجميع يناديها بـ جدايل إلا والدتها وبعضٌ من زميلاتها, لذلك أحب هو أن يُناديها به ليُشعرها بالألفة تجاهه منذ اللحظة الأولى حتى نسي أو تناسى اسمها المُسجل بالأوراق "رؤى".
لم ينتبه إلى تلك الحقيقة فى البداية, اعتبره مجرد تشابه لا أهمية له, ولمَ يكن له أهمية وقد تزوجها صديقه وانتهى أمرها بالنسبة له!, والدته خدعته بمكر, ولكنها ليست وحدها !
رفع عينيه إلى والدته والغضب يُحدد مقلتيه وسوادهما بخطوط لا تقل سوادًا عن لونهما وهو يهمس من بين أسنانه :
- وبالتأكيد زوجتى الفاضلة وعمها المُهذب وافقا على تلك الخطة, وكنتم تضحكون فيما بينكم على الأحمق الذى صدقكم جميعًا
أزاحت يدها من فوق كتفه سريعًا وكأن لمسته تحرقها واستندت بظهرها بإرهاق بدا على وجهها وجعل جسد عبير يتحفز تلقائيًا استعدادًا للسقوط الذى سيحدث بين لحظة وأخرى ولكنها وجدت المرأة تستعيد بعض من قوتها بعد أن تنفست بعمق ثم قالت له:
- يا بني افهم, جدايل زوجتك..
قاطعتها ضحكته العصبية الساخرة وهو يهتف :
- تعنين رؤى زوجتى, أليس كذلك!
عادت تتنفس عميقًا من جديد مُستعينة بعصاها تلقى ثقل جذعها عليها قبل أن ترد بهدوء لا يتناسب مع الضيق الذى يعترى دواخلها:
- نعم رؤى زوجتك, كانت وحيدة جدًا يا ولدى بعد أن فقدت والدتها أيضًا, وعمها وزوجته حياتهما مستقرة خارج مصر, رؤى زوجتك هى من هاتفته وهى تبكي راجية إياه أن يأتى ولو لزيارة قصيرة ليساعدها على نقل والدتها إلى الشقة الجديدة التى أجبرتها إحدى جاراتها على الانتقال إليها وقد سئموا صراخ أمها كل ليلة, لذلك ترك عمها وزوجته أولادهم هناك وجاءوا إليها ولكن للأسف بعد انتقالهم بيوم واحد هربت والدتها عائدة إلى شقتها القديمة وهناك ماتت مُحترقة أعاذنا الله, كانت الفتاة ضائعة تمامًا وبالأخص وهى تعلم بأن عمها وزوجته سيعودان مرة أخرى بعد فترة قصيرة وستصير وحدها تمامًا, أنت وبناتك كنتم آخر أمل لها فى الحياة فماذا كنت تريدنى أن أفعل, أتركها وقد وصتني عليها هالة رحمها الله؟.
دون أن يرى وجهها شدد مُساندًا على كتفها بعد أن أحاطه بذراعه, كان يعلم أنها تبكى فى هذه اللحظة تأثرًا بما تقوله المرأة من حكايا عن تلك الرؤى, كم من أبوابٍ مُغلقة يحصُل خلفها ما لا يُمكن تصديقه, منه ما ينسل من أسفل بابها, ومنه ما يُحكى على العلن, ومنه ما يُؤسَرُ بقلوب تموج به وحدها, قلوبٌ رأت كل شىء, حتى مات فيها كل شىء, تلاطم الحديث العاصف أجبر بلالًا على الخروج من تأملاته وهو يسمع هشام يهتف بدهشة:
- معنى هذا أنها هى من كانت تكتب وتُرسل تلك الرسائل إلى المجلة, ولكن كيف لها بتلك الأسرار, هل هالة تزورها بالفعل, هل أجبرتها, هل اختطفتها كما توعدتنى, هل هى فى خطر الآن؟ ماذا يحدث لي, كلما حللتُ عقدة تُسرع إلي حياتى أختها؟!
أنهى كلماته وهو مُمسكٌ برأسه, يشعر به على حافة الانهيار, لم تستطع والدته كتم فضولها, سألته بترقب خوفًا من انفجاره عن تلك الرسائل التى يتحدث عنها, ترك جسده ينزلق كورقة فى مهب الريح إلى الأرض الباردة مُستندًا بظهره إلى الباب المُغلق, الغليان الذى تضج به عروقه جعله لا يشعر بتلك البرودة القارصة التى بدأت تلف الحجرة أكثر فأكثر كلما غربت الشمس وهو يقص عليها ما أراد أن يُخفيه من قبل, وكلما توغل بين غابات حكاياته كلما تململ بلال فى وقفته وهو يناظر عبير وكأنه يسألها النصيحة, الأمر بات مُحرجًا بالنسبة لهما كثيرًا, هشام يقول أشياء تُسَود فيها صفحاتٍ كِثار !, لولا استناد هشام وهو فى تلك الحالة لباب الحجرة لسحب زوجته وخرج منها دون أن يلتفت لرفض المرأة وتشبثها بـ عبير, هذا الزوج المُتعَب يُثير عجبه لا إعجابه, لو كان ذو فطنة ولو قليلاً لما كابد كل تلك المعاناة !.
انتبه فى تلك اللحظة على صوت زوجته المُشبع بالبكاء وهى تسأل بقلق على رؤى وبجفاء موجه نحو هشام وحده, وكأنها تعرف رؤى منذ سنوات غابرة وتنافح عن قضيتها:
- هل سنجلس هكذا نُضيع فى الوقت بأحاديث ليست ذات أهمية, ولا نعلم مصير الإنسانة المُختفية منذ الصباح وحتى الآن؟
تمتمت والدة هشام وكأنها لا تتعلم أبدًا دروسها:
- كنت على حق عندما ظننت أن روحها تسكن الشقة!
اتسعت عيناها شيئًا فشيئًا وهى تُتابع بصدمة:
- معقول, هل من المُمكن أن تكون أخذتها معها تحت الأرض؟!
شهقت بصوت مسموع عندما علت طرقات عصبية على باب الحجرة, تحرك بلال مُسرعًا وهو يساعد هشام على نهوض مُمسكًا أياه من كتفيه, فُتِحَ الباب ودلفت المُمرضة على عجلة من أمرها تسألهم الرحيل, فهناك حالة أخرى تنتظر.
***
سرت بعض الهمهمات فى المقعد الخلفى للسيارة بين عبير ووالدة هشام, بينما ولدها يجلس صامتًا بجوار بلال بداخل سيارته, اضطر للموافقة وقد ألح بلال على أن يقلهما بسيارته إلى المنزل, الآن وقد استوت الأمور برأسه أكثر من ذى قبل وبدأ يهدأ ويُفكر بعقلانية منطوٍ على نفسه يستند برأسه إلى زجاج النافذة المُغلقة بجواره, لا مفر أمامه من استكمال البحث عنها, بل لا مفر من العنوان التى أعطته والدته إياه وهى تقول له بعفوية:
- هذا عنوان شقة رؤى القديمة التى هجرتها بعد أن احترقت فيها والدتها.
عنوان أثار بعض مخاوفه, ذكره بما قرأه من خلال بريد بين الناس, وهى تتحدث عن الشقة وعمن يسكنها من أشباح من كانوا يسكنوها يومًا وهم أحياء, والدتها, والدها, هالة التى تعدهما بالشر!, وسؤال حول رؤى يخشى الإجابة عنه منذ أن استقل السيارة, ترى هل مازالت حية؟.
بدأت قطرات الأمطار القليلة تُقبل زجاج السيارة الأمامى وهو يُراقبها وكأنه يحصيها, أخرجه صوت بلال الهادىء من حساباته عندما سمعه يتساءل:
- علمت بأنك حررت محضرًا لذلك النصاب عبد الفتاح, فهل هناك جديد؟
تنحنح هشام ليجلى حنجرته صارفًا أفكاره بعيدًا قليلاً عن عقله الآن :
- المحامى أبلغنى بأن الرجل حُرر ضده محاضر كثيرة من قبل وجاري البحث عنه, حتى عنبر التى لم تظهر سوى بعد أن علمت أن والدتى بخير, عندما قبضوا عليها لم تستطع أن تدلهم على مكان سكن مُحدد له وما زالوا يحتجزونها لديهم حتى الآن.
أومأ بلال برأسه, وهو يُحاول فتح أحاديث جانبية مع هشام حتى يصلوا إلى منزله, لقد استطاع أن يقرأ عينيه ونظراته المضطربة ووالدته تمنحه عنوان الشقة المهجورة وتحدثه عنها, لذلك أراد صرف أفكاره لبعض الوقت ليتمالك جأشه ولو قليلًا, ليستطيع المواجهة, لا مواجهة الموقف, بل مواجهة مخاوفه!, فالمخاوف لا قيمة لها دون أن نؤمن بها, ونُصدقها !.
- ياسين جارك فى نفس البناية, أليس كذلك؟
- نعم
ابتسم بلال وهو يُدير عجلة القيادة قائلاً بثقة:
- هذا يؤكد لي أن المحامى الذى تتحدث عنه هو فارس سيف الدين
التفت هشام نحوه بابتسامة صغيرة متسائلاً:
- كيف عرفت؟
ضحك بلال بخفة وهو يُجيب ببساطة:
- ياسين يُحب (فارس) جدًا ويجمع له الزبائن من كل مكان
ابتسامة ضائعة ارتسمت على شفتيه وقد بدا الاهتمام يظهر على نبرات صوته:
- هل تعرف الأستاذ فارس؟
ظهرت التسلية على ملامح بلال وهو يقول بحماس:
- صديقى منذ سنوات, منذ أن كان مُضطرًا على مواجهة الشياطين هو أيضًا, ولكنها كانت شياطين الإنس, وصدقنى هؤلاء من يستحقون خوفك بحق, سأحكى لك قصته فيما بعد, بعد أن ننتهى من أشباحك الخاصة .
أنهى كلماته وهو ينظر فى المرآة أمامه يُبادل عبير النظرات بابتسامة وهو
فى هذه اللحظة كانت والدة هشام تمد يدها واضعة إياها على كتف ولدها من الخلف وهى الأعرف بحاله فى تلك اللحظة قائلة:
- سأذهب معك إلى هناك لا تقلق
** شخصيات فارس وبلال وعبير ومهرة أبطال رواية سابقة بعنوان – مع وقف التنفيذ -
حرك هشام رأسه نفيًا وقبل أن يجيب سمع (بلال) يتدخل قائلاً بحسم:
- لا يا خالة, سأقلك أنت وزوجتى لبيتك وسأذهب أنا مع هشام
ثم وجه حديثه إلى عبير مُذكرًا أياها:
- حبيبتي, لا تنسي أن تهاتفى أختك لتطمئنى على الأولاد وتُعلميها أين أنت
أدار هشام رأسه نحوه بنظرات مُستنكرة, هل يقول لها حبيبتى أمام الناس؟, هكذا ببساطة وكأنه يناديها باسمها !.
أوقف بلال السيارة أمام البناية وما زالت قطرات المطر الخفيفة تداعب وجهه عندما ترجل هشام من السيارة صاحبها فى تلك اللحظة صوت آذان المغرب يصدح من المسجد القريب, دار حول السيارة من الأمام ليواجه (بلال) الذى ترجل هو الآخر مُوصدًا بابها خلفه, مُستندًا إليه وهو يُراقب خطوات زوجته إلى أن اختفت داخل البناية ثم استدار تجاه هشام واضعًا يده على كتفه وهو يقول بأريحية وكأنه صديق قديم:
- نُصلى المغرب ثم ننطلق إلى هناك, سنجدها إن شاء الله, لا تقلق؟
أومأ هشام موافقًا وهو يشعر بالأُلفة معه, بينما كان قلبه يُعاتبه مُتسائلاً عن آخر مرة دخل فيها المسجد مُصليًا؟!.
عندما انتهت الصلاة وخرجا من المسجد ركضا إلى السيارة وقد بدأ المطر بإرسال زخاته إلى الأرض مُعلنًا عن انتهاء وقت الدعابة ببرق يصحبه رعدٍ شق السماء المُظلمة, كظلمة مخاوفه التى لم تنطفىء نجومها بل تومض بقوة اعتقاده بها.
الشارع المُظلم الذى ولجته السيارة بمساعدة مصابيحها والذى لم يكن خاليًا تمامًا من المارة, مازال البعض يدخلون إلى البنايات فيه جريًا تجنبًا للمطر والبرك التى صنعت لنفسها زوايًا حيوية منه كفخاخٍ للبشر.
أوقف بلال السيارة جانبًا ببطء وحذر إلى جانب السيارات المرصوصة والمُغطاة منها إلى جانب البناية المقصودة تمامًا, ترجلا من السيارة سريعًا قاصدين مدخلها مباشرة قبل أن تبتل ملابسهما بالكامل, الأضواء القادمة من الطابق التالى هى التى كانت تمد غالبية الطابق الأرضى حيث شقة رؤى بالإضاءة, فالمصباح الخاص به مُغطى بالغُبار وإضاءته ضعيفة للغاية, رعشة صدمت أوصاله عندما وقعت نظراته على الشقة المنزوية خلف السُلم قليلاً حيث ظلال الأضواء تقع على جزء منها صانعةً ظلالاً خادعة للنظر, رائحة الفُلفُل الحارق مخلوطًا بروائح أخرى مُغلفة بالغُبار تصل إلى أنفهما بشكل مُزعج, تحولت نظرات هشام إلى بلال الذى يقف بجواره يتأمل المشهد بتفاصيله وقال بضياع وكأنه تذكر للتو أن لكل شقة مفتاحًا يخصها:
- كيف سندخل ؟
مط بلال شفتيه وهو يضع يديه على خاصرته متسائلاً وهو يُقيم الباب بنظره:
- ما رأيك, نكسره؟!
بعد ما يقرُب من نصف ساعة كان هشام يُمسك بمفتاح الشقة بين أصابعه المُرتعشة وهو يقترب بحذر من الباب مُتحليًا بشجاعة ظاهرية, بينما بلال بجانبه يسانده بنظراته ويومئ له برأسه, ومن خلفهما ببضع خطوات تقف فتحية صاحبة البناية وبجوارها زوجها بعد أن كانت رافضة أن تمنحهما المفتاح خوفًا من خروج اللعنة إلى بقية الطوابق وطوال الدقائق الماضية وهما يتجادلان معها فى محاولة إقناعها ولكن لاجدوى, لولا تدخل زوجها الذى قلق بالفعل على رؤى بعدما علم بأنها غائبة منذ الصباح وزوجها يبحث عنها, وهاهو وبعد معاناة معها يقف بصحبتها خلفهما فى انتظار النتيجة .
دفع هشام الباب بحرص ففتحه على مصراعيه أثناء ما كان بلال يهمس له بتحرج وهو يُفكر بأنها لو كانت بالداخل فبالتأكيد ستكون مُتكشفة ولو قليلاً:
- هل تريد أن تدخل أنت أولاً؟
ابتلع هشام غُصة بحلقه الجاف وعيناه تحاول اختراق الظلام بالداخل, فى محاولة ضعيفة للإجابة ولكنه لم يستطع نطق كلمة واحدة عندما تسلل إلى سمعه همهمات آتية من الداخل, وفجأة ودون مقدمات, دوت صرخة جعلت فتحية تقفز بين ذراعي زوجها الذى تمتم بالاستعاذة على الفور وهو يتراجع بها خطوة للخلف كرد فعل غريزي, أما هشام فلقد انزلقت حرفيًا كُتلة من الثلج من أعلى ظهره وحتى نهايته وصولاً لقدميه, والبسملة لا تُفارق شفتيه, إلا أن خارجه كان صامدًا كرجل أمامهم دون أن يسمح لقدميه بخذلانه, عندما شاهد (بلال) يتخذ خطوات ثابتة للداخل تبعه دون تفكير, يداه تتحسس الجدار بترقب فى انتظار شىء ما سيقبض عليه فى أية لحظة, فجأة أُضيىء مصباح الردهة فالتفت ليجد (بلال) يرفع يده من فوق زر الإضاءة خلف باب الشقة مباشرة ثم قال بخفوت:
- اعتياد أعمال الكهرباء تنفعُ أحيانًا
زفر براحة وهو يدور ببصره بين أركان الشقة ورُكام الأتربة الذى علا كل شبرٍ منها يُخلخل ظنونه بوجودها هنا من الأساس, فى الاتجاه الآخر غرفة مُحترقٌ جزء من بابها ومتهالك للغاية, عندما نظر بداخلها, حيث الجدران المُحترقة السوداء, شعر بأنه داخل غرفة خُصصت لتحضير الأرواح كما كان يُشاهد فى بعض الأفلام القديمة, لم يُدرك أن لسانه يُتمتم بما يدور بذهنه فى تلك اللحظة إلى عندما سمع بلال يقول مُعقبًا:
- الأرواح التى يقبضها ملك الموت عند انتهاء أجل أصحابها تذهب إلى عالم البرزخ, ولايستطيع أحد إحضارها من هناك
رفع هشام عينيه إليه بصمت يلاحقه اهتزاز مُقلتيه, فتنهد بلال بعمق وهو يُجادل بنظراته عيني هشام المُتشككتين, أصنام الجاهلية هُدِمت بقلوب من كفروا بها قبل سواعدهم, فهل تقدر قلوبنا اليوم على كسر أصنامنا الخاصة؟!
حاد هشام بنظره بعيدًا نحو الممر المؤدى لغرف النوم, لم ينتظر هذه المرة نظرة تشجيعية من بلال, رجولته أبت ذلك, وفكر كما فكر بلال من قبل باحتمالية وجودها بالداخل مُتكشفة, إن كانت موجودة من الأساس, مرت عيناه سريعًا على الغرفة الأولى, فارغة سوى من أثاثها فقط, لفت انتباهه خف منزلي موضوع بعناية فوق الأرضية المُتغبرة أسفل الفراش فى انتظار قدمي صاحبه, سرت قشعريرة فى جسده واستكمل ازدراد ريقه وهو يستكمل سيره للغرفة الأخيرة, كانت مُغلقة, وقبل أن يمد يده ليتناول مقبضها ويعتصره ألقى نظرة للخلف, وشعوره بتلك الإنقضاضة الخلفية يلازمه دومًا فى كل حركة يقوم بها, دفع الباب فجأة وهو يقف على عتبته كما فعل مع باب الشقة ونظرة واحدة إلى الداخل جعلته يهتف بلوعة وهو يراها مُلقاة على الأرض شاحبة الوجه:
- جدايل !
***
انحنت عبير وهى تُطعم الفتاتين وتُداعبهما بينما والدة هشام تجلس أمامها وتناظرها بامتنان شديد, منذ يومين وهى لاتفارقها إلا لساعات قليلة, طلبت من ياسين تأجيل جميع مواعيدها فى المركز الصحى, وتظل معها هى وأولادها فى بيتها من بعد الظهر وحتى يأتى زوجها ليلاً ليقلها وأولادهما إلى المنزل, زوجها الذى لم يترك هشام منذ أن وجدا رؤى فى شقة عائلتها القديمة مُلقاة أرضًا شاحبة كالأموات, وفى المشفى ازدادت حيرتهما عندما قال الطبيب:
- صحتها جيدة, مجرد هبوط لا أكثر إلا أنها لا تريد التحدث مع أحد !
وعندما دخل هشام إليها فى حجرتها بالمشفى لم تنظر له وظلت عينيها معلقتين فى الفراغ, وحين أمسكها من كتفيها ارتعشت ونفضت يديه بقسوة وكأنه أخرجها من مكان تحبه عنوةً, ولما ناداها باسمها المُحبب:
- جدايل
ظهرت على وجهها ابتسامة لا حياة فيها, ابتسامة تشفي, وتجمدت نظراتها بجفاء داخل عينيه وهى تُحرك شفتيها الباهتتين وتهمس بنبرة خافتة شرسة :
- جديلتك هذه تركتها لـ هالة كما تركت أمى للنار
لم يملك بعدها إلا أن ينصاع لنصيحة بلال عندما قال له:
- زوجتك تحتاج إلى مصحة نفسية, أنا أعرف طبيبًا نفسيًا جيدًا يعمل فى واحدة
وتم نقلها إلى المصحة ومن يومها وحتى الآن وهى تخضع لجلسات نفسية لتحديد نوعية مرضها المجهول هذا, ولقد كان من المستحيل تحديد هويته دون أن يعرفوا ما حدث لها بالضبط وهل لها تاريخ مرضى أم لا ؟, كانت الخيوط مُبعثرة, ومهمة الطبيب فى جمعها كانت صعبة للغاية, منحته والدته رقم هاتف عمها فى الخارج وعندما علم بحالتها وعدهم بالحضور السريع قدر ما يستطيع .
رفعت والدة هشام رأسها التى كانت مُستندة بها على رأس عصاها وهى تقول موجهة حديثها نحو عبير مقاطعة حديثها الذى كان من طرف واحد مع الطفلتين:
- لا أعرف كيف أشكرك أنت وزوجك يا ابنتى على كل ما فعلتماه معنا
أرسلت عبير تنهيدة ناعمة وهى تلتفت نحو والدة هشام وتُجيب وكأنها لم تسمع شكرها الذى تكرر كثيرًا على سمعها منذ أن حضرت صباح اليوم:
- خالتى, جنى و لُجين تحتاجان إلى بيئة مختلفة, أشعر أنهما منطويتان أكثر من اللازم, هما فى حاجة للاختلاط أكثر بأطفال, الروضة مهمة بالطبع ولكنها لا تكفى.
زمت المرأة شفتيها وهى تتأوه بيأس قائلة:
- النصيب يابنتى ماذا نفعل, ليس لدينا فى أسرتنا أطفال فى عمرهما, أبناء عمتها الوحيدة كِبار, وكذلك أبناء أخوالها, بالإضافة إلى أن العلاقات لم تكن تسمح بالزيارات من الأساس
نهضت عبير جالسة بجوارها وهى تربت على كتفها مُقترحة بجدية:
- مارأيك يا خالتى, لقد تحدثت مع مُهرة صديقتى عنهما وهى طلبت مني أن أصطحبهما لزيارتها بعض الوقت يوميًا
- هل هى طبيبة تخاطب أو ماشابه؟
قالت عبير وهى تُلوح بيدها بحماس مبتسمة:
- أكثر من هذا, مُهرة لديها طاقة لا تنفد مع الأطفال, أطفال الحى لا يُغادرون بيتها, إلا إذا حضر زوجها من عمله أو طردتهم هى لتستذكر دروسها فهى ما زالت طالبة جامعية .
صمتت والدة هشام لتفكر فى الأمر, وعيناها مُعلقة بالطفلتين الجالستين بهدوء لا يتناسب مع أعمارهما فى هذا السن, ثم أومأت برأسها موافقة لها, ولم لا, ربما تتغير نفسيتهما عندما يعيشان بعض أجواء المرح لبعض الوقت فى بيئة أخرى صحية, بعيدًا عما يُعانونه جميعًا هذه الأيام . عرض أقل
النهاية
-2-
جلس عمها أمام الطبيب المُعالج, هو القريب الوحيد لها, هو فقط من يعلم عنها ما لم يعلمه غيره, حمد الله أنه استطاع الحصول على مقعد فى الطائرة المتوجهة إلى القاهرة فى اليوم التالى مباشرة من مكالمة هشام له, وهاهو الآن يجلس برزانة أمام طبيبها وساعده يرقد بأريحية فوق حافة مكتبه وهو يجيب عن أسئلة الطبيب بصدق:
- نعم, بالرغم من تواجدى خارج البلاد بصفة مستمرة نظرًا لظروف عملى واستقرار أولادى فى دراستهم هناك إلا أننى كنت أتواصل هاتفيًا كثيرًا مع أخى رحمه الله وأعلم الكثير عنهم, والدتها رحمها الله منذ أن تزوجها أخى وهى تعانى من مرض الوسواس القهرى, وعندما حاول أخى أن يعرضها على طبيب رفضت بشدة واتهمته بأنه يريد وضعها بمشفًى الأمراض العقلية, وقد كان رحمه الله يُحبها بشدة لذلك قرر أن يُعالجها بنفسه .
وكان هذا أكبر خطأ ارتكبه فى حقها دون قصد, فبعد أن بلغت جدايل الخامسة عشر من عمرها زادت الوساوس لدى والدتها, بدأت تكره ابنتها وتقول بأنها تريد قتلها وهى نائمة, كانت تكره اسم جدايل بشدة ليس لأنه اسم حماتها فقط بل لأنه كان اسم التدليل الذى أصبح وكأنه هو الاسم الرسمى لـرؤى, الاسم وحده كافٍ ليجعلها تنزعج حتى بدأت تُفصح عن وساوسها بوجه رؤى وتقول لها دومًا بأنها ستقتلها وبأنها تكرهها لأنها دميمة وعيناها رمادية تُشبه عيون الأموات, وبالرغم من أن رؤى ليست دميمة على الإطلاق إلا أن معاملتها كدميمة جعلتها تعتقد ذلك بل وتخاف من لون عينيها المُميز أيضًا .
كان خطئي أنا, فقد رأيت حالتها تسوء بعد موت أخى رحمه الله ولم أفعل شيئًا لها أو للفتاة المسكينة, بعد أن انتهى العزاء ذهبت إليهما لأودعهما قبل سفرى وسمعتها تشتمها بكلمات بذيئة وتتهمها بأنها قاتلة والدها, وبالرغم من ذلك سافرت وتركتهما وتخليت عن مسؤوليتهما بدعوى أن هاتفى معهما لو احتاجانى بشىء ضرورى سأكون عندهما فى اليوم التالى, بعد أشهر قليلة هاتفتنى جدايل و..
قاطعه الطبيب الذى كان يُدون بعض الملحوظات فى دفترٍ خاص قائلاً بتنبيه:
- من فضلك, لا أحد يُناديها بـ جدايل بعد الآن, من الواضح أن لديها إشكال مع هذا الاسم
أومأ له عمها بالموافقة دون أن يُعلق فأشار له الطبيب بأن يستكمل بما يعرفه عنها فقال مُردفًا:
- بعد أشهرٍ قليلة هاتفتنى رؤى وطلبت مني الحضور بشكل ضرورى لأن والدتها حالها تبدل من سيء إلى أسوأ والجيران يُريدون طردهما من الشقة لأن والدتها كانت تصرخ طوال الوقت فكانت تُفزع أطفالهم, وقالت لي وقتها بأن جارة لها لا أذكر اسمها منحتها شقة أخرى بالإيجار فى مكان قريب من شقتها القديمة ولكن والدتها ترفض الرحيل وترك الشقة, تأخرت فى الحضور أسبوعًا كامًلا وعندما وصلت كانت والدتها حاولت أن تحرق نفسها ولكن رؤى منعتها فى اللحظة الأخيرة وسمعتها تشتمها ثانية ولكن هذه المرة كان سبًا مؤذيًا للغاية حتى أن رؤى انهارت فى بكاءٍ شديد وهى تقول " ليتني تركتك للموت " .
فى نفس اليوم اقترحت على رؤى أننا يجب علينا البحث لها عن مشفى أو مصحة للعلاج بعد أن تنتقل إلى الشقة الجديدة ورؤى وافقتنى على اقتراحى, وبالفعل أجبرتها بالقوة على ترك الشقة وذهبت بهما إلى الشقة الجديدة, فى نفس الليلة استيقظت فزعًا على صوت انغلاق قوى لباب الشقة, بحثت عنهما فلم أجدهما, فتوقعت أن والدتها هربت وهى لحقت بها, ذهبت فى إثرهما بعد أقل من عشر دقائق فوجدت الجيران مجتمعين أمام البناية وبعض من الرجال يحاولون كسر الباب والدخان ينسل من أسفله بكثرة, وبعد كسره وجدنا والدتها مُتفحمة بالكامل فى غرفة المكتب و رؤى تقف فى الردهة فى حالة صدمة وانهيار, وسقطت بين ذراعي بمجرد أن لمست كتفها .
أنهى كلماته وهو يحرك رأسه بدهشة مُعلقًا:
- هل تعلم يا دكتور أن غرفة المكتب كان بابها مفتوحًا على مصراعيه وبالرغم من تخبط المرأة وهى تحترق إلا أنها لم تخرج منه
وضع الطبيب قلمه فوق الدفتر وهو يسأل باهتمام:
- لماذا تقول رؤى إنها قتلت أمها, هل وجهت لها الشرطة أي اتهام أو ما شابه؟
حرك عمها رأسه نفيًا وهو يميل للأمام قليلاً ويجيب قائلاً:
- الجيران فى البناية المقابلة قالوا بأنهم رأوا النيران من نافذة غرفة المكتب قبل أن تصل رؤى بدقائق
أغلق الطبيب دفتره وهو يستند إلى سطح المكتب بمرفقيه وهو يقول بجدية:
- سنحتاجك هنا معنا لبعض الوقت
ظهر عدم الارتياح على وجه الرجل ومشاعره تتخبط بين الواجب وعمله وأسرته فى الخارج, ليس لديه الكثير من الوقت, يومان آخران وسيضطر للعودة, قطع أفكاره طرقات على الباب من الخارج يعقبها دخول هشام بملامح لهفة مُتوقةً إلى أخبار جيدة, حياه الطبيب وهو يفتح دفتره قائلاً:
- يبدو أننى سأعتمد عليك وحدك يا أستاذ هشام فمن الواضح أن عمها ليس لديه الكثير من الوقت
ثلاث نظرات تقارعن فيما بين أعينهم بين ثلاثتهم فقط ..
نظرة للخذلان ونظرة للأمل ونظرة للمجهول !
خلال الأيام السابقة تغيب عادل ليومٍ واحد فقط, أنهى فيه انتقال جدة زوجته إلى بيته وفعل ما كان ينتويه بخالها الحقير ولم يتركه من قبضته إلا وهو كاره للعالم وللنساء خاصة, ثم عاد للعمل بعد ذلك ليتولى أمر غياب هشام عن العمل أثناء انشغاله مع زوجته والأطباء والذهاب للمصحة النفسية كل يوم وهو يقوم بعمله بدلاً عنه, وقد قص عليه عادل ما قالته له رؤى زوجته فى القطار, وبأنها قالت من بين اعترافاتها المتوالية بأن والدة هشام علمت بالخلط الذى حدث بينهما واخبرت به جدايل, وتكتم الثلاثة الأمر فيما بينهم دون اتفاق حقيقي ولذلك ظهر الشحوب والإرتباك عليهما عندما ذهب هشام لزيارة عادل فى منزله وتقابلت جدايل مع رؤى زوجة عادل للمرة الأولى منذ زواجهم, وكان تصرفًا ارتجاليًا من كلتيهما أن يظهرا وكأنهما تتعارفان للمرة الأولى, وعندما اختلتا ببعضهما فى الغرفة الداخلية حدث أول اتفاق حقيقي بينهما على ألا تخبر كل منهما زوجها بما حدث وليبق السر سرًا للأبد ما دام إفشاؤه سيُسبب ضررًا للجميع .
***
استطاع الطبيب أخيرًا أن يجعلها تثق به وتتحدث إليه عما ترى وتسمع والأشياء التى تتراءى لها مِن دون مَن حولها, كان حديثها هو الخيط الأخير والذى استطاع من خلاله الطبيب ربط جميع الأحداث ببعضها البعض وإعطاء تشخيص نهائي لحالتها المرضية, وبداية علاجها بشكلٍ صحيح, حينها حضر هشام فى الموعد الذى حدده له الطبيب سابقًا وجلس إليه وبدأ يشرح له حالتها بشكل مُبسط يستطيع أن يفهمه وقال:
- زوجتك لديها حالة فصام, ومريض الفصام يُعانى من نوبات هلاوس وهذيان وضلالات تفصله عن الواقع تمامًا وتجعله مؤمنًا جدًا بما يرى ويسمع من أشياء عجيبة وغير واقعية, كأن يُقابل أُناسًا غير موجودين على الإطلاق ويتحدث إليهم, ويكون مُقتنعًا بما يقولونه له, حتى لو قالوا له بأنه نبي أو رسول .
مَسد هشام رأسه ثم جعل يناظر الطبيب بنظرات ضائعة يتكسر عندها الإدارك وكأنه لم يفهم ولو كلمة واحدة مما قال وهو يقول:
- لا أفهم, متى حدث لها هذا؟!, إنها كانت بخير وطبيعية جدًا, أنا أعرف أن الذى يُصاب بهذا المرض يكون له شخصيات متعددة ويتقمصها وأنا لم ألحظ شيئًا من هذا
ابتسم الطبيب ابتسامة من كان يتوقع سؤالاً كهذا وهو يُضيف موضحًا:
- ما تتحدث عنه يُسمى الانفصام أو تعدد الشخصيات وهذا مرض مختلف عن مرض الفصام الذى تعانى منه زوجتك, مريض الفصام لا تتعدد شخصياته هو فقط يعيش فى ضلالاته وهلاوسه, ولو تُرك بدون علاج ستتفاقم حالته ومن المُمكن أن يؤذى نفسه و من حوله أيضًا .
غرز هشام أصابع يديه فى جانبي رأسه حتى التقيا من خلفها واستند بظهره للمقعد وهو ينظر للطبيب الذى أدرك محاولات هشام للإستيعاب فعدل من وضع نظارته فوق عينيه وهو يشرح أكثر قائلاً:
- مما سمعته عن والدة زوجتك يتضح لي بأنها كانت تعانى من هذا المرض, والضلالات التى كانت تعانى منها كانت تجبرها على كُره ابنتها وتقول لها دائمًا بأنها ستقتلها لذلك كانت تردد هذه الكلمة دائمًا على مسامع رؤى منذ سنوات, وعندما مات أبوها أمام عينيها ظلت والدتها تُقحم بعقلها أنها قتلت والدها, وبدأ الوسواس القهرى عند زوجتك بتلك الفكرة, أنها قتلت والدها, وكانت والدتها تُغذى المرض فيها بتلك الكلمات حتى هربت من الشقة الجديدة وذهبت للشقة القديمة لتحرق نفسها هناك وعندما لحقت بها رؤى ورأتها وهى تحترق وتموت حدثت لها صدمة عصبية ووقفت مكانها ولم تتحرك, وأنا على يقين من أن الضلالات بدأت تستفحل أكثر فى تلك اللحظة وتُقنعها بأنها قتلت والدتها بالفعل لأنها تركتها تموت رغمًا عنها ولم تتدخل لإنقاذها بالرغم من أنها كانت مُصابة بصدمة وقتها, أتعلم أنها حكت لي بأنها رأت هالة فى القبر وهى توصيها على ابنتيها؟
رفع هشام رأسه متشككًا وقد قطب بين حاجبية بشدة فأومأ الطبيب مُردفًا:
- أكاد أُجزم أنها كانت أول نوبة هلاوس تمر بها, وبداخلها كانت على يقين أن سبب انقطاع هالة عن زيارتها المتوالية فى الروضة هو موتها.
- وهل كانت هالة رحمها الله تزورها دائمًا؟!
- قالت بأنهما كانتا تلتقيان بشكل مُستمر, وفى كل مرة كانت هالة تُفضفض معها ببعض من همومها القديمة وكانت رحمها الله توصيها بأن تُبقيها سرًا بينهما فقط, مُعظمها كانت أشياء تخصك يا أستاذ هشام ولكنها كانت تعدها بأنك ستتغير وستُعاملها بأفضل مما كنت تتعامل مع هالة, لأنك لم تكن تُحبها, وفى أحد هذه اللقاءات قالت لها هالة بأنها كانت تنوى بعد أن علمت رحمها الله بإصابتها بذلك المرض الخبيث إرسال حكايتها لبريد " بين الناس " ليتعظ الأزواج, ولكنها تراجعت خشية أن تقرأها فتجرحك الكلمات !
أطرق هشام برأسه وذكرياته القريبة والبعيدة تتناطحان فى مدارٍ ثابت, هكذا إذن علمت رؤى تلك الأسرار التى قرأها فى المجلة, وإلى هذا الحد كانت هالة رحمها الله كانت واثقة من أنه سيُحب رؤى, ولم لا وهى بنفسها كانت تُكرر تلك الجملة دائمًا عندما يتشاجرا, بأنه لم يُحبها ولن يشعر بالحب إلا مع غيرها, كان بداخلها ما يهمس لها بأنها ليست أهلاً للحب فى هذه الدنيا, إذن فلا وجود لشىء يسمى شبح هالة أو روحها عادت لتنتقم ممن أذوها وهى حية, جميع ما حدث كان من صُنع مرض رؤى النفسي وخيالاتها الضالة !.
نهض الطبيب من خلف مكتبه والتف حوله حتى وقف خلف مقعد هشام مباشرة ثم وضع كفه على كتفه من الخلف وهو يكاد يسمع ضجيج أفكاره فى تلك اللحظة ثم قال:
- رؤى كان لديها استعداد وراثى للمرض, ارتبطت بهالة للغاية وعاشت ألمها بكل جوراحها حتى أن جزء فى زاوية ما بقلبها حقد عليك لأنك كنت السبب الرئيسى من وجهة نظرها فى كل الألم الذي تراه مُتجسدًا فى هالة, تلك الزاوية المُظلمة أنت غذيتها عندما رفضتها, ذلك الرفض أكد بداخلها ما كانت تزرعه والدتها بأنها مرفوضة ودميمة, الصراع الحقيقي بداخلها بدأ عندما رأيتها فى شقتها الجديدة وأعجبتك وبدأت تتودد إليها, لم تكن تناديها سوى بـجدايل, شعرت بأنها تأخذ شيئًا كانت هالة محرومة منه وتبكى لأجله, وبداخلها كرهت جدايل !, نعم كرهت هذا الجزء من شخصيتها, الجزء المحبوب الذى سطا على شىء ليس له, وأعتقد أن بداية هذا الكره بدأ فى ليلة زفافكما عندما جسدت لها ضلالاتها صورة هالة وهى تبكى فى المرآة !.
التفت هشام إليه وهو يتذكر تلك الذكرى التى لسعته للتو بمجرد أن تكلم الطبيب عنها, يتذكر جيدًا الرعب الذى عاشه فى تلك الليلة, بسبب الفزع الذى ظهر على وجهها وهى ترتد إلى الخلف وتصرخ مُشيرة للمرآة, فهل كانت تُمثل قاصدة إرعابه؟!, نهض واقفًا بحدة وهو يتكلم بما اعتمل بصدره مُتسائلاً:
- هل كانت تعرف ما تفعله؟
سار الطبيب بخطوات رتيبة حتى وصل للمقعد المقابل له خلف المكتب وجلس بهدوء, كان ينتظر هذا السؤال من البداية, نفس السؤال الذى يتكرر على مسامعه كلما واجه حالة مُشابهة, فى كل مرة شيئًا ما بداخله يُخبره بأن التساؤل ليس بريئًا أو فضوليًا, بقدر ماهو استفهام لتحديد المشاعر التى سيشعرون به نحو مريضهم, هل سيكرهونه لإدراكه ما يفعل أم سيشفقون عليه لمرضه الذى نزع عنه التحكم, ألا يكفى ما يُعانى منه, ليجعلهم يتفكرون أكثر فى الأسباب التى أدت به إلى هذه الحالة, أم كل المهم فى تلك اللحظة معرفة مدى مسؤوليته عما يحدث, مثلهم مثل القضاة ليتم إصدار الحكم على أساس التقرير الطبى؟!, عندها شرد فى قول إحدى زميلاته الطبيبات لما كان يُناقشها عن مدى تعاون أهل المريض معها فقالت له مُجيبة تساؤله " لا يهمهم أن يُخرجوه من ظُلمته, بقدر ما يهتمون بمدى مسؤوليته عن إسدال الستائر السوداء " , رفع عينيه إلى هشام الواقف أمامه بشىء من التحفز وقال مُجيبًا وهو ينظر لعينيه بعمق وتركيز :
- هل تستطيع أن تشعر يا أستاذ هشام بمعنى أن صوتًا ما يظل يهمس فى عقلك ليل نهار بأنك سارق !, بأنك قاتل, بأنك تأكل فاكهة مُحرمة !, ولابد وأن تتعذب بها وتخرج من جنتك !,هل تستطيع الشعور بمشاعر المريض عندما يرى وحده أشخاصًا وهمية يدورون من حوله فى كل مكان يأمرونه بشىء ويقنعونه بتنفيذه, حتى لو هذا الشىء هو التخلص من حياته !, إذا استطعت الشعور بذلك فوقتها ستعلم الإجابة الصحيحة .
***
خرج هشام من حجرة الطبيب بعد قليل من المناقشات الأخرى عن حالتها ودوره هو فى الأيام المُقبلة, وقد توقف عقله عن طرح الأسئلة, وبدأ يأخذ منحنى آخر عن كيفية إخراجها مما هى فيه, وبداخله يقين بأنه هو المسؤول الوحيد, لابد وأن يتخلص من تلك النظرة الضيقة التى أهلكت الماضى وكانت فى طريقها لسحق الحاضر أيضًا, عندما وصل إلى حديقة المصحة النفسية وجد (بلال) ينتظره هناك, وبمجرد أن رآه قادمًا نهض واقفًا واقترب منه يربت على كتفه متسائلاً عن حالتها وهل استطاع الطبيب تشخيصها والإلمام بها أم لا, جلس هشام إلى الأريكة الخشبية بجواره وهو ينظر إلى المساحة الخضراء أمامه مًجيبًا بضمير مُعذب:
- زوجتى هالة رحمها الله كانت تقول لى دومًا والعبرة تخنقها بأننى سأحب من بعدها وسأتعذب بهذا الحب مثلما شَقيت هى بحبى, الآن شعرت للمرة الأولى بما كانت تشعر هى به رحمها الله
جلس بلال بجواره وهو يلتفت بجسده كلية تجاهه قائلاً:
- من الجيد أن نتعلم من أخطائنا السابقة ونتخذها زادًا لحاضرنا ومستقبلنا, لا أن نقتل أنفسنا بها, والدتك قالت لي ما رأته من بِشريات على وجه زوجتك الراحلة أثناء تغسيلها ولو كان الأمر كذلك فاعلم أنها الآن مُنعمة وقد نسيت كل أذى لحق بها فى الدنيا, وكأنها لم ترى شرًا قط فى حياتها, هكذا هى أرواح المؤمنين.
مال هشام بجذعه للأمام وقد ارتسمت ابتسامة تلقائية على وجهه وهو يقول مُستبشرًا:
- هالة فى أيامها الأخيرة لم تكن تترك ليلة إلا قامت فيها تُصلى حتى تتعب وتنام فى مكانها, عندما حملت نعشها كانت أخف ما يكون ورائحتها كانت طيبة للغاية لكننى وقتها كنت مشغول بمسؤوليتي الجديدة فلم أنتبه إلى كل تلك العلامات الرائعة
ابتسم ساخرًا من نفسه وهو يُعقب على حديثه مُتابعًا:
- الطبيب قال لي أنها كانت فى منتهى الذكاء عندما كتبت لي فى نهاية وصيتها
" أحذر غضبي " كانت تخشى على الفتاتين مني فكتبتها على سبيل التحذير وهى موقنة بأنني سأتوقف عندها كثيرًا, تصور يا دكتور بلال, أنا بالفعل صدقت أن روحها عادت لتنتقم مني ومن زوجتى ووالدتى .
تبسم بلال بدوره مُستندًا إلى ظهر الأريكة مُكتفًا ذراعيه فوق صدره وقال:
- ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الإنسان عندما يموت وتقبض نفسه تصعد بها ملائكة الموت إلى السماء ولا تهبط بها إلا عندما يدخل جسده القبر, فتُعاد روحه إلى جسده بكيفية لا يعلمها إلا الله, وتُجلسه الملائكة ليُسئل عن عمله ودينه ونبيه, لو كان خيرًا فستصبح روحه مُنعمة, وتلك الروح الطيبة المُنعمة لا تعود لتنتقم يا هشام, بل أكثر ما تستطيعه هو أن تاتى فى منام مُستبشرة تُبشر أحباءها بالخير, أما إذا كانت روح فاسق والعياذ بالله أو عاصى فروحه مُقيدة فى شغل بعذابها, كما هو السجين المُعذب لا يستطيع فكاكًا, والاثنان فى عالم البرزخ حتى قيام الساعة, وما نسمعه من حكايا حول رؤية روح أو شبح فلان الذى مات فهو إما أن يكون مجرد تخيلات أو أن الجن تشكل فى صورة ذلك الشخص لأي سبب كان, وهذا الأخير حله بسيط للغاية, سورة البقرة وينتهى كل شىء, لكن لابد أن نؤمن بذلك لا أن نفعلها على سبيل التجربة .
غلف حديثهما الهادئ المُتأمل انسياب زقزقة العصافير المُتناغمة بينهما وقد سطعت أشعة الشمس فى ذلك اليوم بالرغم من برودته التى تُعلن عن رحيل فصل المطر بكل ما فيه من شجن ووجع, تاركًا ذكريات دافئة لا يمكن محوها .
تنفس هشام بعمق قبل أن يُحرك رأسه مؤكدًا وهو يتذكر حديث صديقه عادل عن سورة البقرة, أدرك الآن لماذا لم يكن يحصد ثمارها, لأن كل ما كانت تراه رؤى هو محض عقلها فقط !, تغضنت زوايا عينيه عن ابتسامة حزينة وهو يتذكر كل الليالي التى جافاه النوم بها وهو يشعر بها حوله, وينسب لها كل فعل غامض مر به, حتى المرأة العجوز فى المتجر, تبًا للوهم !
- ألم تخشَ على نفسك يا دكتور ونحن نقف على باب الشقة ونفتحها؟
التفت إليه بلال بابتسامة مُتعجبًا من سؤاله المُتأخر جدًا, رفع حاجبيه بدهشة وهو يجيبه ملوحًا بيده ببساطة:
- ألم تسمعنى ونحن فى السيارة قبل المغرب وأنا أُهمهم بأذكار المساء كاملة وآية الكُرسي؟!, ثم إننا كنا على وضوء وقد صلينا المغرب فى المسجد فممن أخشى إذن؟!
تنحنح هشام بحرج وهو لا يعلم بماذا يُجيب, لقد كان وقتها فى عالم آخر يحارب مخاوفه وقلقه من كل شىء, فنهض واقفًا ليرحل مُعتذرًا, وعندما عرض عليه بلال أن يقله إلى حيث يشاء بسيارته, رفض شاكرًا إياه فهو يريد أن يسير وحده قليلاً, ليُحاسب نفسه ويضع يده على مواطن الزلل فيها .
سار بطيئًا وهو يتأمل الطريق المُعبد أمامه وكلمات الطبيب الأخيرة تُحلحل ثوابت ذكرياته عن زوجته وتتغلل به فى إنسانة أخرى لم يكن يعلم عنها كل شىء, كيف يمكن لامرأة أن تكره جزء من شخصيتها؟!, الجزء الذى حظى بحب والدها وكرهته والدتها, ثم حظى بحب هشام وتقبل والدته فلم لا تكرهه هالة؟ لابد وأنها كرهته ولابد وأنها تريد الانتقام مثل والدتها تمامًا !, جدايل تلك انتزعت كل شىء وسرقته من رؤى ثم من هالة فلابد وأن تختفى, أو ربما تموت !, هكذا قالت للطبيب وهى تعانى إحدى النوبات بينما هو يستدرجها, وهكذا حاول الطبيب شرح حالة رؤى له بكل ما يستطيع تبسيطه من معلومات عما يعتمل بوجدانها, لن يدفن رأسه فى الرمال كالسابق, سيقف بجوارها حتى تُشفى وتخرج من المصحة وقد تصالحت مع نفسها قبل أن تتصالح مع من حولها, ولكن هذا لايكفى, لابد وأن يقوم بالفعل ولو لمرة واحدة, لا أن تكون كل تصرفاته مجرد, ردود أفعال !. عرض أقل
النهاية
😚
بضعة أشهر أخرى خضعت رؤى خلالها للعلاج الدوائى والجلسات المُكثفة, منع عنها الطبيب الزيارات ليُجلي ذهنها من كل انفعالات متخبطة من الممكن أن تتعرض لها إذا رأت هشام أمامها, لم تكن الجلسات بنزهة خفيفة أو مجرد حكايات فهى فى الأصل لم تكن تعترف بأنها مريضة وبأن كل ما عاشته مع هالة بعد الموت كان هلاوس وضلالات, وأن كل ما رأته فى شقتها المهجورة كان من صُنع عقلها, رفضت وقاومت ورفضت الحديث بل ورفضت أن تفتح عينيها أثناء الجلسات وازدادت وتيرة النوبات, لذلك أصر الطبيب على بقائها فى المصحة وعدم خروجها حتى تبدأ تتعرف على مرضها, فلو أدركته على حقيقته لخطت خطوة كبيرة فى طريق علاجه, وكانت الأشهر الماضية كفيلة بذلك, استطاعت أن تفهم ماهية مرضها, طبيعته وطريقة التعامل مع نوباته وهلاوسه, مازالت تذكر الصفعة التى سقطت على وجهها عندما كانت بشقتها وسمعت الباب الخارجى يُفتح, وقتها كانت ترى هالة تُعذب جدايل, ولكن الآن أدركت أن تلك الصفعة كانت من يدها هى, وقد سقطت على وجهها هى أيضًا, وعندما بدأت ترى الأمور من منظور مختلف سمح الطبيب لها بالزيارة, وكان أول زائر لها هو هشام, كان يحمل لها مُفاجأتان, اختار أن يمنحها إياهما فى نهاية الزيارة لتكون خاتمتها سعيدة لها .
استقبلته ببرود فى حديقة المصحة الصغيرة, حتى أنها لم تبتسم لعينيه وهو مُقبل عليها بلهفة وشوق, كتفت يديها فوق صدرها بينما يمد هو يده ليصافحها, تجاهلت يده ونظرت فى الإتجاه الآخر وهى تقول بجفاء:
- لماذا لم تحضر معك جنى و لُجين, لقد اشتقت إليهما
جلس على مسافة غير قريبة منها كما نبهه طبيبها من قبل وقال بابتسامة:
- وهما أيضًا اشتاقا لكِ للغاية, سترينهما فى الزيارة القادمة بإذن الله
صمتا ولكن الكون لم يسكت, النسائم الباردة كانت تحوم حولهما تتلمس دفء أنفاسهما, وأصواتٍ قريبة مختلطة تتكسر أمواجها فى المساحة الشاغرة بينهما بدوى صامت كصمتهما الظاهري فقط, بينما هو لايجرؤ على الخطو فوقه أو تجاوزه, حتى استطاع إجبار نفسه على الخروج من خلف ذلك الصمت الساتر الذى يحتمي به, والذى تشققت قشرته الخارجية وصار يتهاوى بعد أن قال لها بخفوت:
- سامحيني, أنا لم أشعر بكِ كفاية
التفتت إليه دفعة واحدة بحركة حادة وصدرها يكتم أنفاسه رغمًا عنها بينما تتكلم من بين أسنانها بغضب خافت, يكاد يصل إلى الهمس:
- أُسامحك !, ومن أنا لأُسامحك, أنا حية, أعيش, أتنفس, لى إرادة القبول والرفض, أما من تستحق طلب السماح الحقيقي منها, ميتة, لا إرادة لها, تحت التراب, فلا هى تملك ان تُسامحك وترتاح, ولا هى تملك أن ترفضك وتُحيل حياتك إلى جحيم, ذهبت إلى ربها بألمها ووجعها الذى كنت أنت السبب فيه, بينما أنت تعيش حياتك وتتزوج وتُحب وتسعد, وتنساها .
رفعت يدها وهى تُشير إلى صدرها هامسة بحقد لا تعلم إلى من هو موجه فى تلك اللحظة لنفسها أم له أم للاثنين معًا:
- تتزوج من أخرى, تُحبها كما لم تحب هالة, تقول لها مالم تقله يومًا لهالة, تحميها وتُساعدها وتُسعدها وتفهمها كما لم تفعل مع هالة, أخرى سارقة, تُحب دومًا أن تأخذ ما ليس لها, تنعم به بأنانية بينما من تستحقه تصرخ وتصرخ وتصرخ ولا أحد يسمعها .
الكلمات الأخيرة خرجت عن حدود الهتاف, خرجت من حلقها بصراخ متألم يتلوى كعواء حيوان يحتضر, صراخها لفت الأنظار ولاحظ هشام الطبيب مُقدمٌ عليهما بخطوات سريعة وقد كان يُراقب الوضع من قريب, وعندما وقف بجوارها قال لها مُعاتبًا:
- ألم نتفق على أن نكون هادئين اليوم
شردت قليلاً قبل أن تقول بخفوت وهى تحيد بنظراتها عنهما:
- أريد أن أصعد لغرفتى
كاد هشام أن يناديها بـجدايل وهى تستدير لتنصرف ولكنه تذكر ما قاله الطبيب بأن لا يفعل, ليس قبل أن تتصالح مع ذلك الاسم مُجددًا, فناداها على الفور قبل أن تبتعد وهو يحث الخطوت نحوها:
- رؤى, مازال هناك شيء مهم أود قوله لكِ
حثها الطبيب على النظر إليه وعندما التقت عيناهما قال بحماس:
- لقد راسلت الأستاذ عبد الخالق مروان وهو وافق على مقابلتى, التقينا منذ أيام وتحدثنا عنكِ
نظرت له بتحفز ثم تبادلت النظرات مع طبيبها قبل أن تقول بترقب:
- عني أنا ؟!
أومأ برأسه والحماس لايزال يشوب نظرته ونبرة صوته وهو يجيبها:
- الرجل كان فى الأصل يبحث عن عنوانك أو شىء يتواصل به معكِ, وعندما علم بأننى زوجك رحب بمقابلتى جدًا, هو مُعجب جدًا بأسلوبك فى الكتابة إليه ويقول بأنك موهوبة ويريد التحدث معكِ شخصيًا, فهل تسمحين له بأن يُراسلك؟
اختلط الترقب الذى كان يكسو ملامحها بشكٍ وتكذيب لكل كلمة قالها فالتفت الطبيب نحوها وقال مؤكدًا لحديث هشام:
- حقيقي يا رؤى, والأستاذ عبد الخالق هاتفنى ليطمئن على حالتك وهو سعيد جدًا بتقدمك فى العلاج ويريد أن يُراسلك على بريدك الإلكترونى
رفعت كتفيها حائرة وما زال الشك يعبث بها وقالت بنظرات تائهة:
- ولكنى لا أملك واحدًا !
أشار لها هشام بيده أن تنتظر لثوانٍ, عاد سريعًا إلى الأريكة الخشبية حيث كانا يجلسان منذ قليل, حمل الحقيبة الجلدية التى تركها هناك ثم عاد إليها وقدمها لها وعيناه تترجاها لأن تقبلها قائلاً:
- هذا حاسوب محمول تستطيعين مراسلته عن طريقه,
ثم تابع بحرج بالغ ظهر جليًا فى حركة عينيه التى انخفضت قليلاً للأسفل ويديه التى لم تعد ممتدة باستقامة نحوها:
- صحيح هو مُستعمل, وليس به إمكانيات كبيرة, ولكنه يفى بالغرض
أشار الطبيب للممرضة أن تأتى لتصحبها ولكنها غادرت بخطوات مترددة دون أن تلتفت, أطرق هشام رأسه أرضًا بإحباط وقد كان يتوقع رد فعل مختلف على ما قاله لها, ولو حتى ابتسامة صغيرة تبثه الأمل, وضع الطبيب راحته على كتفه وسار إلى جواره لخطوات قبل أن يقول بتفهم:
- ما رأيته حاليًا هو أفضل بكثير مما كنت أتخيل, كنتُ أعتقد أنها لن تنظر إليك بالمرة ولن تتفوه بكلمة معك وستتجاهلك كليًا, ولكن التفاعل الذى حدث منها أيًا كان هو علامة مبشرة للغاية على تقبلها لك بحياتها, بل وتلومك أيضًا, وهو مؤشر قوى لبداية تسامح بقلبها تجاهك, اصبر قليلاً والتزم بما اتفقنا عليه فى كل زيارة قادمة ولا تتعجل خروجها من هنا .
***
كان يعلم جيدًا إلى أين تأخذه خطواته ذاك النهار, حيث الهدوء والصمت اللانهائى, حيث الماضى الذى يحن إلى أيامه, ويتمنى أن يمرق شيئًا منه إلى حاضره, الماضى الذى مر من بين أصابعه وهو عالق فى التمنى, مُنتظر أن تُحل مشاكله تلقائيًأ دون تدخل منه!, تلك المشاكل التى تلوى حلقه الآن بمرارتها حيث اللا أسف, اللا رجوع, حيث لا مفر من الوقوف أمام قبرها بخشوع, والدعاء المفروط من عِقد الدموع, مُحاولاً بجهد سحب أخطائه من فوق قمم جبالها, تحريرها من عقالها, ربما من بين ندباتها تظهر حلولها .
وقف أمام القبر لايدرى ماذا يقول, التصقت الكلمات بحلقه, منذ متى وهو يفكر قبل أن يتحدث إليها, أليس الحديث إليها سهلاً الآن؟!, فلماذا يهاب, لم يعد الآن وجود للحد الفاصل بينهما, الحد الوهمى الذى اكتشف أنه كان يبنيه بنفسه ويحرص عليه, ابتسم ساخرًا من نفسه وهو يهمس مُعترفًا بذاك لنفسه قبلها ويهبط على ركبتيه أمام حروف اسمها المنقوشة فوق شاهده:
- دومًا ما كنتُ أراكِ أفضل بكثير, بكثير مما كنت أبوح به أمامك, كنتُ أشعر بأنكِ تستحقين شخصًا أفضل, بأنك زائرة فى بيتي, حبك لي كان أقوى من أن أستوعبه, من أن أتعامل معه بما يستحق, كنتُ أرى نفسي أقل بكثير من أن تمنحيني كل شىء كما كنت تفعلين, منحتيني كلك وضننتُ عليكِ ببعضي, لا لبخلٍ مني, ولكن لخوفي من أن يكون هذا البعض لا يليق بكِ, وبدلاً من أن أبذل الجهد لتحطيم هذا الحد الوهمى, استسلمت لسلبيتي وتركتك تعانين متصورة بأننى لا أحبك .
مال بزاوية حادة بجذعه نحو الجزء المُرتفع من القبر, حتى تغبر طرف أنفه بترابه هامسًا بأُذنه كما لم يفعل يومًا مع من تسكن وحشته, متوهمًا سماعه لخفقات قلبها:
- صدقيني أحببتك يا هالة, الآن أمنح عمري لأي وسيلة مُستحيلة تجعلك تُصدقين, بينما كانت الوسائل كثيرة أمامى من قبل وأنتِ على قيد الحياة فلم أعرها اهتمامًا يليق بكِ, أزاح موتك رداء صمتي وظهر خذلانى المُتكرر لكِ بوضوح يُعريني ويكشف مساوئي, أنا أطلب الصفح منكِ, متأخرًا جدًا أعرف, ولكن أن آتي متأخرًا خيرًا من لا آتي أبدًا .
سقطت دمعاته الصامتة فوق التراب الجاف أسفل وجهه, فتركته نديًا, بينما جذب بصره للأعلى حيث أشعة الشمس التى بدأت تعلو من فوقه وتبعثه راحة دافئة فى قلبه, أعاد نظراته المُحملة بروحه إلى القبر من جديد وهو يستقيم قليلاً هامسًا:
- حبيبتي, علمتُ بأن الدموع والحسرة والندم لن تُفيدك, فأرجو ان يتقبل الله مني ما سأفعله لكِ من صدقات جارية, وهذا أقل ما أقدمه لكِ بعد أن فشلت بتقديم أبسط ما تتمنين فى دنياك, أُبشرُكِ بأن بناتك تحسنتا كثيرًا وأصبحتا تقاربا فى حديثهما غيرهما من الأطفال, والعام القادم إن شاء الله ستكونان فى صفهما الأول فى المدرسة, أوقاتي التى كنتُ أبخل عليهما بها أمنحها لهما الآن بكل حب, سأحفر اسمك بقلبيهما إن شاء الله حتى لا تسجد إحداهما سجدة فى يوم من الأيام دون أن تتضرع إلى الله بالدعاء لكِ .
شعر بخطواتٍ تتقدم نحوه يتبعها كف ثقيلة استراحت على كتفه من الخلف, وبرد فعل تلقائي أخرجه من حالة الطوف التى كان يدور قلبه بها فى التو, انتفض ناهضًا مُلتفةً(ملتفتًا/ ملتفًا) خلفه, فوجد امرأة عجوز سمينة تتوشح بالسواد وتغطي به نصف وجهها قائلة برجاء:
- رحمة ونور يابيه
***
لم تستطع رؤى أن تُنكر أن رسالته الأولى إليها والذى كان يرد بها على رسالة منها لتُعرفه بنفسها على استحياء؛ رفعت من معنوياتها إلى قمم الثقة التى لم تزورها يومًا, وكأنها منطقة ضبابية موضوع عليها للأبد لافتة ممنوع الاقتراب, خطر!, توقفت عيناها كثيرًا على كلماته عن إيمانه بموهبتها وقدرتها على تحمل مسؤولية عامودٍ كبداية لها ضمن عواميد التواصل مع القُراء بالمجلة, وعندما سألته عن مدى توافق ما يقوله مع حالتها العقلية وهل سيثق القُراء بها أم لا؟, قال لها حروفًا نقشتها فى قلبها بعد أن منحتها الشعور بالاختلاف الجيد, " الفرق بين الجنون والإبداع شعرة واحدة, العبقري مجنون بطبعه إلا أنه يُدرك ذلك ويقوم بتوجيهه داخل إطار إبداعى, وهذا هو الاختلاف " .
بعد تلك الكلمات قررت الموافقة على عرضه بالكتابة الحرة فى عامود خاص بها فى المجلة التى يكتب بها, وستكون كتاباتها تحت عنوان" قالت لي", وعندما ناقشت الأمر مع طبيبها قال مُشجعًا:
- اسمعيني جيدًا يا رؤى, أنتِ الآن تخطيتِ مرحلة كبيرة فى طريق العلاج, تعرفين مرضك وتعرفين كيف تواجهيه بمقاومة تلك الهلاوس, لو اخترت الطريق السهل معكِ والذى يتبعه معظم الأطباء العرب بل والكثير من غير العرب أيضًا, لكنت منحتك الأدوية وتركتك تخرجين بعد أيام تصل بحد أقصى إلى الشهر من المصحة على مسئولية عائلتك وينتهى دورى بعد أن أُنبه على عائلتك بأنك لو توقفتى عن تناول الدواء فسيعود المرض أقوى مما كان, وتظلين طيلة حياتك أسيرة تلك العقاقير التى لن تمنحك سوى البرودة مع زوجك وكثرة النوم والهدوء الخادع الأشبه بالمُخدر, إلا أننى أستخدم معكِ الطرق الأصعب للعلاج ولكنها الأنفع لكِ فيما يخص حالة الفصام تلك, أنا أعتمد على قوتك فى الرغبة بالشفاء الكامل وقد توقفنا تدريجيًا عن الأدوية ومستمرين بالجلسات, وستظلين هنا فى المصحة حتى إذا أدى الأمر لعام أو اثنين, حتى تتغلبين عن الهلاوس والضلالات التى تعتريكِ وترفضينها بإرادتك وليس بتلك العقاقير, عندما تحدثت إلى الأستاذ عبد الخالق مروان شرحت له أن ما يدور بذهنك سيظل لامعًا متوهجًا مادام فى عقلك فقط, أما لو خرج على الورق, بل وتفاعل معه الناس وحدث خلاف ونقاش, سينطفىء من تلقاء نفسه ويذبُل, نعم ربما لا ينتهى تمامًا ولكنه سيأخذ مساحته الخيالية التى توجد لدينا جميعًا مع الفروق الفردية طبعًا ولكنه فى كل الأحوال لن يتعداها, وافقى يا رؤى واكتبي وتحدثي إلى الناس بما ترينه حتى لو كان هذيانًا !
حديث الطبيب, وإيمان الأستاذ عبد الخالق مروان بها ألهب حماسها, إلا أنه لم يمنع ذاك الخوف الدفين من الفشل, الفشل الذى كان يتجسد فى الضلالات الكثيرة التى تنتابها باستمرار والتى تتجسد لها بوالدتها وهى تقول باذنيها " أنتِ فاشلة ", والخزى والأسف الذى تراه مُتجسدًا فى وجه هالة التى تأتيها من عقلها لتهمس لها " هل ستسعدين بنجاحك بينما كنت أنا أتعذب "!, ثم يأتى والدها ليلاً بدماءه التى تقطر من حنجرته ليصيح بها زاجرًا " كيف تفعلين أمرًا دون موافقتى"!, وفى كل يوم تهمس لنفسها بأنهم ليسوا حقيقيون !
مع الوقت تعلمت بالطريقة الصعبة أن تتجاهل تلك الخيالات والأصوات, لأنها أدركت ببساطة (بيسر/بسهولة) أنها تنبع من عقلها فقط, ليست حقيقية, وكأن اللحظة الفارقة بعمرنا هى تلك التى نتوقف خلالها عن تنفس الزيف وفتح نافذة جديدة مُحملٌ هواؤها برياح التغيير, فوافقت وأرسلت له بريدًا إلكترونيًا تُعلن فيه موافقتها, فأجابها بسعادة أنه سيقدمها بنفسه للقُراء فى عدد المجلة القادم وهو يضمنُ لها بيقين أن طبعات المجلة ستنفذ من أجلها, من أجل تلك الكاتبة الغامضة التى كانت الأموات تراسله عن طريقها !.
***
لأول مرة تغمرها سعادة خالية من تأنيب الضمير على مدى سنوات عمرها وهى تُمسك بالمجلة بين يديها وتقرأ ما كتبه عنها بفخر, وهو يحكي قصة صمودها رغم كل ما عانته, ويعد قراءه بكاتبة صحفية ذات طراز فريد, قلمها لن يتقيد بقيود المنطق أو الواقع, وستتعامل مع رسائلهم على أن كل ما حواها حقيقي جدًا, مهما كان خياليًا جدًا !, بل وستجيبهم على تساؤلاتهم بخيال يفوق خيالهم بكثير .
وترقرق الدمع بعينيها عندما وصلت لآخر كلماته وهو يختتم مقالته كاتبًا:
- وأعرف أنها من النفوس الطيبة التى تغفر مهما قست عليهم الحياة وتنتظر الخير العميم الذى تدخره لها الأقدار .
عندها نهضت من فوق الأريكة الخشبية فى طريقها لغرفتها حيث الحاسوب المحمول وقد نسيت تمامًا هشام الجالس بجوارها والذى أحضر لها المجلة اليوم ومنحها إياها بابتسامة مُشجعة, ولكنها توقفت فجأة قبل أن تهبط أول درجة من السُلم الحجرى القصير الذى يعلو أرض الحديقة الخضراء الندية, أصوات لعب جنى و لُجين هى ما جعلها تتوقف وتستدير نحوهما, حتى هذه اللحظة لا تُصدق بأنهما قد تغيرا تمامًا وكأن الحياة الطفولية الصاخبة قد دبت بهما من جديد, فرت دمعة رغمًا عنها من سجن جفنيها وهى تراقبهما وحينها شعُرت بأنامل هشام تمسحها بخفة تشي بوقوفه قريبًا جدًا بجوارها, أسبلت جفنيها وهى تدفع عقلها بالنظر إلي الماضي نظرة محايدة تخصه هو وهالة, ثم رفعت عينيها ببادرة لم تصدر منها نحوه إلا اليوم وقالت بهدوء:
- امنحنى بعض الوقت
ابتسم وهو ينظر إلى عينيها نظرة متوهجة مُفعمة بسطوع مُفاجئ لأشعة الأمل بمقلتيه فرفعت حاجبيها وتمتمت بدهشة:
- أنا لم أقل شيئًا, يستحق كل هذا,
قاطعها على الفور بشغف وليد للتو حاول التحكم به, مانعًا قدميه من الاقتراب تلك الخطوة الأخيرة والوحيدة الفاصلة بينهما:
- ليس لكلماتك فقط, بل لأن عينيك الشتوية قررتا أخيرًا العفو عني وأنهت خصامها الطويل لعيني .
ظلت تنظر إليه لثوانٍ محدقة به وكأنها لا تستوعب ما قاله, شعر هو بأن تلك الثوان دهورًا طويلة منتظرًا أحد ردود الأفعال الانفعالية على كلماته, ولكنه وجدها أخيرًا تُرفرف بأهدابها سريعًا ثم تُطرق أرضًا وتلونت وجنتاها منذ أشهر بعد هجر طويل خلف الشحوب وقد أدركت للتو ما حدث من تقارب بينهما, وغمغمت بشىء ما فهمه هو على أنها تستأذن للانصراف وهى تخطو خطوات سريعة هابطة الدرجات القليلة, قاطعة الحديقة بسرعة يغلفها الارتباك وتقترب إلى العَدو(الركض.. لدفع الالتباس) مما جعله يبتسم وهو يستنشق الهواء بقوة ويملأ به صدره بتفاؤل لم يشعر به منذ شهور مضت, رفع وجهه للأعلى وقد بدأت قطرات المطر الخفيفة تهفت إلى جبينه فأعاد رأسه للوراء أكثر سامحًا لها بمحو ثقل أخطائه المحفورة عن أرض ماضيه المُثخنة بالجراح .
أما رؤى فقدت أغلقت خلفها باب حجرتها التى تتشارك فيها مع مريضة أخرى, تلك المريضة الغامضة التى تُثير بداخلها الفضول لمعرفة حكايتها,وفى يومٍ ما ستكتب عنها. جلست أمام الحاسوب وبدأت تسطر أول كلماتها:
" أكتب إليكم أول كلماتى وأنا مازلت نزيلة المصحة النفسية أتلقى الجلسات, ليس الشعور بالتعافي هو فقط ما يمنحني القوة الآن لمواجهتكم, بل ربما الجزء المريض هو الذى يفعل, فالتعقل الشديد هو الذى يجعلنا نَجْبُن أحيانًا !.
سأحكي لكم فى كل مرة بعضًا من خيالاتي, منها ماهو حدث بالفعل, ومنها ما لستُ مُتيقنة حتى الآن هل هو حقيقي أم لا وسأنتظر تعليقاتكم عليها, بحكايات مُشابهة, حكايات ومشاكل مطمورة تخشون البوح بها, فالكثير من البشر يقتات على الخشية!, يعيش بها, ويموت لو هُدد بكشف غطائها .
حدثيني عنه وما تتمنين منه, وما تكرهين فيه, هو نصفك الآخر
حدثني عنها, أزفر بما يعتمل بصدرك لها, هى عالمك الآخر
أما ما سأكتبه الآن لكم فهى حكايتي أنا, قد تعتقدون أنها مجرد حكاية, وقد ترونها دعوة لفهم العالم الآخر" .