📁 آخر الأخبار

رواية #وقالت_لي .. كاملة في ملف واحد

 رواية  #وقالت_لي .. كاملة في ملف واحد


#وقالت_لي




- لماذا تبكين؟!


اعتدل هشام فى فراشه على جانبه الأيمن بقلقٍ نحو هالة المستلقية بجواره وهى توليه ظهرها ولكنها لم تجبه, كاد أن يشك بنومها ولكنه متأكد من سماع نهنهاتها المتواصلة منذ ثوانٍ, فأعاد سؤاله مجددًا وهو يتلمس كتفها فاعتدلت مستلقيةً على ظهرها وأدارت رأسها نحوه قائلةً بصوتٍ مختنقٍ:


- لا شىء, عُد لنومِك


نبرة صوتها المتقطعة أكدت له بكاءها فتنهد بقوةٍ قبل أن يمسح أثرَ النوم عن وجهه بكلتى يديه ثم قال بنبرةٍ يشوبها الحنو:


- تعلمين أننى لا أستطيع النوم وأنتِ تبكين هكذا؟


خُيل إليه أنها ابتسمت ساخرةً وقالت بصوتٍ حزينٍ شارد:


- منذ متى وبكائى يمنعك من النوم يا هشام؟!


زفر حانقُا وهتف فجأةً وقد اختفى كل أثرٍ للتعاطفِ معها:


- وهل النوم جريمة هذه الأيام, ألن ننتهى من تلك الاسطوانة أبدًا


غطت أذنيها بكفيها بينما أعاد هو زفرته بقوةٍ وهو يحك ذقنه الحليقة بأصابع مضطربة ويعود ليستلقى على ظهره ناظرًا لسقف الغرفة واضعًا كلتى يديه أسفلَ رأسه بصمتٍ .


وقتها لم تكن تعلم هي أن سكونَه كان ظاهريًا فقط ولكن بداخله صراعٌ محتدم, لماذا لا تستطيع سماعَ صمته؟! كلما أراد ضمها دفعته بكلماتِها, لماذا ترحل بأفكارها البائسة بعيدًا عن نيتهِ الطيبة نحوها, إنه يهتم, ولكنه لا يستطيع أن يُظهر اهتمامه كما يجب ولا يعلم لماذا, كلما حاول تراجع وكأن هناك ما يدفعه بعيدًا عنها, هل لأنها هى من تطلب الاهتمام؟, تطلبه بشغفٍ يجعله يخشى التقصير!, تقصير صاحبه لسنوات زواجهما منذ بدايته لا يعرف أسبابه ولا كيف يتخلصُ منه


طال صمته ولم تجدْ هالة ما تمنتْ أن تجده, فسالَ دمعُها بغزارةٍ أكثر وبصمتٍ أكبر وعادت توليه ظهرها, والهوة بينهما تتسع أكثر فأكثر, وكأن كلاً منهما انعزل تمامًا فى جزيرةٍ نائيةٍ عن الآخر. هو حتى لم يكرر لمسته, وكأن لمسَته الأولى لم تكن سوى حركةٍ روتينية لا روح فيها, إنه مازال يسمعها تبكى, فلماذا لا يخرجها من عذابها ويجذبها رغمًا عنها بين ذراعيه لتستكين, مؤكدًا لها بأنه لا يسأل عن بكائِها من بابِ الواجب وفقط كما تظن, لماذا لا يُصِر؟, إنها تنتظر إصرارَه لتشعرَ بأهميتها لديه, نعم ستدفعه وتهتف بعدم رغبتها فى الاقتراب منه, لكن بداخلها تصرخ فيه أن لا يستمع إليها, أن يضمها ويمسح شعرها مُعلنًا حبَه وملكيته لها, لماذا لا تتحرك يا هشام؟, لماذا، إن لم أخبركَ بسببِ بكائى تتركنى وتصمت؟.


أنا لا أريد الحديثَ فلربما لا أعرف سببًا حقيقيًا لدموعى, فقط أريد أن أشعر بدفء قربك, بلهفتك على ضمي ولو بالقوة!, أريد أن أنامَ على ذراعك لا أكثر, أنتظرُ فقط أن تُصِر, فما الذى يدفعك بعيدًا بكل هذا البرود؟!


شعرت بكلماتها التى تدور بداخلها تتعاظمُ أكثرَ فأكثر مع تواصلِ صمته, تخنقها وتمنع عن رئتيها الهواء, بدأت تتنفس بصعوبةٍ واحتقنَ وجهُها وكأن هناك منْ ينفثُ بوجهها نيراناً مشتعلة, الحنقُ يغلى بصدرها يكويها والغُصة المُسننة تتلوى بحلقها كالحية, وبدون مقدمات نهضت جالسة فى محاولة ضعيفة للتنفس بسهولةٍ أكثر, لحظاتٌ أخرى مرتْ وهو يكتفى بالنظر نحوها دون أن يُحرك ساكنًا مستمعًا لأنفاسها العنيفة تحاربها, كل ما فعله أن قال برتابةٍ وهو مازال قابعًا فى مكانه:


- هل أفتحُ لكِ النافذة؟ .


صقيعُ كلماته رمى بها بين ثلوجِ عدم اكتراثه بعنفٍ فتجمدت للحظاتٍ قبل أن ينفجرَ بركانُ يأسها بوجهه كالعادة. وجدت نفسها تهتفُ باكيةً بلا مقدماتٍ وهى تهوى من فوق الفراشِ على ركبتيها:


- لا, لا أريد منك شيئًا, عُد لأحلامك السعيدة, عُد لصمتك المطبق هذا, لا تتعب أحبالك الصوتية لأجلى


ما إنْ انتهت حتى شعرت بدقاتِ قلبها عنيفةً مؤلمةً مما دفعها للسكون تمامًا لعل الألمَ يهدأ, فى نفس الوقت الذى هبَّ فيه هشام جالسًا وهو يستغفر بصوتٍ مرتفع ويمسح وجهه بعنفٍ مُمررًا أنامله فوقَ شعرهِ القصير للغاية عدةَ مراتٍ, لا يعلم ماذا يفعل, لقد سألها وهى لم تجبه فلماذا تصرخُ هكذا؟!


طرْقاتٌ صغيرة على باب الغرفة جعلها تتحملُ آلامها وتنهضُ مسرعةً لتفتح البابَ لتجد خلفه ابنتيها تفركان عينيهما بقبضتيهما وقد استقيظتا فزِعتين على أثر صوتِ صراخِ أمهما الذى عبرت حممَهُ إلى غرفتهما كما يحدثُ دائمًا, ضمتهما فى صدرها وغادرت معهما لتقضي الليلة بينهما تاركةً خلفها زوجها جالسًا مكانه دافنًا رأسه بين كفيه وقد نفدتْ طاقته لهذا اليوم, لحظاتٌ قليلة مرت قبل أن يصلها صوتُ شخيره المتواصل وكأن شيئًا لم يكن, يا للرِّجال !!


- لماذا تبكين ؟ هالة .. هالة !



انتفضت هالة من شرودها لتجد دموعها تملأُ وجهَها وهشام يهزها قليلاً وهو يسألها عن سبب بكائها, تنفست بعمقٍ وهى تغلق عينيها وتضغطهما بقوةٍ, لقد شردت فى مشهدٍ تكرر كثيراً فيما مضى, تبكى فيسألها - إن كان مستيقظاً - عن سببِ بكائها مانحًا إياها تعاطفًا روتينيًا متكررًا, فيتجادلا ثم صراخاً باكياً يكاد يمنع عنها الهواء وأخيرًا تذهب لتنام مع الأطفال ليعود هو وينام وكأن شيئًا لم يكن. وعندما يستقيظ صباحًا يذهب لعمله سريعًا دون أن يكلف نفسه عناء الاطمئنان عليها, هذه هى عادته عندما يتشاجرا, يتجنبها حتى يعود من عمله ثم يبدأ بمصالحتها معتذرًا وبوعد يقطعه على نفسه بأنه لن يكرر ما حدث وسيهتم فى المرة المقبلة, وسترى !


أما الآن وبعد أن اكتشفا مرضها الخبيث تغير الوضع قليلاً, أصبح يهتم, يحاول تعويضها عن إهماله لها لسنوات وهو يعلم أنها ستفارقه للأبد, التفتت نحوه تعلو شفتيها ابتسامة شاردة لتجيبه مطمئنة إياه:


- لا شىء, أنا بخير


ضمها قليلاً وهو يتساءل بقلق وإلحاح:


- لقد كنتِ تبكين بقوة ولا تستجيبي لنداءاتى المتواصلة!.


راقبت نظرة الشفقة المشوبة بالقلق فى عينيه وسؤال متفجر يدور بقلبها, أيجب أن أموت يا هشام لتبدي اهتمامًا بي؟, ولكنها منعته بقوة وهى تُطبق فكيها بارتعاش قبل أن ينطلق لسانها به, وماذا يفيد العتاب الآن؟!, لا وقت لديها لتقضيه فى تعذيب نفسها ومن حولها بعتاب أجوف منتظرة أعذارًا واهية قائمة على الشفقة فقط .


وجدت يدها ترتفع تلقائيًا لتربت على يده الساكنة فوق كتفها بتسامح قائلة:


- ربما كنت أحلُم, لا عليك عُد لنومِك, سأنهض لأصلي قليلاً


نهضت متهدلة الكتفين وقبل أن تصل لباب الغرفة سمعته يقول من خلفها:


- لا تتأخرى, سأنتظرك


أومأت برأسها دون أن تجيب وخرجت من الغرفة مغلقة بابها خلفها موقنة بأنه لن يفعل! .


***




استيقظت هالة صباحًا وهى تشعر بإرهاق بالغ يسري بجميع أنحاء جسدها ورغم ذلك نهضت بصعوبة لتستعد لتجهيز طفلتيها لتذهب بهما لدار الروضة كما هو المعتاد يوميًا. بحثت عنه فى أرجاء الشقة فلم تجده, لقد غادر إلى عمله باكرًا جدًا, وفى طريقها إلى الطابق الثانى نزولاً وهى تُمسك بطفلتيها بعناية وجدت حماتها العجوز تخرج من شقتها وتُتمم على غلق الباب جيدًا ثم تسحب وشاحها المنزلق دائمًا ليغطى مقدمة شعرها بعناية ثم تُخرج محفظة جلدية سوداء من جانب جلبابها المنسدل على جسدها باستقامة لتدُس بها المفتاح وتُغلق سحابها بحرص وكأن بداخلها كنزٍ ثمين. ألقت عليها هالة تحية الصباح فالتفتت إليها أم هشام وهى تجيب باعتيادية وتنحني بصعوبة لتقبل الطفلتين بحنو مربتة على شعريهما قبل أن تعتدل بصعوبة أكبر وهالة تسألها عن وجهتها باكرًا هكذا, فقالت أم هشام وهى تضرب الأرض بخفة بعكازها:


- ياسين جارنا أخبرنى منذ أيام عن مركز للعلاج الطبيعى, فيه طبيبة تعالج الخشونة بالحجامة ولكنها لا تعمل إلا صباحًا فقط


- ياسين الممرض؟!


أومأت أم هشام برأسها بإيجاب قبل أن تقول مردفة:


- نعم هو, إنه يمدح فيها بشدة وفى زوجها الدكتور بلال, وأكد لي بأن شفاء ركبتي على يديها بإذن الله


مطت هالة شفتيها بتفكير وهى تعرض خدماتها قائلة:


- ما رأيكِ أن تنتظري حتى أعود لأصطحبكِ إلى هناك؟


تبسمت أم هشام وهى تراقب الإرهاق والمرض الباديين على ملامح هالة المُتعبة ثم قالت:


- لا داعي يابُنيتي, المركز لا يبعد عن هنا كثيرًا, فقط بضعة دقائق


تقبلت هالة رفض حماتها بسعة صدر فهى لم تكن متحمسة من الأساس, نعم هى تود مساعدتها ولكن تلك المشاعر الجديدة التى ربطتها بحماتها لم تعتد عليها بعد, لقد كانتا كقط وفأر منذ شهور قليلة فقط, ولكن فجأة بعد أن علمت حماتها بمرض هالة المُميت تبدلت تمامًا وصارت لها أمًا رؤومًا, أغدقت عليها من حنانها وكأنها تودعها, وبعد أن كانت نظراتها لها فى السابق تحمل عداونية في طياتها, صارت نظرات مشفقة رحيمة. فجأة تذكرت أنها يتيمة وأن لا أهل لها فقررت أن تكون هى أمها وتحيطها بحنان العائلة !. لماذا لا نرحمهم إلا بعد علمنا بموعد ذهابهم؟!, وكأن الموت يحتاج إلى تحديدِ موعد لنتأنق !.


***


تنهدت والدة هشام بارتياح وهي تضيق عينيها بتركيز وتعدل من وضع نظارتها السميكة القابعة فوق عينيها وقد انتهت للتو من قراءة اللافتة الكبيرة لمركز العلاج الطبيعي الذي لا يبعد كثيرًا عن منزلها, هو يعد تقريبًا فى نفس الحي البسيط. دلفت من باب المركز وقد وجدت ما أبلغها به ياسين من قبل متجسدًا أمامها, صالة استقبال كبيرة مزدحمةً بالنساء اللاتي يرغبن في العلاج بالحجامة فى هذا الوقت من الصباح وثلاث غرف خلف ثلاثة أبواب لا تعلم أيهم وجهتها ومكتب عتيق فى مواجهة الباب تمامًا يتناقض حجمه مع الدفتر الوحيد الموضوع فوقه ولقد استنتجت والدة هشام أن هذا المكتب لـ ياسين يدون به أسماء المرضى كما هو الحال، تلفتت يمينة ويسرة باحثة بعينيها عنه حتى وجدته عائدًا من حجرة جانبية صغيرة لم تلحظها من قبل وبيده كوب من الشاى الساخن تتصاعد أبخرته بسباق لا ينتهي، وما إن رآها حتى أقبل عليها بابتسامة مرحبة قائلا بخفوت:


- الحمد لله أنك قد أتيت باكرًا يا أم هشام, لقد حجزت لك أول كشف, الدكتورة عبير وصلت ودخلت حجرتها للتو


أخرجت والدة هشام حافظتها الكبيرة وهي تسأله عن ثمن الكشف ولكنه وضع يده سريعا على حافظتها ليمنعها قائلاً:


- الدكتورة عبير لا تأخذ أجرًا على عملها هذا يا حاجة, فهى تهب ثوابه لحماتها رحمها الله


رفعت والدة هشام حاجبيها بدهشة متعجبة قبل أن يشير إليها ياسين بالدخول وهو يتقدمها بخطوة واحدة، وعندما دلفت داخل حجرة الكشف وأغلق ياسين الباب خلفها بحرص. استقبلتها عبير ناهضة تجاهها من خلف مكتبها الصغير القابع فى زاوية بعيدة عن باب الحجرة بابتسامة مشرقة لتأخذ بيدها لأقرب مقعد أمامها .


عاينت والدة هشام عبير وغطاء وجهها الذي ألقت به خلف رأسها بأناقة وهى تقدر عمرها بأنها لم تتجاوز العقد الثالث بعد من عمرها وتمتمت بفضول:


- أنتِ الدكتورة عبير؟!


ضحكت عبير ضحكة صغيرة خافتة وهي ترى نظرات الفضول المصحوبة بالدهشة التى تُطل بضراوة من عيني المرأة وقالت بتفهم:


- نعم أنا هي, ولكنني لست بطبيبة


وعندما رأت حاجبي والدة هشام ينعقدان وتغضنت زوايا عينيها باتهام, قالت شارحة:


- زوجي الدكتور بلال طبيب وهو فى الأصل صاحب هذا المركز للعلاج الطبيعي ولكن عمله هنا لا يبدأ إلا بعد صلاة المغرب بقليل, وقد منحني دورات عدة في العلاج بالحجامة وأجازني فيها.


تنفست والدة هشام الصعداء وقد اطمأنت بعض الشىء وهي تسترخي قليلاً ثم بدأت في شرح ما يؤلمها وهي تستند بكفيها على ركبتيها وعبير تستمع إليها بإنصات، وهى تشرع في العمل على الفور بأصابع مدربة خبيرة, بينما والدة هشام تطلق العنان لذكرياتها وهي تحكي لها باستفاضة عن شبابها وصحتها التي ولت في تربية ولدها وابنتها التى تقطن بعيدًا عنها مع زوجها، وكيف جاءت زوجة ابنها لتأخذه منها هكذا دون تعب, وأخذت تقص عليها وكأنها تعرفها منذ زمن طويل المشاكل التي دبت بينهما حتى اضطر هشام إلى تأجير الشقة الشاغرة في الطابق الذي يعلوها لفصلهما عن بعضهما البعض .


استشفت عبير من حديث المرأة عدم تقبلها لزوجة ابنها فقالت وهي تتابع عملها بتلقائية:




- أتعلمين يا خالتي, زوجي الدكتور بلال وحيد أمه, وكنت أرهبها في البداية ولا أعرف كيفية التعامل معها, ولكنها احتضنتني كابنة لها وصارت لي أمًا ثانية, هي من علمتني كيف أعمل لخدمة الناس دون انتظار مقابل وساعدتني في تربية أولادي الأربعة بكل حب وصبر, وعملت معي هنا ودربتني كثيرًا حتى أصبحت خبيرة في هذا المجال, وعندما توفاها الله افتقدتها كثيرًا وبكيتها أكثر من وَلَدَها نفسه, وكلما أسجد بين يدي الله فى صلاتي أتذكرها في دعواتي أكثر من والدتي الحقيقية .


تنهدت والدة هشام وهي تمصمص شفتيها وتترحم على الفقيدة ثم قالت وهي تحرك رأسها وكأنها تدافع عن نفسها:


- والله يا ابنتي لقد عاملتها بالحسنى, لولا تأخر حملها لسنة كاملة ورفضها الذهاب للطبيبة لمعرفة سبب تأخر الحمل, فصارت العلاقة بيننا سيئة للغاية, وحتى بعدما حملت بطفلتيها لم نتصافى أبدًا إلا بعد أن علمت بمرضها المميت وبأنها موشكةً على لقاء ربها .


رفعت عبير وجهها مصدومة, سيظل الموت هو الحقيقة الوحيدة فى حياتنا, نؤمن به وننتظره, وبالرغم من ذلك يصدمنا عندما نشتم رائحته حولنا, أطرقت برأسها, تزفر بهدوء وتحرك عنقها يمنة ويسرة بشفقة وهى تتخيل كيف ستفارق أمًا ما أطفالها فى مثل هذا السن المبكر جدًا وهى على علم بذلك, فهى أم وتدرك كيف هو شعور الأم عندما يتعرض الأمر بمستقبل أطفالها, لانت ملامح عبير بتسليم لقدر الله, متمتمة:


- لا حول ولا قوة إلا بالله, عافاها الله من كل سوء, وحفظها لأطفالها


تنهدت والدة هشام وصمتت للحظات ولكن صمتها لم يدم طويًلا وعادت لتستكمل حكيها حتى كادت عبير أن تنتهي من عملها, لم يوقفها إلا رنين هاتف عبير الذي أصر أن تجيبه بإلحاح، راقبتها المرأة بإنصات فضحه تركيز ملامحها الشديد معها وهي تتحدث إلى زوجها بخفوت ووجهها يتلون باللون الوردي المحبب، وما أن لاحظت عبير تنصتها عليها أنهت المكالمة سريعا هامسة له بخفوت:


- سنرى حكاية ضميرك هذا فيما بعد, لدي عمل الآن, مع السلامة .


أنهت المكالمة وهى تحيد بنظرها عن والدة هشام التى رفعت حاجبًا واحدًا بإدراكِ مصطنع وكأنها علمت ما دار بينها وبين المتصل من تورد وجهها, وقبل أن تعاود عبير إنهاء عملها قالت بابتسامة موضحة:


- إنه زوجي


عادت المرأة تتنهد مجددًا وهى تهز رأسها بثقة فى تخمينها السابق ثم


عقبت وهى تعتدل فى جلستها بحكاية أخرى عن إحدى مشاكل ولدها مع زوجته بسبب عدم مهاتفته لها ليطمئن عليها خلال فترة عمله الذى تدوم اليوم كله وضيقها بمكالمته الوحيدة التى يفعلها فقط وهو عائد من عمله ليسألها عن المشتريات الضرورية للمنزل


ضحكت عبير بخفة وهي تنهي عملها وتنهض قائلة:


- أنا وزوجي حالة عاطفية خاصة, من الظلم القياس عليها, ولكن أصدُقكِ القول مكالمته تلك تمنحني دفعة قوية جدًا لاستكمال مهامي اليومية بحماس متدفق


ارتكزت والدة هشام على عكازها ناهضة وهى تُتمتم غير معجبة بما سمعت للتو:


- بنات آخر زمن


احتضنت عبير كتفيها مودعة إياها وهي تذكرها بالتعليمات الواجب اتباعها بعد الحجامة, ثم تحركت والدة هشام نحو باب الحجرة ببطء مطرقة برأسها وكأنها تفكر بأمر هام وما أن أمسكت بمقبض الباب حتى التفتت فجأة تجاه عبير متسائلة:


- ألا تدلينني على عروس مناسبة لظروف ولدي هشام


اتسعت عيني عبير بدهشة مأخوذة وهى تهتف غير مُصدقة:


- ماذا ؟!


الفصل الاول : وصية بين القبور




3-




أدخلت هالة طفلتيها إلى دار الروضة, عند الباب الخارجي تشير إليهما بابتسامة وعندما تسابقتا إلى رؤى ومُعلمة أخرى كانت تقف بجوارها, انحنت رؤى إليهما محتضنة جسديهما الصغير بين ذراعيها وعندها استمعت إلى نداء هالة لها وهى مازالت واقفة عند باب أولياء الأمور الخارجي:


- رؤى !!


التفتت رؤى والمُعلمة الأخرى نحو الصوت, وخطفت رؤى نظرة مرتبكة إلى هالة التى كنت تشير إليها بابتسامة صامتة متسائلة عن تجاهلها فأشاحت بوجهها وكأنها لم ترها، هاربةً مما تُتَوق إليه!. بينما أخذت المُعلمة الأخرى الأطفال إلى الداخل, تبعتهم رؤى مُغلقة الباب الداخلى للدار خلفها وكأن شيئًا لم يكن !.


تلاشت ابتسامة هالة وزاغت نظراتها مفكرة، هل قررت رؤى الرفض لذا لا تريد أي تواصل معي ولو حتى بنظرة؟!, نفضت الفكرة عن رأسها سريعًا وهي تضع خيارات أخرى، ربما انشغال رؤى في بداية يومها بالأطفال هو السبب في تجاهلها لها !!


وعندما ذهبت لاصطحاب الأطفال في نهاية اليوم فعلت رؤى نفس مافعلته في بدايته, فتجنبت الحديث معها منصرفة بخطوات مضطربة بعيدة عنها. عاينتها هالة من الخلف وهي تلحظ مشيتها المتوترة ونحولها الشديد وملابسها الغير مهندمة حائرة بداخلها عن تلك الحالة المذرية الواضحة على رؤى، ترى هل تعاني من اكتئاب ما, وما السبب؟, هل هو عرضها الذي عرضته عليها بين المقابر؟ أمعضلة هو إلى هذا الحد؟


ولكنها لم تيأس, ظلت منتظرة بالحديقة الصغيرة الداخلية التابعة لروضة الأطفال حتى رأت رؤى تخرج من الدار مُعلقة حقيبتها فوق كتِفها, مُتشبثة بحزامها الجلدي كأنها توازن منكبيها, نهضت هالة على الفور وهى تنادى على طفلتيها لتأتيا إليها وهما تتصايحان لهوًا مما جذب عيني رؤى إليهما فتوقفت خطواتها دفعة واحدة وقد أيقنت بأن هالة مازالت تنتظرها بإصرار. تلك المرأة لا تستلم أبدًا, حتى الوهن والضعف الباديين عليها لم يجعلاها تتراجع عما تريد. هل معرفة موعد الموت كافٍ ليتمتع الإنسان بقوة لم يكن يملكها من قبل وكأنه لم يعد يهاب شيئًا بعده!, بل يصبح الخوف فى ذاته كلمة باهتة لا حياة فيها, تختفى كل المعانى أمامه ولا يبقى سوى انتظار مواجهته وجهًا لوجه .


تنحنحت رؤى وهى تهرب بوجهها من هالة التى تقترب منها بابتسامة ضعيفة وخطوات واهنة, لم تستطع صد تلك الأسئلة فى عينيها, ولم تكن تملك الإجابات, لا تعلم لماذا تضطرب ولا ممن تهرب, ربما لأنه لاح لها أمل جديد فى تغير حياتها نسبيًا إذا وافقت والدتها على الانتقال لشقة أخرى خالية من ذكريات مُعذبة كما أخبرها الطبيب. تشعر أن اقتلاع جذور شجرة ضخمة قديمة هو أهون بكثير من حمل والدتها على ترك منزلهم !


- حسنًا, لو كان عرضى الذى عرضته عليكِ من قبل هو سبب تحاشيكِ لقائي فاعتبريه كأن لم يكن


رفعت رؤى عينيها وقد صدمتها عبارة هالة القوية وقبل أن تجيبها تغيرت نبرة هالة وأطل الحنان من نظراتها الطويلة وهى تقول مستدركة بمرح:


- لكنني لن أتنازل أبدًا عن صداقتنا التى لم تبدأ بعد


سارت رؤى بجوار هالة والفضول يكاد تنطق به خطواتها المتوترة, وفجأة قررت البوح بما يعتمل بصدرها بتلقائية ودون تخطيط فتوقفت واستدارت نحو هالة متسائلة بفضول:


- هالة, التعب والوهن يظهران عليكِ بوضوح ورغم ذلك صممتِ على المشيَ معي حتى منزلى فلماذا؟!


رفعت هالة كتفيها وهى تستكمل سيرها فتجبر رؤى على اللحاق بها وهى تقول بلامبالاة:


- لاشىء, أود أن أتعرف على مكان سكنك فقط ونتحدث قليلاً أثناء سيرنا, أما التعب والوهن فهما يلازمانى دائما لعدة أيام بعد جلسة العلاج الكيميائى فهى مرهقة جدًا .


زمت رؤى شفتيها بتعاطف ثم تابعت بفضول أكبر على غير عادتها:


- هل حقاً ليس لكِ أخوة أو أقرباء كما قلتِ من قبل


ظهر شبح ابتسامة على شفتي هالة وأطرقت برأسها قليلاً قائلة بشرود:


- الأقرباء والأخوة يا رؤى هم من تجدينهم دومًا متى احتجتِ إليهم, أما من لا يدرون شيئًا عن عذابك, عن معاملة زوجك لكِ, عن حاجتك إلي عائلة, إلى وجودهم حولك ليشدوا من أزرك إذا مالت بكِ الدنيا, عن شكوى تودين أن ترميها بحجر أحدهم ليحتويكِ بعدها بتفهم فتعودين بعدها لحياتك وكأن المعاناة لم تكن, من لا يفعلون ذلك يا رؤى حتى لو علموا بموتك فلن يفعلوه مع أطفالك, هم ليسوا بأقرباء, هم فقط رحم, لا نقطع صلتنا به, فقط ابتغاء مرضاة الله .


شعُرت رؤى بكل كلمة ألقتها هالة للتو على مسامعها, لا لم تشعر فقط, بل تعايشت معها بكل جوارحها حتى الغصة التى تخنق كلمات رفيقتها تذوقتها واستشعرت وخزتها بحلقها, وتسائلت بداخلها, تُرى هل تواجد أقرباء من حولنا له أهمية كبيرة لهذه الدرجة؟, هل لو كنت أمتلك أحدهم كنت سأستعين به على علاج والدتي وربما تتغير حياتي؟.


***




استندت هالة إلى ذراع زوجها وهو يأخذها إلى أحد المقاعد الخشبية المتهالكة بجانب ذاك الجدار الشبه متهدم بداخل تلك المشفى الحكومي فى انتظار دورها لجلسة علاج كيميائية أخرى كما حدد لها الطبيب, حاولت هالة كتم أنفاسها قدر المستطاع فالمقعد بجواره كومة من نفايات المشفى التى تُلقى فى ساحتها الخارجية بإهمال دون مراعاة لهدف المشفى المنطقي وهو علاج المرضى لا جلب الأمراض إليهم. أخذ هشام يتفحص تذكرة العلاج مجددًا بينما ركزت هالة بصرها وسمعها من تلك المجموعة التى تقف بجوارهم وقد تباينت أعمارهم ما بين عجوز وشاب فى مقتبل العمر وآخر مازال بمنتصفه. جذبها حديثهم وكل منهم يحكي وجعه وآلامه, وكأن مشاركة الآلآم تخفف بالفعل من شدة وطأتها, عكس السعادة التى تزداد وتكبر عندما نتشاركها مع الآخرين. كان الرجل العجوز يشد على كف زوجته بداخل كفه وكأنه يدعمها ويؤكد لها أملاً احتل نظراته دومًا وهو يتحدث إلى المرأة الأربعينية التى تقف مواجهة له قائلاً لها وهو يشير لزوجته:


- لا تبتأسي وتعلمي الصبر من زوجتي, هل رأيتِ يومًا امرأة مصابة بذاك المرض وفى قمة الصبر والثبات مثلها, أشعر أن المرض سييأس منها ويرحل دون رجعة, كيف له بمواجهة تلك المحاربة!


ابتسمت زوجته العجوز وهى تنظر له بامتنان وتتنفس بمجهود بالغ, ربما هى تعلم أنه يسعى إلى ابتسامتها أكثر من بحثه عن علاج مرهق فى ذاك السن الطاعن.


راقبت هالة البسمة التى علت وجه الشاب الأسمر الطويل الذى يقف بجوارهم والأمل الذى رسم خطوطه فى مقلتيه وهو ينظر إلى الرجل وزوجته بتفاؤل وكأن لسان حاله يقول:


- لو كانت تلك المُسنة قادرة على هزيمة المرض فمن باب أولى أن أفعل أنا


عادت هالة بعينيها إلى زوجها المنشغل بالنظر إلى بهو المشفى الظاهر أمامه وانخفضت نظراتها إلى يديه المعقودتين فوق صدره ثم تحركت ببصرها إلى يديها الفارغتين فوق قدميها وهى تتسائل عن ماهية الدفء الذى يسري الآن بكف المرأة العجوز. ترى ماهو شعور الدفء ذاك, ماهذا السر الذى ستظل دومًا تجهل معناه, لماذا يظن هشام بأن الاهتمام فقط فى مصاحبتها لجلستها العلاجية, وهو صامت, متباعد, شاردًا فى الفراغ, متجهم الوجه, خاوي النظرات وكأنه ينتزع منها صبرها ليضع عوضًا عنه يأسه وخوفه من المستقبل. ألتفت هشام إليها فجأة وشاهد نظراتها متمركزة فوق يديه بشرود, اقترب منها قليلاً, راقبت هالة يده وهى تتجه نحوها, هل فهم أخيرًا ماذا أحتاج, هل سيدعمني الآن؟, سيمسك بيدي, لا .. سيضم كتفي بساعده إلى صدره. إلا أنها أغمضت عينيها بيأس عندما استند بيده إلى ظهر المقعد المتهالك من خلفها وهو يميل نحوها قائلاً بغيظ:


- تلك الممرضة هناك مستفزة للغاية, سألها أحدهم عن شىء ما فصاحت بعصبية دون مراعاة كهولته ولا مرضه الواضح عليه والشمس الحارقة التى نقف جميعًا أسفلها منذ ساعات وكأننا نعمل خدم لديهم هنا, إهمال !! 




 #وقالت_لي




الفصل الثاني : رحيل




1-




هل هو الخريف حقًا أم هى فقط التى تشعر بأنها تحيا فصولها الأخيرة من عمرها, هل تساوي الليل والنهار جاء مصاحبًا لهذ(جاءا مصاحبان لهذا) الموسم أم أنها هى التى ترى ببصيرتها انعدام الزمن فى المكان الذى ستذهب له قريبًا؟!, حالتها تزداد تدهورًا وأصبحت حبيسة المنزل. ورقة شجر باهتة سقطت من مكان ما مرورًا بنافذتها, ألصقتها الرياح القوية بزجاجها لثوانٍ ثم عادت تُكمل رحلة سقوطها للأسفل بعد أن منحتها إشارة بأن تستعد للذهاب!.


تنفست هالة بعمق ومدت يدها نحو غُرة الشعر المُبعثرة على جبين ابنتها جنى النائمة على يمينها, واضعة يدها الصغيرة أسفل رأسها باسترخاء وشفتيها منفرجتين قليلاً تتنفس من خلالهما كعادتها, وقامت بتسويتها بحنان وهى تتحسس كل خصلة منها ببطء ممتزج برعشة أناملها خشية من أن توقظها. ثم مدت يدها الأخرى نحو لُجين عن يسارها والتى تتنهد دائمًا تنهدات ناعمة رقيقة أثناء نومها وكأنها تحلم بشىء سعيد على الدوام. لمسة يد هالة فوق جبينها جعلت حاجبيها الصغيرين ينعقدان قليلاً بينما زمت شفتيها ثم عادت ملامحها تسترخى وتسبح فى حلمها من جديد. ترى هل مفارقتها لهما ستجعلانهما تتأخران فى النطق أكثر مما هما عليه؟, هل ستسهلان الأمر على رؤى كأم بديلة؟, أم ستتغير مشاعرهما نحوها بعد أن تسكن معهم بنفس المنزل وتنام مكان والدتهما ويعتادان عليها أكثر بكثير من كونها مجرد معلمة؟.


- هل أنقلهما إلى غرفتهما الآن؟


قاطعت عبارة هشام خيالها عن مُستقبل لن تحياه, فالتفتت نحوه قائلة بهمس وهى تحرك رأسها نفيًا بشرودٍ تغادره دون أن يُغادرها:


- لا, أريدهما بجواري الليلة


أومأ برأسه موافقًا وانحنى بجذعه نحو نهاية الفراش ليسحب غطاءً خفيفًا لنفسه مستعدًا لقضاء ليلته بغرفة بناته, فاعتدلت هالة على الفور جالسة فى مكانها وهى تقول بنبرة خفيضة:


- هشام, أبق هنا


لم ينتبه إلى نبرة الرجاء الناطقة فى صوتها ولا إلى نظرة عينيها التى تحتوي وجهه وكأنها تطبع بداخل مقلتيها ملامحه الطفولية ببشرته القمحية. لم يفهم أنها نظرة وداع تحرق قلبها شوقًا له .


اعتدل بعد أن حمل الغطاء وتقدم نحوها بابتسامة ثم انحنى ثانية يطبع قبلة على شعرها هامسًا:


- لا داعى, السرير لن يكفينا جميعًا بسهولة, ولا أريد إزعاجكم بتقلباتي الكثيرة, تُصبحين على خير


عندما التفت ليرحل أمسكت بكفه بوهن فاستدار لها وللمرة الثانية لم يستطع قراءة نظرتها المتوسلة وهى تقول بصوت مرتجف قليلاً:


- أخشى أن تكون هذه آخر ليلة لي و..


قاطعها وهو يمسك بذقنها بهدوء ويرفع وجهها نحوه قائلاً بثقة اعتاد الحديث بها معها عندما تقول مثل هذه الكلمات:


- لا أريد أن أسمع منكِ هذا الكلام مرة أخرى, أنتِ بخير وستتحسنين مع العلاج صدقيني, أتركى هذه الوساوس جانبًا الآن وارتاحى فجلسة العلاج اليوم صباحًا كانت شاقة عليكِ للغاية, هيا اخلدي إلى النوم


قبلها مرة أخرى واعتدل مغادرًا للغرفة إلى غرفة بناته, التفتت هالة إلى المنضدة الصغيرة بجوار السرير بتفكير إلى أن تنهدت فى النهاية وقد حسمت أمرها. مدت يدها إليها وسحبت أحد دفاتر اللغة العربية الخاصة بابنتها جنى, ثم سحبت قلمًا كان بجوار الدفتر وهى تنوي كتابة رسالتين منفصلتين .


تنفست بقوة وعمق لتكبح دموعها محاولة تثبيت القلم الأزرق بين أصابعها والتى اعتادت ابنتها لُجين عض خاصرته بأسنانها وبدأت تخط بيدها المرتعشة الرسالة الأولى وقد كانت كوصية وتذكار منها إلى ابنتيها الصغيرتين. كانت رسالة صغيرة وموجزة وبها مرح وبهجة فى محاولة يائسة للتخفيف عنهما عندما تقومان بقراءتها يومًا ما أو يقرأها أحدهم عليهما. وفى بداية كل سطر منها حرصت على أن تُكرر نفس الجملة مرات ومرات " سأكون حولكما دومًا, وكعادتى سأنام بغرفتكما دون أن ترياني".


أنهت رسالتها الأولى وانتهت معها تلك الصفحة التى قلبتها ليقف قلمها أمام صفحة جديدة تاركة صفحة خالية بينهما كعادتها دائمًا للكتابة فى دفاتر بناتها الصغيرة. تحرك القلم بمدادٍ من قلبها مستعدًا لكتابة الرسالة الثانية والتى لن تستطيع أن تكذب بها وتظهر البهجة كما فعلت فى الأولى, فقد كانت موجهة لمن امتلكها ولم تملكه, لزوجها النائم بالغرفة الأخرى تاركًا رياح الوداع تعصف بقلبها الوحيد وجسدها الراحل .


زفرت مرة تلو الأخرى وقد فقدت السيطرة على عبراتها النازفة وهى لا تعلم لماذا قررت أن تكتب له, هل تؤنبه أم تعاتبه برقة؟, ألا تكفي المسؤولية التى ستقع على عاتقه فور رحيلها؟!, لماذا تشعر بتلك الطاقة الغاضبة والمتضاربة بداخلها وكأنها تريد أن تشمت به وفى نفس الوقت تُشفق عليه مما سيلقى. وبتردد كبير وبدون تخطيط بدأت تكتب:



- زوجي الحبيب


ثم تطمسها بتوتر حتى كادت الورقة الرقيقة تتمزق بفعل رأس القلم المدبب, انطلقت الزفرة الأخيرة وقد قررت أن تترك العنان لقلمها وقلبها معًا يكتبان ما يريدان, وما شأنُها هى؟!


***


ما إن دخل هشام غرفة بناته حتى ارتمى على أول سرير قابله وأغمض عينيه وهو يشعر بعظامه تأن بشدة من فرط الإرهاق الذى يشعر به, اليوم كان شاقًا للغاية, صباحًا فى جلسة العلاج معها ثم أعادها إلى المنزل, وانطلق إلى عمله وكأنه يجرى خلف الوقت ليلحق بعضًا منه قبل أن يُخصم له اليوم كله, فصديقه فى الشركة وعده بأن يموه عن غيابه صباحًا قدر المستطاع, عمله كمحاسب دقيق جدًا ويحتاج إلى تركيزه الذهني الكامل, وهذه الأيام ومنذ أن تدهورت حالة زوجته وهو مشتت بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ, الخطأ الواحد فى رقم واحد ربما يكلفه فقدان وظيفته على أقل تقدير!. انتفض فجأة من شروده عندما ضربت رياح قوية زجاج النافذة المفتوحة وهو يشعر أن أطرافه تكاد تكون تجمدت على أثر تلك الضربة, تنحنح وهو ينهض ليغلق النافذة تمامًا موبخًا نفسه على سرعة انفعاله هكذا وكأنه طفل صغير ينام وحده, عاد إلى نومه وهو يبتسم متذكراً سخرية والدته منه عندما انتفض أمامها هكذا فى يوم من الأيام على أثر صفعة مفاجأة لباب الشقة وقالت له بسخرية لاذعة " أحضر لك طاسة الخضة " !.


من المستحيل أن ينسى ذلك اليوم مادام حيًا, وكيف ينسى عودته من الخارج وملابسه يعلوها الغبار مكونًا طبقة رمادية رقيقة باهتة فوقها وقد دفنها للتو, دفن زوجته. صورة جسدها الملفوف فى الكفن وأخوتها الرجال يحملونه ويدخلون به القبر لا يمكن أن يفارق مُخيلتهِ أبدًا, هل هذا هو جسد زوجته حقًا؟,


هل ينصت إليهم وهم يدفعونه ليخرج من ساحة القبر ويتركها وحدها, تبيت أول لياليها فى قبرها المظلم, بلا رفيق؟!


وهل كان هو هذا الرفيق الذى يخشى عليها من عدم وجوده عندما كانت تبيت فى بيته؟, وفى غرفته, وعلى فراشه؟!. هل سيشكل القبر فارقًا سوى فى الظُلمة فقط؟!


هالة التى كانت تملأ البيت سعادة فى بداية زواجهما ثم اختفت ضحكاتها شيئًا فشيئًا وتراجعت صحتها ببطء حتى فارقها لون الحياة وصارت جثة متحركة, ثم هامدة!


كيف ينسى عيني والدته المتورمتين من أثر البكاء وهى تحتضن ابنتيه فى صدرها بشفقة, وقد أصبحتا يتيمتي الأُم, كيف ينسى تلك العيون الحائرة وهم يتسائلون عنها بحروف متعثرة ونظرات ضائعة " أين أمى "؟!, كيف ينسى ظهره المنحني وكأنه يستعد لحمل المسؤولية الثقيلة والجديدة عليه؟


وكيف ينسى يد أمه الممدودة إليه بدفتر صغير لإحدى ابنتيه تخبره بأن زوجته تركت له رسالة. وإن كان يستطيع نسيان كل هذا مع مرور الزمن, فكيف بالله أن ينسى ما كتبته له فى رسالتها تلك بكلمات مذبوحة وذابحة, تلك اللحظة شعر بأنه لا يقرأ الكلمات بعينيه بل يسمعها بصوتها الباكي, وكأنها تهمس بقلمها فوق الأوراق, تذكره, تسأله, ترجوه, تقسو عليه, تَبكيه وتُبكيه, تُحبه, وتناديه, ثم تُهدده!:


- هشام, كتبت هذه الرسالة فى آخر ليلة لي فى بيتك, هل تذكرها؟, عندما طلبت منك أن تبقى معي, عندما رجوتك أن تنتظر, عندما كنت أحتاج إلى ضمتك لألفظ حياتى بصدرك, ليكون آخر ما أستنشقه هو عطرك, رائحتك, ولكنك رفضت وابتعدت ظنًا منك بأنك ستصحو كالعادة لتجدني, وأنا أسألُك الآن, هل وجدتني يا هشام؟!, هل صدقت الآن شعوري بأنها آخر ليلة؟!, أشعر الآن بأنني من القسوة لدرجة أن أسألك وأنا على يقين بأنني لن أسمع الإجابة أبدًا, هل سمعتنى وأنا أحتضر؟, أم أنك كنت غارقًا بنومك؟!, هل وجدت جثتي باردة فى الصباح؟, أم كان لا يزال بها بعض من سخونة نزعي؟


أنا قاسية جدًا يا هشام فى تلك اللحظة, ليس قسوة عليك, بل لأجلك !, نعم لأجلك حتى لا تكررها مع غيري, فأنا أريدك أن تعامل زوجتك الأخرى معاملة طيبة لتستطيع هى أن تُحسن معاملة بناتي, بناتي فقط صدقني هو كل ما أفكر به فى تلك اللحظة, لا تفعل معها كما كنت تفعل معي أرجوك, أرجوك أحبها .


عندما تبكى لا تتركها, ضمها إليك.


عندما تفتقد أهلها كن أنت كل أهلها.


عندما تغضب وتثور فجأة منك اعلم أنها تفتقدك, تحتاج ضمتك


عندما تهتف بك " ابتعد ",لا تفعل, بل اقترب أكثر !.


عندما تصرف ببذخ اعلم بأنها تعوض نقص حبك واهتمامك بها, تحتاج عاطفتك.




عندما تصرخ وتتهمك بما لم تفعله, اعلم بأنها لا تقصد ظلمك بل تنطق بمخاوفها فقط, بما يموج به صدرها ولا تعلمه أنت.


هشام, أقول لك هذا وأنا مقبلة على ربي ليس لي حاجة فى دنياكم, فأرجوك تَفكر في كلماتي التى أنطق بها للمرة الأولى وقد حالت كرامتي وكبريائي أن أقولها لك سابقًا وأتسول منك حبًا. صدقني لقد أحببتك بكل جوارحي ولم أكن أطمع بالكثير, أردت حبك فقط, أردت ضمتك فقط, أردت أن أصنع معك عالمًا يغنيني عمن فقدتهم من أحبة, لو كان العالم كله نبذني ووجدتك, لكنت تكفي, إلا أنني أضعتك أيضًا, فمن سيبقى لي سوى ضمة قبر ربما ستكون أرحم بي من قلوبٍ تلفظني دومًا.


أوصيك ببناتي خيرًا وتأكد بأنني سأكون معهما على الدوام, بكل طريقة ممكنة, فاحذر غضبي.


زوجتك المحبة " هالة "


أغلق هشام الدفتر وهو يرفع رأسه بعينين باكيتين ومشاعر مضطربة متضاربة.


لماذا لم تتكلم من قبل؟.


لماذا لم تنبهه لأخطاءه؟.


لماذا ضاع كل هذا الوقت هباءً وهو لا يفهم؟.


إنه لم يكن يقصد, لم يكن يقصد نبذها كما ظنت .


نهض والدفتر مازال بيده وذراعاه متهدلتان بجواره وأخذ يدور حول نفسه والدمع يقفز من مقلتيه وقلبه يغلي وحلقه يلفظ الكلمات كقذائف تحرقه ويريد أن يتخلص من شدة ألمها وهو يهتف بحشرجة باكية:


- لماذا لم تتكلمي من قبل؟, كيف أفهم وحدي ما كنت تخبئينه في صدرك؟, لم أكن أقصد, صدقيني لم أكن أقصد, أحببتك بطريقتي لا بطريقتك, هالة, أجيبي يا هالة أجيبي لا تتركيني أحترق هكذا .


عبارته الأخيرة جاءت كصرخة نداء غاضبة متألمة متحسرة كتحسره الذى جاء بعد فوات الأوان, فتحت والدته الباب مندفعة نحوه وقد استمعت إلى صياحه الباكي وأخذت تحتضنه وتربت على كتفه وظهره حتى هدأت صرخاته قليلاً وأخذ ينهت من فرط الانفعال متمتمًا دون وعي ورأسه ملقاة على كتف والدته:


- قولي لها يا أمي أننى أحببتها كما أحبك والدي, أخبريها أنني لا أعرف حبًا آخر غير هذا, أحفظها فى بيتي, أوفر لها ما تحتاج, أرعاها عندما تمرض, لمَ لم تتكلم؟ لمَ ؟ ربما كنا سنتفاهم!, تبًا لكرامتها تلك, تبًا, تبًا.


***




كان يكفي أن تقف عند مدخل المقابر, فلماذا ظلت تتوغل خلف الجنازة؟, ربما لم تكن تتصور فراق أمها يومًا من الأيام لذلك اتبعت جنازتها وقد غشت عيناها غلالة من الدموع الصامتة, حتى صعد الرجال وقد هالوا عليها التراب, الجيران أصروا على مصاحبتها إلى هنا, لم تكن معها امرأة واحدة فجميع جاراتها حذرنها من الذهاب، وبعضهن لمَّحن إلى تحريم اتباع الجنائز للنساء, ولكنها أصرت, وها هى تقف وحيدة على مشارف القبر بعد دخول الرجال المصاحبين لها للمسجد الصغير بالجوار لأداء صلاة الجمعة .


كتفت ذراعيها, أطرقت برأسها, راقبت ظلها, وهى تخطو خطوات واهنة في محاولة للوصول إلى السيارة التى ستنتظر بداخلها حتى عودتهم إليها لُيعيدوها معهم إلى المنزل, ولكن غلالة الدموع كانت تزداد قتامة وثقلاً بمقلتيها وهى تتذكر معاناة والدتها قبل أن تموت, بل قبل أن تقتلها !


عندما وصلت لهذه النقطة اعتصر قلبها برودة ثلجية مفاجئة, سرت على طول ظهرها حتى استقرت فى نهايته وهى تتذكر جسد والدتها وهو يحترق بالكامل وتدور بجنون متخبطة فى نيرانها بين جدران غرفة المكتب, تضرب بيديها كل شىء تصطدم به وتصرخ صرخات بشعة لن تنسها يومًا, صراخ مهول مزق ستار الصمت بالحي بأكمله, ألسنة لهب ودخان غشت جدران غرفة المكتب وعندما حطم الجيران باب المنزل أخيرًا كانت قد تفحمت واستقر جسدها خلف المقعد الضخم, وهى تقف بعيدًا أمام الغرفة المفتوحة, تشاهد, وفقط !.


كانت تحبه, بل تعشقه, ولكن حبه لم ينجح فى شفائها من مرضها النفسي الذى خَفَت وطأته بعد زواجها به, ولكنه لم يذهب تمامًا, أما بعد موته بهذا الشكل المفجع فقد أصبح المرض يقارب الجنون فى أعراضه, تمزق لأجل فراقه شعرها عاجزة عن استكمال الحياة بدونه, أوقفت زمنها بين يديه, فماذا سيبقى بعده إلا الرحيل إليه؟!, ربما كانت هى سببًا بمقتل أبيها, فلمَ تبخل على أمها بأن تلحق به !.


وها هي قد أصبحت وحيدة فعليًا, ببيت يخشى الناس ولوجه وقد أسموه ببيت المجانين, نعم وحيدة, ولكن ليس تمامًا, ما زال لديها البعض, ومنهم صديقتها الوحيدة, هالة التى اختفت هى وطفلتيها فجأة منذ, منذ متى؟ ربما شهرين أو ثلاثة لا تذكر, والأغرب أنها لم تسأل, اكتفت بقول مديرة دار الروضة بأن والدة جنى و لُجين مريضة للغاية, أم اكتفت برسالة نصية من هالة مؤلفة من كلمات قليلة فقط:


- بناتي يا رؤى, بناتي فى عهدتك


نعم هى تعلم أنها مريضة فما الجديد ولماذا القلق؟!, سيعدن حتمًا, ربما هم فى سفر ما, نعم ربما, من يدري!


هل الألم الذى يعتصر قلبها الآن هو ألم فراق ما تبقى من عائلتها فقط, أم ألم الوحدة التى ستزداد وتنهش ما تبقى من انسانيتها, وهل تبقى من آدميتها شىء بعد ما فعلته بأمها؟!,


توقفت حركتها مع توقف جسدها فجأة وقد ودعت الذكريات عند هذا الحد وعدَّلت من وضع النظارة الشمسية القاتمة فوق عينيها رغم غياب أشعة الشمس بفعل الرياح القوية المحملة بغبار ورمال القبور من حولها وقد أدركت أنها قد تاهت بين المدافن واختلف الطريق عليها, ابتعدت نعم ولكن ليس كثيرًا, وهي الآن لا ترى أحداً يمر بها لتسأله, دارت حول نفسها وهى ترفع أناملها تتلمس وجنتها المبتلة من أثر الدموع, ثم قررت أن تمشى فى خط مستقيم لتصل إلى ذاك المنعطف التى رأته وهى تشرأب برأسها وتستطيل على أصابع قدميها الطويلة لعلها ترى منفذاً من بعيد .


سارت خُطوات متعجلة متحسسة طريقها والصمت يحوم حولها, يقلقها ويثير مخاوف قديمة برأسها, رائحة الموت تنبعث من كل اتجاه, تُرى هل يُحاسبون الآن على ما فعلوا فى دنياهم, بماذا يجيبون, هل يُعذَبونَ بذنوبٍ أم ينعمونَ بتوبة؟!, أجفلها نباح كلب يفر فى الطريق الغير ممهد من بعيد وقد سَهجَت الريح فأسرعت تحث الخطى حتى بدأت تلهث بقوة وتتعثر خطواتها التى اقتربت إلى الركض واستحال سواد ملابسها إلى الرمادي بفعل الغبار المتناثر والأكياس البلاستيكية والأوراق المُمزقة المتطايرة من حولها وأمامها بفعل الرياح, لحظات أخرى وتراءى لها باب إحدى المدافن القريبة مواربًا قليلاً وسمعت صوتًا ما آتٍ من الداخل, ظنت على الفور بأنه أحد الزائرين لهذا القبر, وأنها قد وجدت أخيرًا مرشدًا لتلك المتاهة الحجرية التى ضاعت بها, صعدت السُلم الصغير واستندت بكفها على حافة الباب وهى تنظر للداخل وتتنحنح بخفوت دافعة الباب بخفة قليلاً وتتقدم خطوات بطيئة متمهلة نحو شاهد القبر باحثة عن مصدر أصوات تُشبه الهمس, ارتفع حاجباها دهشة عندما وجدت المكان خاليًا تمامًا, لا أحد على الإطلاق !


هل كانت تتخيل أم ماذا ؟!


نفضت القلق عنها وهى تشرع فى الإستدارة للعودة ولكن جسدها ارتج للخلف بقوة قبل أن تُكمل استدارتها وارتطمت بأحد حواف الباب الحديدي خلفها بقوة فأغلقته لتصبح وحيدة بالداخل, اتسعت عيناها بذهول ورعب وهى متجمدة تنظر إلى غطاء القبر الذى بدأ يتلاشى فجأة أمام ناظريها وكأن ذرات ترابه وأحجاره تتبخر فى الهواء بسرعة كبيرة وتغيب فى السماء التى أكفهرت فجأة وأظلمت, بضجيج يكاد يصم أذنيها, تعرى القبر وظهر جليًا من الداخل ورأت الجسد المسجى بداخلهِ محاطًا بالكفن الأبيض ووجه مكشوف أمامها, لا ليس وجهه, بل وجهها, إنها امرأة .




حاولت أن تتراجع ولكن قدماها تجمدتان عن الحركة فسقطت على ركبتيها هلعًا فوق الرمال المبعثرة على أرض المدفن وغاص قلبها بين أضلعها، حتى شعرت بجنون نبضاته تكاد تخترق حنجرتها, حاوَلت أن تصرخ ولكن صوتها اُحتُجزَ فى قاع حلقها, عندها أدارت المرأة وجهها الشاحب إليها شحوب الموت وقد رحلت عنه ألوان الحياة وغارت مقلتيها للداخل, تعرفت رؤى على ملامح المرأة وحاولت الصراخ باسمها, هالة !, ولكن صوتها لم يصل لفمها أبدًا, صوت همس هالة كان أشبه برياح تعبر بجوار أذني رؤى فاتسعت عينيها عندما فهمت ما همست لها به والذى لم يكن سوى كلمتين فقط " بناتي .. بناتي "


#وقالت_لي




الفصل الثاني : رحيل




2-


خرج من عمله مندفعًا نحو سُلم الشركة الخارجي, يحمل سُترته بأصابعه خلف ظهره وقميصه غير مُهندم مفتوحة أول ثلاثة أزرار منه بعبث وكأنه خارج من معركة ما للتو, تابعته عيون رجال الأمن أسفل البناية بفضول وتساؤل, بينما تجاهل نداءات عادل صديقه و زميله فى العمل المتكررة والذى حاول اللحاق به قبل أن يبتعد ولكنه لم يجبه, لقد خُصم له منذ قليل ثلاثة أيام أخرى من راتبه على إثر مشاجرة افتعلها هو عندما أخطأ متدرب فى أحد أرقام الحسابات, لم يكن مجرد شجار أو انفعال, لقد أمسك بتلابيب الموظف وهو يصرخ به ويسبه, حاول زملاؤه تهدئته ولكنه لم يستجب لتحذيرهم حتى سمعه مدير فرع الشركة الذى اكتفى فى المرة السابقة بمجرد لفت نظره وتوبيخه, أما هذه المرة فلقد تجاوز حدود العمل بكثير, شهر تلو الشهر وهو يفقد أعصابه واتزانه وحب زملائه بسبب سلوكه العنيف والغير مبرر من وجهة نظرهم, لا يعلمون ما يعانيه بعد فقدانها, الندم والألم أصبحا يلوكانه بين فكيهما, المسؤولية التى باتت تثقل كتفيه تجاه ابنتيه بعد غياب والدتهما لم يعد يحتملها, كل يوم يقف عاجزًا أمام حروف جنى و لُجين المبعثرة لا يستطيع فهم جملة مفيدة منهما, لا يستطيع التعامل معهما, اكتشف ولأول مرة أنه لم يكن والدهما فعليًا, لا يعرف عنهما أى شىء, ماذا تأكلان, كيف تنامان, ماذا يفعل عندما تستيقظ إحداهما ليلاً باكية من نومها وأحيانًا مُبللة فراشها, تنادي أمها وتبحث عنها فى جميع غرف المنزل وفى النهاية تجف دموعها فوق وجنتها وهى تنام مرغمة وشهقاتها متواصلة تشق صدره, لا يعلم ماذا يفعل .




هل كنتِ تحملين كل هذه المسؤولية يا هالة دون أن أدري, دون أن أشعر, بل كنتُ أحيانًا أتساءل ماذا تفعلين طوال اليوم فى غيابي, اليوم علمت, اليوم أدركت, اليوم أنام فى فراش بارد وحدي, أفتقد حتى شجارك معي, أفتقد روحك الدافئة, حبك الصامت لي. لماذا لا نشعر بقدرهم إلا بعد أن يرحلوا, ذهابًا بلا عودة؟.


أحتاجك يا هالة أحتاجك بشدة !.


عندما عاد إلى منزله مر فى البداية على شقة والدته ولكنه لم يجدها, ولم يجد البنات أيضًا, ترى أين ذهبت؟, صعد إلى شقته التي لم يعد يدخلها إلا نادرًا منذ وفاة زوجته وانتقل هو وبناته للعيش فى شقة والدته بعد أن أصبحت الوحدة صديقهم الأوحد, دارت عينيه فى الأركان وهو مازال يقف على عتبتها, نوافذ شقته كانت مغلقة والستائر تحجب عنها الشمس كما تركها تمامًا, الغبار يعلو الأثاث والسجاد والحوائط, كانت تعج بالأصوات والحركة والحياة, والآن صامتة كالقبر بلا زوار.


لم يستطع أن يخطو خطوة للداخل إلا قبل أن يمد أنامله ليُضيء المصابيح, وعندما دخل لم يغُلق الباب خلفه, تريثت خطواته وهو يلج غرفة الفتيات ويُشعل ضوئها فى البداية قبل أن يلفها بعينيه لثوانٍ, ترى أين خبأت والدته الدفتر التى كتبت فيه هالة خطابها الأخير له ولبناته, لقد خشيت عليه والدته الانهيار مرة أخرى فخبأت الدفتر ولم تخبره بمكانه, كانت لديه رغبة قوية فى قراءة وصيتها لجنى و لُجين ولكن والدته لم تمهله فاستطاع بالكاد قراءة كلمات مبعثرة هنا وهناك فى الورقة, تعلقت عينيه فقط بالكلمات التى كررتها هالة للبنات وهى تطمأنهما قائلة مرارًا وتكرارًا:


- سأكون حولكما دومًا, وكعادتى سأنام بغرفتكما دون أن ترياني


ترى ماذا كانت تقصد بتلك الجملة وماذا كانت تعني بتحذيرها إياه عندما كتبت له " أحذر غضبى " !


فى تلك اللحظة نبأته حواسه بأنه لم يعد وحيدًا فى الشقة عندما سمع صوت حفيف ثياب كحفيف أوراق الشجر قادمًا نحوه وشعر بكف باردة توضع على كتفه من الخلف, التفت فزعًا وقد صدر منه رغمًا عنه شهقة مكتومة, وما أن اكتملت استدارته حتى واجه عينيها وهى تحرك رأسها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة وتقول:


- العادات القديمة لا تموت !


زفر بقوة والشحوب يودع وجهه وتعود إليه الحياة مُجددًا وهو يمسحه بكلتا يديه ثم ينظر لها وهو يرفع عينيه إليها بعتب قائلاً:


- لا أعلم ماهى هوايتك فى إفزاعي هكذا كلما حانت لكِ الفرصة!


ضربت والدته بعصاها على الأرض وهى تضحك بخفوت قائلة:


- لا أستطيع أن أفوت على نفسي فرصة رؤيتك وأنت مذعور هكذا كالأطفال


زفر من جديد وتخطاها حانقًا وخرج من الغرفة ثم من الشقة كلها هابطًا إلى الأسفل ومازال قلبه يحارب ليعود إلى نبضاته الطبيعية, تستغل والدته كل فرصة ممكنة لإفزاعه بمتعة عجيبة وكأنها تلهو منذ أن علمت بالفوبيا التى تُصيبه فى الأماكن المهجورة والأصوات العالية المُفاجئة بجواره .


تحولت ملامحه من التشنج والحنق إلى الحنو والهدوء عندما وجد ابنتاه تقفان على عتبة باب شقة والدته ويرتديان ملابس دار الروضة المخصصة بهما, جنى تُكتف يديها فوق صدرها وتحاول أن تضغط جرس الباب بلسانها و لُجين تدفعها بعيدًا عن زر الجرس بتقزز وهى تنظر إلى لسان أختها وكأنه قد تحول إلى ثعبان يريد ابتلاع فريسته ببرود, أسرع بالخطى نحوهما وحملهما فجأة تحت ذراعاه وهو يدخل بهما شقة والدته هاتفًا بحب:


- أيتها المشاغبتان


لحقت بهم والدته وأغلقت الباب خلفها ووقفت تنظر إليه وهو يدغدغهما وهما تضحكان بصعوبة وتنظران إليه نظرات مندهشة لعدم اعتيادهما على مداعباته أو التقرب منه, تقدمت والدته وجلست على الأريكة العتيقة بجوارهم وهى تقول بلا مقدمات:


- لقد وجدت لك عروس مناسبة


توقف عن الحركة وضاعت نظراته مع اختفاء ابتسامته بالتدريج فلم يبقى منها سوى شبح ابتسامة مرسومة فوق وجه حزين بينما ضحكات البنات كانت تصله وكأنها صدى يتردد من بعيد, ألن تيأس أمه من هذا الحديث, ألن تمل أبدًا؟!.


يكفي هالة وما سببه لها من ألم وعذاب, حتى آخر رمق لها, هل يُدخل امرأة أخرى فى حياته ليعذبها هى أيضًا حتى تموت مكتوية بناره !, رفع رأسه عندما سمع حديث والدته مُكررًا بتصميم هذه المرة:


- هشام, كن واقعيًا, أنا أتحرك بصعوبة وأختك عصبية ملولة تحتمل زوجها بالكاد, ولا تسأل عنا سوى فى المناسبات فقط, والبنات يحتجن إلى أم ترعاهما, اليوم تعبت بشدة عندما ذهبت بهما إلى دار الروضة وهناك بحثت عن عاملة تأتى لتأخذهما كل يوم إلى هناك وتعيدهما ثانية فى آخر اليوم .


لقد استطعت أن أجد مخرج لتلك المشكلة أما بقية مسؤوليتهما فأنا لا أستطيع حلها, أنا أعتنى بنفسي بصعوبة يا ولدي


نهض واقفًا وهو يضع كلتا يديه حول خصره وغصة مُسننة عالقة فى حلقه لا فكاك من ألمها, يكاد يتنفس بصعوبة وهو يشعر بها تقف بجواره وتقول بإصرار:


- إنها تحب بناتك ولديها استعداد لترك عملها و..


هتف وهو يستدير نحوها متسع العينين:


- هل هى تعمل أيضًا؟!


حاولت الحديث ولكنه قاطعها وهو يضحك ساخرًا وحروفه تقطر بؤس ومرارة:


- تعمل!, زوجة أخرى تعمل, ماشاء الله, ثم نخوض حرب ضروس بعد الزواج لرغبتها فى العودة للعمل, ومشاجرات لا تنتهي, وألم وعذاب ثم موت .


- ياولدي هى ستترك العمل بإراداتها وستـ..






صرخ مقاطعًا أمه من جديد وقد صارت عيناه حمراء بلون الدم من فرط انفعاله وهو يسترجع لحظات شجارهما فى أول عام مر عليه بعد زواجه الأول:


- هالة تركت العمل أيضًا بإرادتها من أجلي, ثم ماذا, ألم تشهدي بنفسك على حربها معي لكي تعود لعملها؟!, لا يا أمي .. لا وألف لا, لو كانت هذه الفتاة هى آخر امرأة على وجه الأرض لما تزوجتها أبدًا.


وقبل أن تستوعب كلماته كان قد خرج من الشقة بنزق صافعًا الباب خلفه بقوة معلنًا رفضه الصريح لرؤى دون حتى أن يعلم من هى.


***


ها هى قد رُفضت كما توقعت من البداية, وقبل أن يراها من الأصل, فكيف لو رآها؟, رفعت رؤى رأسها بإحباط تخشى النظر لعيني والدة هشام حتى لا ترى انعكاس هزيمتها فى معركة لم تبدأ بعد وهى تسمعها تتنهد بحسرة قائلة:


- أعلم ياابنتى أنك وافقتي على مضض, لقد حكت لي هالة رحمها الله كل شىء, وأنا الآن وجهي منكِ فى الأرض, لا أعلم ماذا أفعل


ضغطت رؤى الدفتر الذى تركت به هالة الوصية والرسالة بين يديها بانفعال وتوتر رغمًا عنها قبل أن تقول بصوت لايكاد يُسمع:


- لا عليكِ يا خالة, المهم الآن هو مصلحة جنى و لُجين, أيًا كانت من سيتزوجها لابد وأن تكون رحيمة تستطيع التعامل مع حالة الفتيات بعد أن انزوتا هكذا .


أومأت والدة هشام برأسها مؤكدة وهى تمط شفتيها بحيرة, أين تجد من تتوفر بها هذه الصفات, لقد شاهدت فتيات كُثر فى المركز الطبي كلما ذهبت للحجامة أو التحدث مع عبير هناك, فهل تجد عندها مطلبها؟, نهضت واقفة متكأة على عصاها بضعف وظهر منحني وقد عقدت العزم على ألا تترك عبير إلا بعد أن تُرشح لها أكثر من فتاة مناسبة لظروف ولدها وبناته, لا سبيل آخر أمامها .








 رواية  #وقالت_لي .. الفصل رقم 2 .. دعاء عبد الرحمن 


روايات دعاء عبدالرحمن ـ مشاعر غالية


23 أكتوبر 2017  · 


#وقالت_لي




الفصل الثالث : اقتران




عادت والدة هشام إلى منزلها بعد أن تركت رؤى على حالتها المُحبطة تلك, وبرغم تعاطفها معها إلا أنها وجدت نفسها تذهب من فورها إلى مركز العلاج الطبيعي حيث عبير وفتياتها الكُثر من حولها, فمصلحة ولدها فى المقام الأول, والمسؤولية الملقاة على عاتقها أكبر عندها من الجميع, ومن أجل العلاقة القوية التى استطاعت والدة هشام تكوينها مع عبير فى الفترة الماضية, استمعت لها الأخيرة للنهاية بصبر ثم وعدتها بصدق بالبحث الجاد لها عن زوجة مناسبة, ضربت عصاها على الدرج وهى تتكأ عليها بشرود مستندة إلى بعض الأمل لتصعد الدرجات إلى حيث شقتها وعندما أدارت المفتاح فى الباب سمعت خطوات سريعة تصعد إلى نفس الطابق, التفتت عاقدة حاجبيها ثم ما لبثت أن انفرجا بانشراح وتغضنت زوايا عينيها بابتسامة مجعدة وهى ترى (عادل) صديق ولدها يقفز السُلم برشاقة صعودًا بجسده النحيل ويبتسم لها وهو يُحييها بمرح:


- وأخيرًا التقينا يا جميلة !


ضحكت والدة هشام وهى ترحب به بشدة وتدعوه للدخول, عادل هو الوحيد القادر على إضحاكها بمرحه المعتاد, تحبه كولد ثانٍ لها وتتعجب دومًا من قدره المُشابه لقدر هشام فى كل شىء تقريبًا, هو أيضًا رحلت عنه زوجته وتركت له طفل حديث الولادة وقد فاضت روحها إلى بارئها أثناء ولادته, الفارق الوحيد بينهما أنه وزوجته كانا عاشقين, وبعد فراقها رفض كل حديث عن زواجه بآخرى, لم يكن يتصور امرأة أخرى بجواره بعد حبيبته الراحلة, وانشغل بالاعتناء بطفله بمساعدة والديه, حتى هذه اللحظة !.


عندما دعته للجلوس فى الداخل وهى تستعد لدخول المطبخ لإحضار مشروب له أوقفها رافضًا ثم سأل عن هشام فتنهدت بأسى وهى تشير برأسها للغرفة الداخلية:


- نائم كالعادة بجوار بناته


استدارت لتعود إلى المقعد المجاور له وهى تستند كليًا على عصاتها بكلتا يديها ثم تركن بذقنها إليهم متابعةً بعدم رضا:


- بعد عودته من العمل يقضي معظم يومه نائمًا كما ترى يا ولدى


ارتكز عادل إلى فخذيه بمرفقيه وهو يطرق بكعب حذاءه الأرض قليلاً متمتمًا:


- أصبحت أعصابه على المحك, كل يوم يفتعل مشكلة ما مع أحدهم


ناظرته بقلق بينما هو ينهض ويأتى بمقعد خشبى عتيق يضعه أمامها بشكل عكسي ثم يجلس فوقه مواجهًا لها محاولاً الحديث بجدية:


- اسمعي يا خالتي, لابد وأن تزوجيه, إن تزوج حُلت مشاكله تمامًا صدقيني


لمعت عيناها ساخرة وهى تشير إليه بذقنها هاتفة:


- انظروا من يتكلم !!


رفع كلتا يديه باستسلام مدافعًا عن نفسه:


- لا لا لا, خالتى أنا مُختلف


- بل أنت مُتخلف


حاول ألا يقهقه بقوة ولكنه لم يستطع منع ضحكة عالية بالظهور لثوان قبل أن يكبتها بكفيه معتذرًا وهى ترمقه ليصمت ففعل على مضض قبل أن تشير إليه ليقترب بانتباه تام وقد بدا عليها أنها على وشك البوح بسرٍ عظيم, فاقترب وهى تهمس له:


- زوجته رحمها الله كانت قد حدثتنى قبل وفاتها عن فتاة وحيدة تعمل فى دار الروضة القريبة من هنا وهى معلمة للطفلتين أيضًا, واعدتها عدة مرات وتعرفت إليها وهى فتاة طيبة ومؤدبة للغاية وحنونة جدًا على الأطفال .


سكتت هنيهة ثم أشاحت بوجهها يسارًا بتذمر وهى تستمر بالهمس بعد أن مصمصت شفتيها:


- ولكن المحروس ولدي رفضها دون حتى أن يراها بمجرد علمه بأنها عاملة (تعمل).


أومأ برأسه مؤكدًا وكأنما يساندها فى تذمرها وهى تتابع أسرارها الحربية مغمغمةً:


- حتى بعد أن أخبرته بأنها ستترك العمل ظل على رفضه وثورته .


واشتعلت عيناها بحماس جاء كزائر جديد على حديثها وهى تلوح بيدها بتصميم حتى كادت أن تُصيب عينيه:


- خمس فتيات رأيتهن وأنا فى مركز العلاج الطبيعي الذى أتعالج فيه ولقد وعدتني الطبيبة هناك بأن تأتي إلي بالمزيد, بيني وبينك الطبيبة صديقتي ولكنني لا أحب التفاخر كما تعلم !.


كان يومىء برأسه بلا توقف وهو يرهف سمعه لها وما إن انتهت حتى قال بخفوت يبادلها أسرارها:


- هل هى جميلة؟!


عقدت حاجبيها بتفكير لنصف دقيقة كاملة قبل أن تقول بتردد:


- لا أعلم يا ولدى هل يصح أن أصف لك امرأة منتقبة أم لا


رفع حاجبيه مندهشًا قبل أن يهتف بغرابة:


- العروس منتقبة؟!


- إنها حتى غير محجبة يا معتوه


- أنتِ من قلتِ بأنها منتقبة


- أنا أتحدث عن الطبيبة أيها المُختل


أعاد رأسه إلى الوراء بإدراك متأخر:


- آآه , فهمت


مجددًا مصمصت شفتيها وهى تنظر له مستهجنة جهله المطبق وهى تتحسر بهدوء:


- يبدو أن ولدي ليس هو المحروس وحده كما كنت أظن


حرك رأسه نفيًا وهو يجيبها :


- صدقيني يا خالتي, المحروسين كُثر فى هذا البلد الجميل


رغمًا عنها ابتسمت ابتسامة واسعة وهى تهز رأسها متعجبة قبل أن تنظر فى عينيه بمكر متسائلة وقد ظهرت لها لمعة حديثة فى عينيه:


- عادل, أنت قررت الزواج أخيرًا, أليس كذلك؟


اتسعت عيناه بدهشة قبل أن يراوغ مجددًا:


- أوتقرأين الأفكار أيضًا, قلبي الصغير لا يحتمل؟


نهرته بجدية هذه المرة متجاوزةً عن مزاحه الثقيل هاتفة بوجهه:


- لن تفلح مراوغتك, أنت قررت الزواج, صحيح ؟


أطرق برأسه أمام ذكائها ومعرفتها به وقال معترفًا متهربًا من عينيها:


- أنا رجل فى النهاية يا خالتى وأحتاج إلى شريكة لحياتى, والطفل أيضًا يحتاج إلى عائلة متكاملة, ولكنني لم أجد امرأة بالمواصفات التى أريدها بعد .


ناظرته بهدوء وهى تفكر فى الدقائق القليلة السابقة, عندما انتابها الحزن على وحدته للحظات وعشقه لامرأته المتوفاة, والذى بدأ ينحصر بجوار تلك اللمعة المضيئة فى عينيه لمجرد أن أعاد التفكير فى المسألة, وتضع نفسها فى كفة الميزان الأخرى وهى التى وهبت عمرها لتربية ولدها بعد رحيل زوجها وصممت على ألا تمنح نفسها لغيره مهما حدث .


لماذا تقارن الآن وهى من سعت للبحث عن عروس لولدها بمجرد أن علمت بمرض هالة المميت, أهو ذاك دور البطولة الذى يتلبسُنا بعوارضه دومًا عندما يتعلق الأمر بالآخرين؟!, أم هى فقط سُنةُ الحياة؟.


وجدت وجهها يرتفع تلقائيًا نحوه وتسأله بتفهُم:


- هل تريدنى أن أرشح لك واحدة؟


ازدرد ريقًا وهميًا وتنحنح ليجلى حنجرته أو لُيخفى ارتباكه ربما وهو يجيب بتمهل:


- أعجبتني مواصفات العروس التى رفضها هشام دون أن يراها, فقط أريد أن أعرف, هل هى جميلة؟


تعجبت أكثر وهى ترفع كتفيها بحيرة وتقول:


- أنت وذوقك


- كيف !


زفرت بنفاذ صبر منها وقد احتدم الصراع بداخلها, ماذا تفعل, هل تُعطى فرصة أخرى لـ هشام ربما يُعيد النظر فهو الأنسب لها, أم تعتمد على وعد عبير وتترك لـ رؤى فرصة مع عادل, حسمت أمرها أخيرًا بقرارها أن تترك الأمور عالقة بعض الشىء وتمسك بالعصاة من المنتصف فقالت:


- بُنى, كل رجل وله ذوق مختلف, فمثلاً فى الماضى كانت الفتاة ممتلئة القوام هى الأجمل فى عين الرجال وهى ذات الحظ الأوفر فى طلب يدها للزواج, أما الآن فربما الوضع يختلف بعض الشىء, ربما تكون جميلة فى عينيّ ولكنها لا تعجبك, أنت وذوقك !


رأته يُغمض عين بينما يبقى الثانية مفتوحةً وهو ينظر لها بريب هاتفًا بإدراك:


- خالتى, أنتِ تلاعبيني !


ضربت عصاها فى الأرض حانقة وهى تنهض صائحة فيه ونظراتها تحيد بعيدًا عنه:


- اسمها رؤى وأنت تعرف عنوان دار الروضة, أذهب وانظر إليها, ولا تتحجج بي, سأذهب لأوقظ صديقك المخبول مثلك !


تبعتها نظراته وهى تلج الغرفة الأخرى وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره الكثيف مفكرًا فى الأمر بجدية أكبر, سيفعل ما قالته بحنق قبل أن تنصرف غاضبة, سيذهب ويراها ويتحدث إليها ربما تعجبه, بالتأكيد هالة لن توصي إلا بفتاة تأمنها على ابنتيها وبيتها, لن تأخذ مكان زوجته السابقة حتمًا فهى قد تركت وجعًا مستمرًا فى خافقه الذى كان يعشق كل تفصيلة بها, ربما تساعد رؤى فى تسكين هذا الألم وتُعيد إلى روحه الراكدة لمحة من حياة غادرت بلا عودة, ولم لا؟! .


***


- أنت تُشبه الأطفال فى تشبثك بما تريد يا عادل, سأنصرف حالاً


كانت العبارة الحانقة لـ هشام الذى ألقاها وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله وهو يستدير مستعدًا للانصراف ولكن عادل تمسك بمرفقه بقوة وهو يجذبه ليعيده بجواره أمام السور الخارجي لدار الروضة هاتفًا برجاء:


- وتتركني وحدي فى هذا الموقف؟!


زفر هشام بعدم رضا وهو يلوم نفسه على استسلامه لرغبات صديقه المراهق الكبير, عندما أخبره عادل برغبته فى الارتباط مرة أخرى, بارك هشام هذه الخطوة الجديدة التى كان يتوقعها منذ أسابيع وهو يشعر بحاجة صديقه للزواج مُجددًا, ولكن لا ينكر أنه فوجىء عندما علم برغبة عادل فى الزواج من نفس الفتاة التى رشحتها له والدته من قبل, ومع تصميم عادل الذى لم يستطع الفكاك منه اضطر إلى الإنصياع له ومرافقته إلى دار الروضة ليراها صديقه من بعيد أولاً حتى إذا أعجبته يقفز إلى الخطوة التالية ويحدثها عن رغبته بزيارة رسمية لبيت عائلتها, فى البداية رفض الذهاب معه بشدة فالأمر برمته لا يخصه, ولكن عادل قطع عليه الطريق بمكر وهو يسأله إن كان قد أعاد التفكير فيها كعروس مستقبلية مما جعله يزفر فى النهاية مُعلنا موافقته وها هو الآن يقف بجواره كمراهقان يتسكعان أمام مدرسة للبنات فقط !.


جاءت أمام عادل الفرصة التى كان فى انتظارها منذ ساعة على الأقل وعبرت إحدى عاملات النظافة من البوابة الداخلية للدار ومرت بالحديقة الصغيرة حتى توقفت أمام صندوق القمامة الخارجي وهمَت بأن تضع به أحد أكياس القمامة الكبيرة السوداء, تحرك عادل سريعًا نحوها ورآه هشام يتبادل معها الحديث قليلاً قبل أن يدس فى يدها ورقة مالية ما ورآها تبتسم له وهى تُشير بأصبعها إلى كلتا عينيها وتستدير لتعود للداخل, قطب هشام ما بين حاجبيه بضيق وهو يتوقع الحديث الذى دار بينهما, لم يكن استياؤه بسبب الحديث نفسه, بل للطريقة السهلة التى يستخدمها عادل دومًا ليحصل على ما يريده ببساطة لا تُذكر طالما يملك ثمنه !.


وضع عادل يديه بابتسامة زهو فى جيبي بنطاله الجينز وهو فخور بذكائه ويحث الخطى نحو هشام الحانق الذى ينظر فى ساعته كل ثانيتين تقريبًا, وعندما اقترب منه هتف هشام بقلة صبر:


- عادل, أمامك خمس دقائق فقط وسأتركك هنا وأنصرف, اليوم الدراسي أوشك على الإنتهاء ولو حضرت أمي صدفة ووجدتني هنا لن يمر الأمر هكذا ببساطة, وأنت تعلمها جيدًا .


لم يكد ينتهي هشام من إلقاء وعيده, حتى وجدا العاملة تعبر الباب خروجًا مرة أخرى وتتجه نحوهما بابتسامة واسعة متأملة وتُسرع الخطى نحوهما بنظرات تلمع بالنصر المؤزر!, اقتربت العاملة منهما وهى تمد يدها لـ عادل بالهاتف المحمول, وبالرغم من قِدمِ تاريخ تصنيعه إلا أن كاميرا الفيديو به تُسجل بشكل لا بأس به, تناول عادل الهاتف منها واقترب بجسده من هشام وهو يُعيد تشغيل الفيديو التى سجلته العاملة لـ رؤى وهى تتحدث بتلقائية بداخل أحد الفصول مع الأطفال وتمازحهم بلطف, تعلقت عيني عادل بعينيها لدقيقة كاملة وابتسامة خفيفة علت شفتيه مما جعل هشام ينظر إلى الدقيقة الأخرى الباقية فى زمن الفيديو بفضول ثم تسائل مُتمتمًا:


- هل هذه هي ؟


أومأ عادل برأسه ومازالت الابتسامة تعلو شفتيه وهو يُدقق بملامحها الصغيرة مما جعل هشام يوقن بأنها سكنت منطقة القبول بقلب عادل وخصيصًا وهو يرى نظرة الرضا والشغف التى تتراقص بعيني صديقه منذ بداية تشغيل مقطع الفيديو حتى نهايته, لم يكن هشام وحده من لاحظ ابتسامة عادل بل العاملة أيضًا فعلت وهى تتحفز فى وقفتها منتظرة بقية الإكرامية بلهفة وشغف, ولم يخب ظنها, منحها عادل ورقة أخرى بسخاء هذه المرة وهو يشكرها ويناولها هاتفها وعندما انصرفت مُسرعة تكاد تطير من السعادة برغم ثقل وزنها, التفت عادل نحو هشام وهو يحاول رسم تعبير حيادي على وجهه قائلاً:


- أعتقد أنني سأنتظرها لأتحدث إليها, لو أردت الانصراف أنت, لا بأس


رفع هشام حاجبيه بخبث وهو يستند إلى حافة الباب الخشبي القصير والملون الذى يقف بجانبه يريد التلاعب بصديقه قليلاً قائلاً:


- أنا غير مُتعجل, لو أردت الإنصراف أنت فافعل


لم يلحظ عادل نبرة المزاح فى صوت هشام مما جعله يرفع وجهًا متجهمًا نحوه, كان هشام يريد الاستمرار فى مزاحه ولكن ملامح عادل فى تلك اللحظة كانت كفيلة بأن تُطلق العنان لضحكاته العالية وهو يُمسك بذقن عادل ويقول بأسلوب ساخر:


- هل وقعت فى الحب من أول مقطع فيديو يا صديقي؟


حرر عادل ذقنه وهو يدفع هشام بغيظ وقبل أن يرد عليه رأى بعض النساء مقبلة نحو باب الدار من أكثر من اتجاه فعلم بأن اليوم الدراسي قد انتهى وستخرج له عروسه الغافلة عما يحدث حولها بين لحظة وأخرى مما جعله ينسى هشام تمامًا ويلتفت بكامل انتباهه مراقبًا الباب الداخلي, نظر هشام إلى ساعة معصمه وقرر التحرك على الفور قبل أن تخرج الفتيات أو تراه والدته ويقع فريسة بين يديها .


لم يشعر عادل بانصراف هشامًا وهو يراها تخرج حاملة حقيبتها وتتحرك بخفة بين الأطفال المندفعين للخارج بتهور, لا يعلم لماذا تتعلق عيناه بعينيها تحديدًا ولا يكاد يحيد عنها, هذه ليست خصاله أبدًا, فهو كالمعتاد فى مثل هذه المواقف يحدق بالفتاة بالكامل ولابد وأن يحصل جسدها على نسبة نجاح لاختباراته لا تقل عن تسعين بالمائة, هذه فقط التى ودون أن تدري أسرت عينيه بداخل عينيها وجعلته غير قادر على تحريكهما بعيدًا عنها, نظرتها الطفولية تقطن بها دمعة خفية تلمع من خلف زجاجها الشفاف, ربما هى دمعة تأثر وقد كانت يدها تربت بحنو على وجنة طفلة يظهر عليها أنها من ذوي الاحتياجات الخاصة, هل هى حنون إلى تلك الدرجة!, وعندما التفتت إلى العاملة ورأتها تصورها اعتقدت بأنها تمزح معها فبادلت الكاميرا ابتسامة بريئة وكأنها تبتسم له هو بالذات, سر ما بها, ربما عندما يقترب يستطيع فك اللُغز .


تقدمت العاملة منها وهمست لها وهى تشير بأصبعها نحو عادل الذى استطاع المرور بسهولة من بين النساء والوقوف بأقرب مكان منها, اقتربت منه بروتينية وإرهاق واضح وهى تتوقع أن يكون أحد أولياء الأمور ويريد السؤال عن ابنته, وعندما وقفت أمامه مرحبة به بعملية ومن دون ابتسامة واحدة, تلعثم قليلاً قبل أن يتمالك نفسه ونظراته تتمركز بداخل عينيها متسائلاً:


- آنسة رؤى ؟


أومأت برأسها مؤكدة بصمت منتظرة أن يبدأ بتعريفها باسم ابنته ولكنها فوجئت به يقول على الفور:


- هل من الممكن أن تمنحيني عنوانك بالضبط !


***


كاد أن يقع على وجهه بعد أن تعرقل بأحد درجات السُلم ولكنه حافظ على اتزانه فى اللحظة الأخيرة وهو يمسك بسوره الحديدي واعتدل ينظر خلفه بتذمر نحو والدته التى كانت تدفعه من الخلف ليصعد بعد أن لاحظت تردده ووقوفه عن الحركة لثوانِ, عدل من قميصه الأزرق بفتور وهو يزفر بشدة ويطمئن على وضعية عُلبة الحلوى الكبيرة فى يده الأخرى ثم يُكمل رحلة الصعود للطابق الرابع بلا حول ولا قوة, ها هو قد أطاعها رُغمًا عنه بعد أن نفذت حُججه وقد أتت له بعروس يتوفر بها الشروط التى تمسك بها ورفض رؤى من أجلها, فتاة لم تكن تعمل فى يوم من الأيام, محجبة, وعلى استعداد لتقبل ظروفه وتربية بناته كما يحب, حاول أن يهرب من حصار والدته كثيرًا ولكنها لم تيأس وظلت تطارده بمكرها لأيام, مرة تدعي المرض وترفض إعداد طعامه, ومرة تضغط عليه بالحديث المتواصل عن عادل صديقه الذى أخذ منها مواصفات رؤى وعنوان عملها فى دار الروضة وفى الأسبوع التالى اتصل بها ليدعوها لحضور حفل زواجه البسيط والسريع. تمشي خلفه من غرفة لأخرى تحكي له عن العروس الجميلة التى رشحتها لها عبير وامتدحتها بكل الصفات الرائعة, حتى يأس وأصبحت حياته لا تُطاق, وأخيرًا اضطر للرضوخ والموافقة, الفتاة يتيمة الأبوين وتعيش مع عمها فى تلك البناية فى الطابق الرابع الذى كاد أن يتجاوزه أثناء شروده لولا والدته التى جذبته من ذراع قميصه متأففة من ضياعه وهى تهمس بأنفاس متلاحقة بأنهما وصلا إلى الشقة المنشودة, استدار وهو يُخلص قميصه من قبضتها ويهتف من بين أسنانه بغيظ :


- أمى, لماذا تعامليني هكذا, احترميني قليلاً ؟


أومأت برأسها بعدم رضا وهى تجيبه بزمجرة خفية وتُشير نحو باب الشقة:


- معك حق, فى المرة القادمة سأضربك بالعصا على رأسك, هيا اطرق الباب لقد تأخرنا


حرك رأسه بيأس وهو يرفع يده للضغط على جرس الباب لمرة واحدة فقط وهو يتأمل الحائط المجاور للباب الذى رُسم فوقه صورة لجمل يمشي فى الصحراء يعلو رأسه طائرة ما وبجوارهما مكتوب عبارة مشهورة " حج مبرور وذنب مغفور", اعتاد تلك الجملة كثيرًا بالرغم من فضوله الذى يدفعه دائمًا إلى البحث عن الرسام الذى رسم هذه الرسومات الفذة ليسأله سؤالاً واحدًا " لماذا يجمع بين الجمل والطائرة دائمًا وما علاقة الجمل بالحج هذه الأيام " ؟!


أخرجه صوت تحرك خلف الباب من تساؤلاته اللامعة فاستعاد نظراته الحيادية وهو يبتعد قليلاً عن الباب بجوار والدته, ليفتح لهما رجل وقور لم يتجاوز العقد الخامس من عمره, ناقضت هيئته المستقيمة التى تدل على صحة وفيرة شعر رأسه الأبيض بالكامل مما يجعل من يشاهده لأول وهلة ينخدع بعمره الحقيقي, رحب الرجل بهما للغاية وهو يصطحبهما إلى غرفة استقبال الضيوف ذات المساحة الضيقة بجوار الباب مباشرة, تبعته زوجته التى أتت لاحقًا تحمل صينية المشروبات والحلوى, كان الرجل بالفعل على علم كما هو المعتاد بتلك الزيارة ومن الواضح من المقابلة الدافئة والمُرحبة بشدة بأن الأمر لاينقصه سوى تعارف الطرفين فقط, عرف من حديث الرجل بأنه عم العروس وفى مكانة والدها تمامًا لديها, وهى تعيش معه هو وزوجته منذ أن فقدت والديها, تبادلوا الأحاديث حول ظروف هشام الخاصة متطرقين إلى وفاة زوجته الأليمة وغيرها من مناقشة وضعه المادي الذى لم يختلفوا حوله أبدًا, ثم طال الحديث عن والد العروس رحمه الله ومدى تعلقها به وتعلقه بها بشكل خاص حتى أن هشام وجد عينيه تدمع رغما عنه وتعاطف معها دون أن يراها .


من الواضح أن العروس خجولة للغاية وتخشى اللقاء, فزوجة عمها خرجت إليها عدة مرات وفى كل مرة تعود بدونها, حتى أن الظنون بدأت تراوده حول رفضها له.


طرقات خفيضة على الباب من الخارج قطعت عليه أفكاره وجذبت انتباهه ونظراته لقدمين تلجان إلى الغرفة بتردد واضح وكأنها تريد العودة من حيثُ أتت, صاحبتها رائحة مسكية ليمونية أنعشت حواسه, مرت عينيه مرتحلة على تفاصيلها من أسفل إلى أعلى ببطء, اصطدمت نظراته بأصابع كفيها المتشابكة ببعضهما البعض بتوتر أمام معدتها وكأنها تعاني ألمًا ما بها, ولكن عينيه لم تتوقفا بل استمرت فى الصعود راحلة حتى جاء دور وجهها أخيرًا فى الظهور أمام شاشتهما البراقة, فى تلك اللحظات كانت والدته تقوم بدورها فى احتضانها بحفاوة ودعوتها للجلوس بجانبها, تأففت نظراته وهى ترجو والدته بالابتعاد قليلاً, مازال يريد وجهها أكثر, جلست بجوار والدة هشام مطرقة إلى الأرض وجهها متورد بخوف أكثر منه خجل, لم يتحدث إليها وترك لوالدته العنان, فهى كفيلة بالأمر, بالإضافة إلى أنه مشغول بمراقبة وجهها المُخبتىء أكثره خلف حجابها الرقيق حوله, انشغل عقله بمدى التقارب والتمازج بين لون حجابها ولون عينيها, وفى هذه اللحظة اكتشف بأنه كان يبتسم, وبأن عمها وزوجته كانا يراقبان ابتسامته تلك عن كثب بملامح منشرحة, ترى هل هذه نفس ابتسامة عادل وهو يشاهد رؤى؟, ابتسامة القبول !


تنحنحت والدته وهى تنهض موجهة حديثها نحو زوجة العم وهى تطلب منها الذهاب للحمام, بإدراك شديد نهضت المرأة سريعًا وهى تأخذ والدته للخارج وبعد ثوان لحق الرجل بهما وتركهما وحيدين ولكن برفقة بعضهما البعض .


شكر هشام صنيع والدته بداخله وهو يلتفت نحو عروسه محاولاً جذب طرف حديث ما بينهما يجعلها تنظر إليه وتتحدث معه, هو يعلم بأنه لا يجيد الحديث لذلك تنحنح عدة مرات يجلى صوته وهو يضع كأس العصير الساكن بيده على الطاولة الصغيرة المقابلة له والفاصلة بينهما, وبدأ بسؤالها عن أحوالها بشكل جعله يبدو كأبله أو معتوه كما تقول له والدته دائمًا وهى تقرعه, وعندما وجد منها إجابات تشبه الهمس إلى حد كبير, بحث عن موضوع ربما هى تحبه فيجعلها تتكلم بأريحية أكثر فاختار أن يسألها برقة عن والدها وما قاله عمها عن علاقتها القوية به, وبالفعل نجح فى جذب انتباهها وجعلها تؤكد له ما أخبره به عمها من معلومات عنه, عادت عيناه تدمعان من جديد عندما رأى الدموع تترقق فى عينيها بحزن وهى تتحدث عن تدليله لها والذى افتقدته بشدة .


ضعفها أمامه جعله يشعر فى لحظة بمسؤولية خاصة تجاهها, حشرجة رقيقة بصوتها سببتها الدموع, أشعلت رغبة بداخله للبحث عن إجابة سؤال ساحر طاف بوجدانه .


سؤال حول لون عينيها عندما تبتسم, كيف ستكون ياترى؟, كانت رأسها قد عادت للأسفل من جديد وهى تجفف دموعها برقة عندها سمعته يناديها مشاكسًا:


- جديلة (تشكيل)


رفعت رأسها نحوه بدهشة بالغة من جرأته, كيف واتته الجرأة ليرقق اسمها هكذا بعد دقائق من لقائهما الأول؟!, مسحت وجهها بكفيها وقد احتقن لونه للغاية وهو يتابع بتلذذ, مراقبًا تقلب أنفاسها البادية بقوة فى تسارع صدرها صعودًا وهبوطًا:


- والدك كان فنانًا حقًا فى اختيار هذا الاسم ليخصك به


لم تمهله عائلتها وقتًا إضافيًا ليستمتع بهذا الشعور الغريب الذى بدأ يغزوه وهو يرى مدى تأثيره عليها بمجرد أن رقق اسمها فقط, طرقة واحدة على الباب النصف مغلق دخل بعدها عمها ومن نظرة واحدة لابنة أخيه علم بأنها فى ورطة ما, اقترب منها فوقفت ناهضة على الفور وهو يحيط بكتفيها متسائلاً باهتمام:


- جدايل, هل أنتِ بخير حبيبتي؟


أومأت برأسها له وهى تهمس برغبتها فى العودة لغرفتها على الفور, تركها تغادر وهو يستشعر سخونة وجهها واحمراره المبالغ فيه وجلس يستكمل الحديث مع هشام باهتمام وحماس متجاهلاً ألقُ البَرْقِ الظاهر بقوة فى عينيه, وعند عودة زوجته ووالدة هشام بدأ الحديث يأخذ مجرى آخر وتلقائي بعد أن تكلمت والدة هشام بصراحة عن إعجابها بـ جدايل ورضا ولدها الواضح دون الحاجة لسؤال, فى البداية كان قلق بخصوص تفاصيل الماديات التى ستُطلب منه وبالأخص لأنها لم تتزوج من قبل ولكنه وجد العكس تمامًا والرجل يُيسر له ويقول له بصراحة أن يأتي بما يستطيع تحمله فقط .


وبدون أن يرى الدكتورة عبير كما تقول عنها والدته دومًا شكرها بداخله عن الهدية التى قدمتها له دون سابق معرفة, " جدايل " هدية لا يليق بها سوى تدليل كتدليل والدها لها 






 #وقالت_لي




الفصل الرابع : الروح




-1-




كان ذلك اليوم مختلفًا جدًا, مختلفًا لدرجة أن لاحظ زملاؤه فى العمل تبدل حاله بشكل مفاجئ, بداية من رجال الأمن على بوابة الشركة الذين لم يصدقوا أنفسهم وتبادلوا مع بعضهم البعض نظرات مندهشة عندما مر بهم فى الصباح بابتسامة واسعة وهو يلقى عليهم تحيته التى غابت عنهم لشهور, أما الخمسة موظفين الذين تضمهم غرفة مكتبه بداخل الشركة فلم يكونوا أقل اندهاشًا, بل على العكس, ردوا تحيته وهم يحملقون به ويتأملون هيئته الجديدة, ذقنه الحليق, ملابسه المهندمة, يده التى ترتفع بالسلام على كتف كل من يقابله منهم, يوزع ابتساماته بالعدل على الجميع, واحد فقط من الخمسة هو من لاحظ قلق دفين خلف تلك النظرات المُشعة, ومن يكون سوى صديقه الوحيد.


عندما جلس هشام أخيرًا خلف مكتبه وهو يُرسل نظرات ضاحكة رُغمًا عنه نحو عادل الذى كان ينهض من خلف مكتبه ويتقدم نحوه, أحنى عادل جذعه تجاه هشام وهو يربت على كتفه هامسًا بتفكُه:


- هل يعني هذا أنه تم تحديد موعد الزواج؟


التفت إليه هشام محاولاً كبح جماح شىء مُزهر لا يعلم كنهه, يغرز بتلات سعادة بقلبه, مطلاً بقوة من خلف نظراته يعلن عن نفسه ويفضح صاحبه, وهو يرد على همسته بهمسة زاجرة قائلًا:


- دعني الآن يا عادل وأعدك أن أُشبع فضولك عندما ينتهي العمل, اتفقنا؟


اعتدل عادل واقفًا وهو يرفع كلا حاجبيه ويحرك رأسه ويتنهد بيأس من صديقه, نعم لقد تغير مظهره, بدى الإشراق على وجهه, ولكن, هشام سيظل هشام إلى الأبد, يخاف أن يُعلن عن سعادته أمام الناس, يخشى إظهار فرحته لهم, يعتبر الحب سرًا من الأسرار العليا لا يجب أن يعلمها أحد, بل ولا يلاحظها من الأساس, يخاف من الحسد؟, أم ربما يرى الحب ضعفًا يجب أن يوارى خلف الحُجُب!


فى نهاية اليوم وفّىَ هشام بوعده وهو يسير بجوار عادل ويحكي له القبول الذى شعر به عندما رأى جدايل لأول مرة, وكيف قابله عمها وزوجته مقابلة حسنة ومُتفهمة لظروفه, وكيف عجلت والدته بالأمر كأسرع من سلق بيضة من دجاجة يتيمة, ولم تنتظر حتى أن يصلي صلاة استخارة, وقامت بكل الاتفاقيات اللازمة بالنيابة عنه فى جلسة واحدة بحماس متقد وكأنها تترافع فى قضية رأي عام!, ولقد كان حدس عادل فى محله تمامًا فبالفعل تم تحديد موعد عقد القران فى نهاية هذا الأسبوع, والزفاف فى نهاية الأسبوع المُقبل, وهذا يعني أن أمامهما عدة أيامٍ فقط للتعارف, وعليه أن يجعلها تعتاد عليه بعض الشىء قبل الزفاف .


وضع عادل مجموعة من حبات الفول السودانى دفعة واحدة بفمه ثم قال باعتراض:


- والدتك لم تقم بعملها كما يجب


التفت نحوه هشام بدهشة بينما حافلة ذات لون أحمر باهت تمر بجواره مُسرعة وتلال من البشر يتعلقون بأبوابها المفتوحة وعادل يومئ برأسه مؤكدًا:


- نعم لم تقم بعملها جيدًا, كان يجب أن تتعلم من والدتى, فلقد اتفقت فى جلسة واحدة على زفاف مباشرة خلال عشرة أيام فقط, وتم لها ما أرادت


كاد هشام أن يُعلق ولكنه لاحظ شرود عادل بعض الشىء وهو يستطرد بنظرات غامضة:


- ربما لأن ظروف رؤى زوجتي مختلفة, فهى وحيدة


تنحنح هشام وقد أدرك للتو أنه نذل كبير, فلم يخطر بباله مرة واحدة منذ شهر كامل, مذ أن حضر حفل الزفاف الصغير لصديقه أن يسأله عن أحواله مع زوجته الجديدة, وهل هو مرتاح معها أم لا!, فهو يعرف عادل جيدًا, إنه عكسه تمامًا, يكتم الحزن بداخله ويرتدى قناع المرح دومًا ليداريه عن الناس, أما السعادة فهو كفيل بالإعلان عنها لكل من هب ودب!, فلقد أعلن خبر زواجه على الشركة بأكملها بمجرد أن اتفق على موعد الزفاف, بل وتعارك مع مدير فرع الشركة لأول مرة ليحصل على إجازة لأسبوع كامل, وعندما عاد من إجازته لم يكن يمشي بل كان يطير على أجنحة السعادة بينهم, أما ومن أيام قليلة, فقط عدة أيام لا تتعدى أصابع اليد الواحدة, تبدل حاله, أصبح يشرد كثيرًا, وهو لم يكلف نفسه ليسأله لماذا!, حسم قراره وخِصاله بعدم التدخل فى شؤون الآخرين تحاربه وتساءل بحزم لم يقصده:


- بمناسبة حديثك عن زوجتك, كيف حالك معها أنت وطفلك؟


زفر عادل بقوة وقد ظن بأن هشام لن يسأله أبدًا, فهو يحتاج للحديث ولكن لا يعلم ماذا سيقول بالضبط, إنها مجرد مخاوف لا يعلم لماذا تراوده بشأنها, نفض كفيه من بقايا قشر الفول السودانى العالقة به ودسهما فى جيبي بنطاله كعادته وقد توترت نظراته قليلاً وهو يقول:


- لا أُخفي عليك ياصديقي, فى البداية كانت علاقتنا جيدة للغاية ولقد شعرت بحبها لي وحاجتها لحبي, وأصدقك القول هى تهتم بي وبطفلي بحب لم أكن أتخيله, ولكن فى الأيام الاخيرة تبدلت قليلاً, هناك شىء ما تخفيه ولا أعلم ماهو !


رفع هشام يده يحك ذقنه مفكرًا وهو يمط شفتيه ثم عقب قائلاً:


- تقصد أنها لم تعد تهتم ؟


حرك عادل رأسه على الفور نافيًا وهو يجيب والحيرة تزداد بقلبه وعقله أكثر:


- لا, هى تهتم بلا شك ولكن, تُخفي أمرًا ما عني, منذ أيام خرجت ولم تخبرني تاركة طفلي عند والدتى, وعندما سألتها بهدوء ثارت بدون مبرر واتهمتني بأننى أحبسها بالبيت وأراقب خطواتها كالمجنونة.


- ألم تعرف إلى أين ذهبت؟


ودون أن يجيبه توقف فجأة أمام دُكَان صغير زُجاجي يعرض أنواع شتى من الزهور وابتاع منه باقة ورود صغيرة مختلفة ألوانها, جمعها له البائع بمهارة وسرعة بداخل عقدة حمراء اللون زاهية, دفع عادل ثمنها وهو يتأملها برضا, وعندما خرجا لُيتابعا سيرهما, أستكمل عادل حديثه وكأنه لم يتوقف قائلاً:


- المشكلة بالنسبة لي ليست أين ذهبت, أنا أثق بها وأعلم أن النساء تحتاج أحيانًا إلى التسوق بعيدًا عن سأم الرجل السريع, المشكلة أنها تضع بيننا المسافات والحواجز وتُخفي الأمر عني, أصبحت تشرد كثيرًا وعندما أسألها تتهرب مني


نظر هشام إلى باقة الزهور بيد عادل وقال ساخرًا:


- وهذه الزهور رشوة بالطبع لتبوح بما تخفيه


ضحك عادل بخفة وهو يرفع الزهور يستنشقها بقوة ثم يردف مبتسمًا:



- نعم هى رشوة بالفعل, ولكن لأمر آخر, لأنها طلبت العودة إلى عملها اليوم صباحًا ونحن نتناول الإفطار سويًا وأنا رفضت فغضبت مني, حاولت مصالحتها والتفاهم معها ولكنها أوصدت باب غرفة النوم وهتفت من خلفه بطفولية بأنها لن تخرج حتى أرحل .


سكت هشام تمامًا وهو يتنهد بعمق وهو يسبل أهدابه حتى كاد أن يصطدم بالعجوز الذى مر بجانبه, وبداخله يحمد الله على أنه سبحانه ألهمه بعدم الموافقة على الزواج منها, ماذا لو كان تزوجها وقلبت حياته إلى جحيم لتعود للعمل مرة أخرى كما تفعل الآن مع عادل وكما فعلت هالة معه من قبل .


توقفت أفكاره للحظات عندما قفزت ذاكرته إلى هالة الراحلة, التي قامت بنفس العاصفة عندما رفض أن تعود لعملها بعد الزواج, ولكنه لم يأت لها بزهور, تركها تغضب وتصيح كل يوم وعندما سئِمَ أخذ يبادلها صياحًا بصياح وشجارًا بشجار واستحالت حياته إلى جحيم فِعلي لم يُخرجه منه إلا حملها بالتوأم جنى و لُجين .


لكزه عادل بكتفه ليعبر معه الطريق سريعًا ويهبطا إلى أقرب محطة مترو, وعندما وقفا على الرصيف فى انتظار القطار القادم, نظر هشام نحو عادل وقال وكأنما يتحدث إلى نفسه:


- وهل تعتقد أن الزهور تأتي بنتائج مع امرأة عنيدة, مُصممة على ما برأسها


ابتسم عادل وهو يعلم بأن هشام فى هذه اللحظة لا يتحدث عن رؤى, إنما هو عالق فى ماضيه, فمال باتجاهه قائلاً بخفوت:


- المرأة لا تكون عنيدة إلا عندما يهملها زوجها يا هشام, فتريد لفت انتباهه بعِندها كما يفعل الأطفال, لذلك أنا على يقين بأنها تريد العودة للعمل لا للعمل نفسه ولكن لأنها شعرت بانشغالي فى الأيام الماضية وبدأ اهتمامي بها يتناقص


ورفع باقة الزهور أمامه وهو يتابع بمرح ماكر:


- وباقة الزهور هذه كفيلة بالأمر, مع كوب من غزل غير عفيف, ورشة من شغف رجل بامرأته لا تستطيع أن تصده, وهكذا أستطيع أن آكل عنادها هنيئًا مريئًا !


بُوق القطار قضى على الحروف المتبقية من حديثه وتحفز جميع الناس على محطة القطار وعندما توقف أمامهم يفرد طوله على الرصيف الطويل وفتحت أبوابه اندفع الناس إليه, لدرجة أن من يحاول الخروج ربما يدخل مرة أخرى بقوة الدفع, هذه القوة البشرية هى التى دفعت بـ هشام للداخل بصحبة عادل ولكن عقله كان وحيدًا تمامًا, منفصل بالكلية عما يحدث من حوله, والتساؤلات تدور بذهنه بلا توقف, لماذا كان يظن زوجته لا فائدة منها, ولماذا لم يلجأ إلى ناصح أمين كـ عادل له خبرة فى التعامل مع المرأة, ربما كانت مشاكله قد حُلت معها, كان يرى حياته معها بمنظور واحد, منظور متجمد, لو هُدمت الدنيا حوله لن ينظر لها من غيره, ولن يحيد يمينًا أو يسارًا, ربما كان سيجد بابًا آخرًا يلج منه إلى نقطة تفاهم مع هالة, كان دائمًا يحاول فتح باب خلفي, بينما الباب الأمامي مُشرع على مصرعيه !


***




زخاتُ مطر خفيف تتسابق واحدة بعد الأخرى فوق سطح زجاج نوافذ السيارة المؤجرة, تُلاعب المسَّاحات الأمامية لها وتتحداها أن تستطع محوها بسهولة, بينما طرقاتها الخفيضة المتتابعة ترفع رايتها البيضاء مُعلنة الهزيمة أمام قوة ضربات قلب جدايل الساكنة على المقعد المجاور لـ هشام وهو يقودها إلى بيته, إنها تُحب صوت تلك الطرقات الهامسة على الزجاج المجاور لها, طيلة العام تنتظر الشتاء لتنصت لها ليلاً من خلف نافذتها المُغلقة وكأن بينهما خبيئة ما, تتلحف بغطائها الصوفي الثقيل وتُغمضُ عينيها, " المطر" تنام على ترنيمته الهادئة كرضيع فوق ساقي والدته وبين ذراعيها مسترخيًا بجسده فوق صدرها وهى تهدهده بلحن يعتاده يوميًا, ما بالها الآن لا تستطيع أن تستمع له وقد ذوى صوته وتراجع خلف نبض خافقها الذى يضخ بين أضلعها بصعوبة مؤلمة, خوفًا, قلقًا, أو انتظارًا !


لو كان الانتظار يقتل لقتلها فى التو, لماذا ضاقت المساحة الفاصلة بينهما بداخل السيارة هكذا, تكاد أنفاسه الثقيلة بصحبة عينيه المتعلقة بالطريق تبتلع الهواء بالكامل بداخل السيارة الغارقة بهما فى اللازمان, تكفي شحنات التوتر التى لازمتهما منذ بدأت منحنيات الطريق يشير إلى اقتراب منزله, متى سيصلان وينتهى الأمر لتبدأ رئتيها فى التنفس من جديد .


كان يلتفت نحوها بطرف عينيه بين دقيقة وأخرى ثم يعود ليتابع الطريق مجددًا, يكاد يسمع دبيب أفكارها المُشتتة بوضوح, تشي بها بشرتها المتقلبة الألوان بين الوردي المُحبب والشحوب الشديد, وهى تتابع بعينيها حبات المطر, بداية قوية لشتاء يعده بالكثير, أحيانًا يُذكرنا الشتاء بما فقدنا, أو ربما بما كنا نملك ذات يوم !.


لقد فعل كل ما بوسعه فى الأيام السابقة ومنذ أن عقد قرانهما ليجعلها تعتاده كخطيب وزوج, جلسات مطولة بينها وبين بناته, كانت لها نصيب الأسد من الزيارات العائلية وقد كان يترك لها مجال الانفراد بالفتيات وحدهما لفترة طويلة كما طلبت منه ليعتادا على وجودهما معها, كان يفرح باهتمامها بهما وخصيصًا أن قالت له والدته بفخر ذات مساء:


- جدايل قالت لي أنها قد اشتركت فى دورة لعلاج تأخر النطق عند بناتك


خجلها المتزايد لم يكن يترك له فرصة سوى بعض المكالمات الهاتفية التى كان معظمها من نصيب والدته, والدته التى كانت شريكًا أساسيًا فى اختياراتها لأثاث بسيط احتل أركان شقته من ثلاثة أيام فقط. أصر هشام من البداية أن لا يعيشان مع والدته بشقتها, ولم تُمانع الأخيرة أو تعترض وكأنها هى أيضًا أصابتها حمى الخوف من تكرار الماضى, فأحضرت امرأة تعرفها لفتح شقته وتنظيفها حتى صارت جديدة براقة وباعت جُل أثاثها القديم, لتتأنق الشقة بأثاث جديد للعروس القادمة على استحياء, ها هى قد أوشكت على التخلص من هذا العبء الثقيل ورميه على أكتاف أخرى, بداخلها يعرف بأنها شاركت فى تعاسة ولدها مع هالة, ضميرها يؤلمها ويحثها على عمل أي شىء لتراه سعيدًا مستقرًا مرة أخرى, فكل شىء مباح فى الحب والحرب !, والآن تقف بانتصار فى صدر الشقة وأمام بابها بعد أن وضعت طعام العشاء للعروسين .


وجبة فاخرة تركت من أجلها حفل الزواج الصغير الذى لم يحضر فيه سوى المقربون فقط, حتى عادل حضر وحده واعتذر عن عدم حضور زوجته لمرضها, وجعلت ابنتها وزوجها يُقلاًّها بسيارتهما إلى المنزل لتُعدها كما يجب, وتضعها فى شقة ولدها قبل وصوله هو وعروسه .


استمعت إلى أصوات أقدام وحفيف ثياب ثقيلة تصعد السُلم فتحركت على الفور تجاه باب الشقة المفتوح من البداية لتستقبلهما أمامه قبل دخولهما, كان المطر قد نال من ملابسهما فابتل فستان العُرس الأبيض ولم تنجُ حُلة هشام من البلل التام وقد خلع سترته بمجرد أن خرج من سيارته ورفعها فوق رأسيهما لتحميهما قدر المستطاع من الماء, أقبلت والدة هشام تُهنئ جدايل وتحتضنها وقد دمعت عيناها بهدوء وراحة عندما بادلت هشام الاحتضان وهى توصيه بعروسه, ولم تنسَ أن تلذعه بلسانها قبل أن تغادر هامسة فى أُذنه:


- أرفع رأس أبيك يا ولد


تركته والدماء تغلي في عروقه بسببها وهبطت للطابق الأسفل لشقتها حيث ينتظرها فراشها الدافئ بجوار الفتاتين النائمتين فى فراشها منذ أن حملهما زوج ابنتها من سيارته ووضعهما فى سريرها وانصرف هو وزوجته دون تقديم عرض مبتذل عن اصطحاب البنات معهما ولو حتى لحفظ ماء الوجه, ولمَ يفعلان؟ وماذا لو وافقت؟ لا .. الأفضل ألا يتدخلان من البداية كما هما دومًا !


حملت جدايل فستانها الثقيل بفضل البلل وهى تَلج للداخل ولم تنسَ تنظيف حذائها جيدًا قبل الدخول بينما تبعها هو مُغلقًا الباب خلفه بهدوء, وقف بجانبها يلتقط أنفاسه ويراقبها وهى تتجول بنظرها بين أركان صالة الاستقبال بتمعن وكأنها تتأكد أن كل شىء مكانه تمامًا كما وضعته أول أمس, ابتسم بحماس وهو يدعوها للجلوس قليلاً ولكنها قالت بخجل وهى ترفع ذيل فستانها عن الأرض :


- سأدخل لأبدل ملابسي أولاً, ذيل الفستان مبتل وقد علق به التراب وأخشى أن يُفسد السجاد أكثر من هذا


أومأ لها موافقًا برأسه وهو يتنحنح مُحرجًا دون سبب واضح, خلع حذاءه وتركها تدخل غرفة النوم بينما تقدم هو قاصدًا أول مقعد أمامه وجلس وهو يُرجع ظهره للخلف مغُمضًا عينيه محاولاً الاسترخاء قليلاً وتجميع عبابيد أفكاره المندفعة بكل اتجاه بعقله, اليوم كان مُرهقًا جدًا له, أضطر إلى عمله صباحًا لعدة ساعات قبل أن يذهب بعد مداولات عدة لمحاولة الحصول على إجازة زواج لأيام, والتى لم يستطع أن يحصل منها سوى على يومين فقط يليهما يوم الجمعة والسبت, إجازة طويلة بالنسبة له لم يحصل عليها من قبل سوى فى الأعياد !


هل تأخرت جدايل بالداخل أم هو فقط يتوهم, أم لعله يشتاق؟!,


زفر وهو ينهض واقفًا لا يدري ماذا يفعل, أخذته قدماه دون إرادة نحو غرفة بناته المُغلقة, فتحها برجفة دفينة لا يعلم سببها ودخل ويده تسبق قدميه وترتفع تلقائيًا نحو زر الإضاءة كعادته, وقف يتأمل الغرفة النظيفة حوله بذهن شارد ويداه تتدفأ بجيبي بنطاله, يَشعُر بالاشتياق الشديد لأول مرة بحياته, هل لأنها عروس جديد؟, ولكن لا, لقد كان يشعر بهذه اللهفة لرؤيتها وللحديث معها فى كل مرة يذهب لزيارتها, أو تأتي هى لوالدته, فى كل محادثة هاتفية كان يتذرع بأي موضوع ليُطيل الحديث معها ويسمع صوتها أكثر, فهي خجلة جدًا, يراها غامضة, هل يكون هذا هو سبب شغفه, كونها غامضة عليه, لا تتحدث بالكثير, لا تُثرثر, مازالت كتابًا مُغلقا مُدَون بلغة أخرى غير لغته .


" ألم أقل لك " !, عبارة رن صوتها بخاطره جعلته ينتفض, ويتراجع للخلف بظهره حتى خرج من الغرفة و يسحب بابها معه ليغلقها مُجددًا, يرى حروفها ترتسم بعقله وقلبه معًا, وكأن أحدًا ما يشاركه قلبه وعقله ورأى ما يدور بهما فأجابه على الفور بها, مجرد حروف ولكنها صاخبة جدًا, ضج بها فؤاده, " إذا تزوجت بأخرى غامضة صامتةً ستصبح شغوفًا بها, على عكسي " !, مرر كفه على خصلات شعره وأصابعه تنغرز فيها بتوتر شديد وكلماتها السابقة له تسحق ضميره سحقًا وتَدْلَهِمَّ بها سماء عينيه .


- هشام !




استدار سريعًا للخلف وأهدابه ترفرف بقوة وكأنه يجبر عقله على الخروج من ذكرياته ليرى من تقف أمامه فى هذه اللحظة, ليستعيد حاضره, أطرق للحظات وهو يحاول تهدئة أنفاسه المتصارعة بصدره ثم رفع رأسه نحوها مبتسمًا بمرح زائف ويسألها:


- هل تُخططين لقتلي جوعًا ؟!


ابتسمت جدايل وهو تُطرق برأسها هامسة:


- آسفة, تأخرت بالفعل


تأملها قليلاً قبل أن يُشير نحو الطاولة ذات السطح الزجاجي والبيضاوية الشكل التى تتوسط المقاعد الذهبية اللون وقد وضعت فوقها والدته صينية ضخمة مستديرة مملوءة بالطعام, تحركت جدايل بين المقاعد حتى اختارت واحدًا وجلست فوقه بخفة, بينما جلس هو قبالتها والطاولة تفصل بينهما وبدأ يزيح الستار عن الطعام الشهي والصمت يعتلي اجتماعهما المنفرد هذا لأول مرة ويفرض سيطرته, لم يكن لأحد منهما شهية كبيرة فنهضا من جلستيهما تلك بعد دقائق معدودة وهو يدعوها ليُصلي بها ركعتين وهو بداخله يتمنى أن تقضي الصلاة على توتره وتشتت أفكاره هذا ولو بعض الشىء, وبالفعل بدأ الهدوء يعم قلبيهما عندما وقفت خلفه وكبر هو للصلاة, كان يحاول جاهدًا أن يُركز كل تفكيره فى الكلمات القرآنية التى يتلوها بينما شيطانه يجذبه نحو ذكرى بعيدة, حُرمت فيها هالة من هذه الراحة النفسية التى تنساب الآن بين هشام وجدايل, فلم يكن لأي منهما دراية بهاتين الركعتين الخفيفتين وقد انتهت بهما الليلة الأولى نهاية درامية للغاية, أعقبها تدخل سافر من والدته فى اليوم التالي قضى على الكثير من فرحتيهما بأول أيامهما سويًا


تركها لدقائق بعد الصلاة ليبدل ملابسه خارجًا ثم عاد إليها وبداخله حماس لأن تكون هذه الليلة مختلفة عن ما عاشه من قبل, وفى الصباح لن يسمح لوالدته بالتدخل وسيقف لها بكل حسم إن حاولت حتى, لن يُفرط كما فرط مع هالة .


عندما عاد إليها كانت تقف أمام المرآة الكبيرة تُعدل من مظهرها بعد تخليها عن ملابس الصلاة


فوقف حائلاً بينها وبين المرآة مما جعل التوتر يعود إليها وتطرق برأسها أرضًا .


- جديلة


عندما ناداها مُداعبًا لم ترفع رأسها ولكنه استطاع أن يرى ارتعاش جانبي شفتيها ربما بابتسامة صغيرة, أمسك بكفيها وقبلهما برقة هامسًا محاولاً استعادة جميع الدروس المُستفادة التى أخذها من عادل طوال الأيام السابقة:


- أشعُر بمشاعر مختلفة لأول مرة بحياتي, لأول مرة قلبي يتنفض شوقًا عندما أقترب من امرأة, حقيقة أنتِ تمنحينني الكثير, أكثر مما كنت أتخيل أن أشعر يومًا


لأول مرة!, همست بحيرة دون أن ترفع رأسها وهى تحاول جاهدة السيطرة على ارتعاشاتها المتواصلة:


- أنت كنت متزوج من قبل !


أرسل تنهيدة طويلة وقد انتقلت حيرتها إليه ربما عبر أناملهما المتشابكة الآن والتى يضغطها برفق بين أصابعه:


- نعم, ولكن صدقيني, أنا أحيا معكِ مشاعر تطرق باب قلبي لأول مرة


ارتعاشة أخرى لاحظها على جانبي شفتيها فأراد أن يرى الأبتسامة بوضوح, يريد أن يستمتع بمزيج مشاعرها مع لون عينيها المُميز وهى تبتسم لعينيه عن قُرب, مد يده أسفل ذقنها ليرفع رأسها إليه, رفعت عينيها المتوترة المُهتزة فى البداية نحوه بصعوبة وهى تجاهد لأن لا تنظر فى عينيه مباشرة, رآها تحيد بعينيها جانبًا نحو المرآة من خلفه وفجأة امتقع وجهها وشحب كالأموات, وصرخت وهى تندفع للخلف بقوة وتتعثر وتسقط أرضًا بعد أن اصطدم ظهرها بالحائط من خلفها, ملامح الرعب التى ارتسمت على وجهها وعينيها التى تجمدت على المرآة جعلته يتصلب مكانه للحظة وهو لا يستوعب ما حدث, ابتلع ريقه بصعوبة عندما أفاق من صدمته وهو يلتفت خلفه, لا شىء!, المرآة تعكس صورته بشكل طبيعي جدًا, عاد برأسه إليها فسقط قلبه بين قدميه عندما وجدها قد غابت عن الوعي .


لحظات عصيبة مرت به وهو يحاول إفاقتها بعد أن حملها فوق الفراش وغطاها جيدًا وهى لا تستجيب, وأخيرًا بدأت تتأوه وترمش بعينيها مرارًا قبل أن تفتحهما بشكل كامل, نظرت إلى وجهه المتلهف القريب من وجهها للحظة لا يُدرك عقلها بعد ما حدث, وفجأة استعادت ذاكرة الدقائق السابقة دفعة واحدة, فصرخت من جديد وهى تنظر نحو المرآة, ضمها إليه بقوة وهو يحول رأسه نحو المرآة لثانية ثم يُسيطر على انفعاله بها ويحاول تهدئتها بينما تمد يدها باتجاه المرآة مرتعشة وهى تهتف بصوت مبحوح من الرعب الشديد المُسيطر عليها:


- زوجتك, فى المرآة


عاد يضمها بقوة أكبر إلى صدره من جديد وهو ينظر ثانية إلى ما تُشير ويقول بصوت لم ينجح فى إظهاره متماسكًا:


- لا شىء حبيبتي, أنتِ تتوهمين


حركت رأسها المضمومة إلى صدره بقوة رافضة وهى تصيح:


- لا, رأيتها, كانت تبكي يا هشام, أنا متأكدة


تنحنح لا ليجلي صوته بل لطرد تلك القشعريرة التى دبت بجسده بشدة وقد فشل فى جعل نبرته هادئة, كاد أن يسألها وكيف تعرف شكل زوجته السابقة ولكنه تذكر فى اللحظة الأخيرة أنها رأت صور عدة لها بصحبة جنى و لُجين عندما كانت تحضر لزياتهما فى شقة والدته, لايعلم ماذا يفعل, التوتر يفرض سيطرته على جسده والبرودة تتسلل إليه بمكر يفقده صوابه, هو الرجل, ويجب عليه تهدئتها حتى ولو كان مرتعبًا وهو لم يرَ شيئًا, فكيف لو رأى !


- حبيبتي, اهدئي أرجوكِ, ارتاحِي قليلاً أنتِ مُتعبة فقط .


كان يشعر بصدرها يعلو ويهبط بجنون وجسدها الذى بين يديه ينتفض بقوة وبكاؤها يعلو شيئًا فشيئًا وهى تهتف بلوعة وخوف:


- كانت تبكي يا هشام, ولكن ليس دموع, كانت تبكي دمًا !


ماذا يفعل؟!, يضمها بقوة ولكن عينيه تدور حوله, يُقنع نفسه بصعوبة بأنها تهذي بالفعل وهو يهمس بآية الكرسي ويمسح على شعرها بيده الآخرى, وقعت عينيه على هاتفه الموضوع فوق المنضدة الصغيرة بجانب الفراش فمد يده وهو يميل بجذعه يمينًا حتى استطاع أن يلتقطه, مرر أصابعه فوق أزراره دون أن يفلتها حتى صدح منه صوت الشيخ أحمد العجمي يتلو سورة البقرة, وضع الهاتف بجانبهما وعدل من وضع جسده وهى تتشبث به أكثر حتى استطاع الإستناد بظهره إلى ظهر السرير جاذبًا الغطاء حوله هو الآخر يتدثر به معها وهو يهمس لها بأن كل شىء سيكون بخير وربما هو الخوف من ليلة الزفاف هو من جعلها ترى أشياء لا وجود لها, أغمض عينيه بصعوبة عندما هدأت أنفاسها فى صدره محاولاً إقناع نفسه بما كان يقنعها به منذ قليل !.


***




قضى نومه بين أحلامه المُعذِبة له والتى لم تسمح له بالإنسلاخ منها إلا بعد أن تسرب إليه رائحة دُخان قريب من أنفه, هناك شىء ما يحترق !, انتصب فجأة فى مكانه جالسًا فوق سريره وعقله يجاهد صحوته المفاجأة, ولم تكن عينيه بأقل مجاهدة من عقله وهى تحاول بكل الطرق اختراق سحابة الدخان الكثيفة المحيطة به والتى تملأ الغرفة بالكامل, قفز من فوق الفراش هاتفًا باسمها وهو يخرج من باب الغرفة باحثًا عنها, بمجرد خروجه من الغرفة اصطدم بجسد امرأة لم يتبين ملامحها ولكنه استطاع تميز صوتها وهى تزجره باستياء:


- انتبه لخطواتك يا معتوه


سعل بقوة محاولاً كتم أنفاسه المختنقة وقد بدأ عقله بتميز الرائحة وما يحدث حوله, وهو يسألها متبرمًا:


- أمى, ما كل هذا البخور, هل تنوين حرق المنزل !


مازالت تُمسك بالسلسال الكبير المتدلي منه المبخرة الدائرية, وتحرك يدها به حركات دائرية وهى تجيبه بجدية:


- هذا بخور البّر يا ولدى, يدفع عن المنزل العفاريت والأرواح, زوجتك حكت لي ما حدث لها بالأمس عندما أتيت إليكما فى الصباح, وهى الآن فى الأسفل بصحبة بناتك


تبعت حديثها بأن ظلت تتفُل حولها وهى تُتمتم:


- انصرفوا, انصرفوا


زفر بقوة وهو يعود إلى الداخل محاولاً التقاط أي ملابس من الخزانة ليبدلها بمنامته ويهبط إلى شقة والدته ليتفقد زوجته, طرق الباب بقلق فاستمع إلى وقع أقدام صغيرة تتسابق نحو الباب مصحوبة بضجيج يعرفه, فُتح الباب واندفعت الفتاتان نحو ساقيه بشغف, كل واحدة منهما تحتضن ساقًا وتدفع أختها بعيدًا, انحنى إليهما وحملهما إلى الداخل وهو يقبلهما مُغلقًا الباب بقدمه وعيناه تبحث عنها حتى وجدها تخرج من الممر الصغير المؤدى للمطبخ تحمل بيديها صحن فاكهة صغير كانت تعده للفتاتين, رفعت وجهها نحوه وهى ترد تحيته بابتسامة خفيفة خجولة وتُكمل مسيرتها حتى وضعت الصحن على الطاولة الخشبية العتيقة ثم التفتت إليه ورأته وهو يضع جنى على الأريكة بينما لُجين تتمسك بذراعه وهو يحاول إقناعها بأنه سيحملها مرة أخرى بعد قليل حتى وافقت على تركه أخيرًا, تسابقت الفتاتان إلى الطاولة حيث صحن الفاكهة بينما ثبت هو عينيه فى عينيها وهو يتقدم إليها, وعندما وقف أمامها تمامًا بادرته قائلة بحرج بالغ:


- آسفة لما حدث بالأمس


وضع كفه على ذراعها وهو يمسده صعودًا وهبوطًا بخفة قائلاً بخفوت وهو يُضيق عينيه باهتمام:


- هل أنتِ بخير؟


أومأت برأسها مؤكدة وهى تنظر نحو باب الشقة بتلقائية عندما فُتحَ ودخلت حماتها مغلقة الباب خلفها وهى تقول بتحدٍ موجهة حديثها نحوهما:


- تركت لكما البخور فى المطبخ, لو حدث شىء آخر أشعلاه على الفور حتى تخرج من الشقة ولا تعود


التفت هشام نحوها يريد سؤالها عما تتحدث ومن تقصد ولكنه خَشِىَ الإجابة, ربما عقله يرفضها ولكن خوفه القابع فوق عرش المنطق بعقله أمره ألا يفعل, منذ أن كان يستمع إلى تلك الحكايا عن أرواح الموتى التى تسكن الأماكن التى كانت تعيش بها يصدق ويوافقها, بل ومرت ذكرياته عن رسالتها التى تركتها للبنات أمام عقله كشريط سينمائي, تلك الرسالة التى لم يقرأها جيدًا ورغم ذلك عيناه حفظت تلك الجملة التى كرَرَتها هالة كثيرًا فى كل سطر بها وهى تقول لهما أنها ستبقى معهما دائمًا فى غرفتهما وتنام بجوارهما ولكنهما لن يستطيعان رؤيتها, وضعت والدته يدها على كتفه وهى تقول بجدية:


- خذ جدايل واصعد إلى شقتك الآن, سيمر زوج اختك بعد قليل ليصحبني معه وسآخذ معي البنات


عقد جبينه متسائلاً بتعجب شديد:


- إلى أين ؟


ملأت رئتيها بالهواء وقد ظهر الإنشراح على قسمات وجهها وهى تبتسم ابتسامة حُلوة وتجيبه:


- إجراءات السفر يا بُني, العُمرة, هل نسيت؟, سأسافر بصحبة أختك وزوجها !


لمس كتفها بحنان وهو يقترب منها وقد تشتتت أفكاره أكثر وأكثر, وبدى كالطفل الذى لا يريد فراق والدته وهو يقول باعتراض:


- لقد كنتُ أصرُ عليكِ كثيرًا لإتمام الإجراءات وأنتِ كنتِ تؤجلين الأمر, فلماذا الآن؟


- كنتُ أريد الإطمئنان عليك مع زوجتك يا ولدي, وها قد تزوجت والحمد لله, وأختك وزوجها سيذهبان للعمرة خلال أيام فلماذا التأجيل وأنت تعلم كم أشتاق للذهاب منذ فترة طويلة, فلم يعد فى العمر بقية .


أُعتِصرَ قلبه وهو يرى دمعة الشوق بعينيها, لا يستطيع منعها, هو أكثر شخص يعلم مدى اشتياقها للسفر إلى مكة, هذا الشوق الذى جعلها تعصر على نفسها ليمونة كما تقول دومًا لتسافر بصحبة زوج ابنتها الذي لا تطيقه, وكيف تطيقه وهى لا تُطيق ابنتها من الأساس, الحمد لله أنها تُطيق نفسها أصلاً !


عندما صعد إلى شقته ومعه زوجته كان متربصًا بعض الشىء وهو يتلفت حوله بعينيه فقط كى لا يثير انتباهها, أما فى الظاهر فلقد كان يبدو مرحًا وسعيدًا ليبثها الاطمئنان اللازم, ربما كان خائفًا قليلاً ومتوترًا, ولكن سحابة الشوق انزوى خلفها بقية المشاعر الأخرى وهو يعيش تجربة أخرى يظللها الشغف كما لم يكن من قبل, كرفيفٍ لأجنحة عصفور صغير وهو يستعد للتحليق للمرة الأولى راهبًا منتشيًا, يسحب نفسه ببطء ونعومة من بين فكي الماضي, بداخله يهمس لها بصمت مطبق, طهريني من أفعالي السابقة معها, أمنحيني صكوك الغفران, غلفيني بالأبيض, بينما تضج خلاياه وعروقه كلها نابضة بصخب, لا يسمع مناجاته سواه


هكذا يكون الشغف إذن ؟!



انحنى نحوها وهى تضع الطفل أمامها على مقعده المُخصص له وتُطعمه وتناغيه, قبل أعلى رأسها وهو يقول مداعبًا:


- وأنا أين عشائي يا زيتونة !


رفعت وجهها إليه وهي تُضيق عينيها باستهجان مرح هاتفة:


- اعتقني لوجه الله, كف عن مناداتي بهذا الاسم


عاد رأسه إلى الوراء ضاحكًا بينما هي تحمل مقعد الطفل من فوق الطاولة وتضعه على الأرض خشية سقوطه ونهضت تواجه ضحكاته التى يستفزها بها دومًا, دفعته من كتفه بغيظ صائحة:


- توقف عن إغاظتي يا عادل, أنا لستُ بزيتونة !


حاول التماسك بأن يوقف ضحكاته ويُهدئ صخبها قليلاً وهو يضع كفيه فوق صدره إشارة لطلب صفحها, وضعت يديها بخصرها بتأفف متبرمة حتى سكت تمامًا ثم أدارها إليه وأمسك وجهها بين كفيه فى طريقه إلى الاعتذار, رفع حاجبيه وهو يقول بجدية أغاظتها أكثر:


- آسف حبيبتي, أنتِ لستِ زيتونة, بل أنتِ طبق من القشدة


ابتسمت رغمًا عنها رافعة حاجب واحد بثقة ولكنها لم تتنازل عن التبرم العالق بشفتيها فكانت النتيجة النهائية شفاه معقوفة للأسفل قليلاً, ولكن عادل دمر أسفه مردفًا:


- طبق من القشدة سقطت فيه زيتونتان وشريحتين مكتنزتين من الطماطم الطازجة


غطت وجهها بكفيها وهى تحركه بيأس منه, هذا هو عادل, حبه مشاكسة, شغفه إغاظة, ولكن عندما يلحظ حزنًا ما بعينيها يتحول إلى عاشق متفهم لا يشق له غبار, إلا أنه يجدها فى هذه اللحظة فى مزاج جيد للمزاح بالإضافة إلى أنه جائع, فلمَ لا؟!, أمسك بكفيها ليحرر وجهها وقبلهما مُدعيًا الاعتذار, وقبل أن يتابع بمشاغبة أخرى سقطت نظراته على المقعد الوثير خلفها, منذ أسبوع تقريبًا وهناك كتابًا للحكايات لا يُفارق يديها, تصحبه معها أينما جلست, فقال بعد أن مط شفتيه ورفع حاجبيه متسائًلا:


- يا ترى ما السبب المفاجئ لشغفك بالكتب هذه الأيام؟!


أرتبكت قليلًا وكأنها لم تتوقع أن يُلاحظ وتنحنحت باحثة عن إجابة منطقية لثوانٍ قبل أن تجيبه بعينين زائغتين:


- وهل لديك مانع؟


تنفس بعمق ثم قبل جبينها بعينين شاردتين, يشعر بأن دواخلها غير سعيدة بغيابه طوال اليوم فى عمله, تشعر بالملل لذلك مزاجها متقلب بين يومٍ وآخر, لا يستطيع أن ينسى مظهرها وشكلها منذ أيام حين دخل المنزل فوجدها شاحبة تبكي بهستريا, تشبثت به حين رأته, كانت والدته قد هاتفته وأخبرته بأن رؤى مرت بها وتركت الطفل لديها متعللة بالتسوق ولم تعد إلا بعد غروب الشمس بهيئة تشبه شخص دُفن بالخطأ وهو على قيد الحياة, وعندما استيقظ وجد نفسه محاصرًا بين جثث الموتى, ظن أن والدته تبالغ ولكن عندما دخل شقته ورآها هكذا, توقع أن الأمر جلل بحق, ليلتها أخبرته بأنها فقدت وعيها فى المتجر الكبير ولم تكن تحمل هويتها فلم يتعرف الناس عليها ولم يأخذوها إلى أي مشفى وظلوا يحاولون إفاقتها لوقت طويل, وعندما استفاقت بقيت مع عاملة المتجر بقية اليوم حتى استطاعت التوازن من جديد ثم عادت لتأخذ الطفل من والدته لذلك كانت حالتها مزرية !.


بداخله شيء ما يجاهد لتصديق قصتها تلك وبالأخص لأنها حامل فى الشهر الأول من حملها ففقدانها توازنها أمر منطقي, ولكنه لم يكن مستريحًا أبدًا ولا يعلم لماذا!, وفى اليوم التالي وجدها تعبث بمكتبته الكبيرة وتصنع لنفسها ركنًا خاصًا بكتبها ودفاترها, كانت فى نظره خطوة جيدة لملء وقت فراغها بشىٍء مفيد كالقراءة, ولكن هذا لايكفي, لابد وأن تتواصل مع صديقة أو أكثر لتُكسر شرنقتها هذه, ومن يستحق الصداقة والتواصل سوى شخص تتشابك طرُقنا بطرقه بشكل أو بآخر, ومن غير زوجة هشام تعاني من نفس الوحدة التى تعاني منها رؤى, لا بل أكثر, ما قصه هشام عليه اليوم عن زوجته فطر قلبه على صديقه, أغمض عينيه وضم رؤى إلى صدره وكلمات هشام الحائرة تضرب ذاكرته من جديد:


- أسبوعّ كامل تتحاشاني يا عادل, تقول بأن لمساتي العابرة لها تلسع جلدها بل تنغزها كالأشواك, أسمع صوت أنينها وهى نائمة وكأنها تعاني وتحارب ثم تستيقظ صارخة, سأُجن يا عادل .


خرج من بئر ذكرياته رغمًا عنه عندما شعر بـرؤى تُربت على خده بقوة هاتفة:


- هيييه, أنت, أين رحلت بأفكارك


نفض غبار الشرود عن حاضره وتكلم بجدية لم تعتدها منه إلا نادرًا يشوب نبراته القلق وقال مُمسكًا بمرفقيها بتودد:


- حبيبتي, ما رأيك لو توطدين علاقتك بزوجة هشام, إنها تعاني من الوحدة وتحتاج لرفقة


تُعاني؟!, هل هذه رجفة التى شعر بها عادل تسري بجسدها؟!, تمعن فى وجهها الذى تشنج وعضلة خدها التى ارتعشت وهى تقول بتلعثم مختلطًا بضيق خفي:


- وكيف عرفت؟


تملكته الحيرة وهو يتأمل عينيها المنكسرة للأسفل للحظات ثم قال بهدوء وهو يرفع رأسه لأعلى بشرود:


- ضغطت على هشام اليوم ليخرج مافى صدره, فحالته لا تُعجبني منذ عدة أيام


- يستحق !


أخفض وجهه إليها وكأن كلمتها الهامسة ضربت معدته فجأة بقسوة, زمت رؤى شفتيها وهى تشتم نفسها بداخلها على عدم تحكمها بمشاعرها فانفلتت شفتاها ببعض مما يحمله قلبها بتسرع, لم تستطع أن تواجه عينيه المتسائلة بدهشة فأشاحت بوجهها بعيدًا وهربت من بين ذراعيه نحو المطبخ بخطوات عصبية وهى تُتمتم بضيق:


- سأعد لك العشاء !


تصلب جسده مكانه وهو يرقب حركتها النزقة المرتبكة وصوت بكاء ضعيف لطفله قد بدأ يعلو بجانبه, انحنى يحمل الطفل وعيناه لا تفارق الباب الذى اختفت خلفه منذ لحظات, جبينه منعقد وقد بدأت أفكار غريبة تغزو عقله عن تلك المشاعر التي لم يشعر بها يومًا فى قلب زوجته تجاه هشام, تُرى هل مازالت تحمل فى نفسها ذكرى رفضه لها فى السابق؟, لقد نسي هو شخصيًا هذا الأمر, حتى أنه لم يناقشه معها أبدًا, وعندما سألته فى بداية تعارفهما من الذى دله عليها ولماذا اختارها هى بالذات؟, اضطر أن يخترع لها قصة وهمية حتى لا يجرح مشاعرها أكثر وقد أعجبته للغاية, فلماذا تطفوا تلك المشاعر السلبية الآن؟!.







 روايات دعاء عبدالرحمن ـ مشاعر غالية


#وقالت_لي




الفصل الخامس : وقالت لي




-1-




تفحص الكاتب الصحفى عبدالخالق مروان المظروف بين يديه مندهشًا, ثم بدأ فى فتحه وفض الأوراق منه وقراءة ما بين سطورها بفضول, حينها عَلِمَ بأنه أمام حالة فريدة من نوعها تحتاج إلى تأمل عميق وصبر طويل لفك أحجيتها وألغازها قبل الحكم عليها, وقد تيقن من ذلك عندما وصلت عيناه لآخر سطور مقدمة الأوراق وقد كتبت له الراسلة فيها :


- "وسأظل أرسل لك تفاصيل زياراتها لي فى شقتي المهجورة, وفى كل ظرف سأرسله لك ستجد عليه عنوانًا يتوسطه من الخارج وهو نفس العنوان الذى كتبته على الظرف الذى بين يديك الآن " وقالت لي " .


لا أريد منك تصديقي, أريد فقط أن تنشر شكواها, لعل روحها تهدأ قليلاً وينقطع شبحها عن زيارتي !.


لأول مرة يقف أمام رسالة كهذه, لقد اعتاد قراءة حكايات من سراديب الحياة المظلمة, بكل زواياها المهجورة, إلا أنها كانت جميعًا فى النهاية شكايا وتجارب أحياء!, لم يتخيل أن يأتي يومًا يفرد مساحة فى بابه, لـميتة!, بالتأكيد سيتهمه الجميع بالجنون, أو على أقل تقدير بصناعة ضجة إعلامية وهمية لبابه الأسبوعي تنعكس على مبيعات المجلة التى يُشرف على أشهر باب بها " بين الناس" !.


سقط الظرف من بين يديه وهو يرفع وجهه القمحي البشرة بإجهاد مشوب بالحيرة ويستند بظهره للخلف مُلقيًا بثقل جسده على ظهر المقعد الضخم خلف المكتب الخشبي الكبير والمُمتلىء سطحه بالأوراق والخطابات عن آخره والمُستدير نصف استدارة من حوله, يواجهه مقعدان مُتقابلان من الجلد البُني الفاتح وبينهما طاولة زجاجية مستديرة صغيرة, دار بالمقعد دورة كاملة فمرت عيناه على الجدران المطلية بالأزرق المتداخل مع الأبيض بانسجام يساعده على التركيز, دائمًا ما يرفض تعليق اللوحات على الحوائط, يُفضلها هكذا خالية من أي إطار سوى من مكتبة مستطيلة فى زاوية منها ضمت بعض الكتب المتنوعة التى يفضل قراءتها بين حين وآخر أثناء عمله, خلف مقعده نافذة موصودة فى الجدار مُطَعمة بزجاج سميك يفصله عن العالم الخارجي, نصف دورة إضافية لتُكمل عيناه رحلتها إلى اليسار فانعكست صورته على المرآة الطويلة الملتصقة بالجدار, أصبحت الآن أمامه مباشرة, توقف المقعد عن الحركة, لقد نال الإجهاد من روحه قبل جسده وعقله, انسحبت نظراته نحو خصلاته البيضاء على جانبي رأسه فمرر كفيه فوقهما وهو يشرد كليًا فيما قرأ منذ دقائق, تلك الرسالة التى سجنته بين سطورها من بين مائة وخمسين رسالة أخرى!, وأبت أن تحرره منها حتى الآن, ثقافته الواسعة وطريقة تفكيره الواقعية يرفضان التصديق, ولكن حسه الأدبي والعاطفي وقبلهما حاسَّته الصحفية يدفعونه بشدة لنشر شكواها, حتى وإن نوه فى بدايتها عن رفض عقله لها, يرى بها دروسًا وعبرًا أكثر من مجرد مسألة, فلربما تكون سببًا فى انقشاع الضباب عن عيني أحدهم قبل فوات الأوان, ففى النهاية هي تجربة بشرية, وأخيرًا وبعد معارك داخلية طاحنة كان قد أمسك بالقلم بعد أن حسم قراره وبدأ يكتب بتمهل :


- يقول أحد علماء النفس أن الصمت هو أشد مراحل الانفعال, وأن أكثر اللحظات التى لانجد فيها ما نقوله من كلمات هى اللحظات التى يصل انفعالنا فيها إلى الذُرْوَة فنصمت!, هذا ما حدث لي أعزائي القُراء وأنا أُبحر بين سطور هذه الرسالة والتى من الواضح حسب حديث كاتبتها أنها ستكون سلسلة من الرسائل, لن أُطيل عليكم فأنا أعلم أن تلك المقدمة قد بلغت من فضولكم المنتهى. سأضع الرسالة كما هي, كما كُتبتولكن, فقط سأحذف منها ما يمس أخلاقياتنا وديننا الحنيف من وجهة نظري ولكنني لن أمحو ما هو متناقض مع عقلي وثقافتي, وسأترك لكم الحكم فى النهاية منتظرًا تفاعلكم معها كما اعتدت منكم, المشاركة الوجدانية التى أصبحت علامة مميزة لصفحتنا هذه عن طريق بريد المجلة الإلكتروني .


للمرة الأولى لن أُعنون الرسالة بما يليق بها فلقد أصرت صاحبتها أن يكون عنوانها " وقالت لي ", والآن سأترك لكم الإبحار فى لُجاجها كما حدث لي قبلكم .





وقـالت لـي !, من بريد " بين الناس "


أقرأ بابك دائمًا وأراسلك وأعلم بأنه لا معنى لذكر مكان تواجدي الآن, ولكنها حالة مختلفة واختلافها باختلاف أبطالها ومكان كتابتها, أما عن المكان فأنا بين جدران غرفة موصودة فى شقة مهجورة, ينتظرني خارجها كابوس أسود لينتقم مني شر انتقام على الفرصة التى منحتها له, وأما عن أبطال القصة فتجلس أمامى الآن بطلتها الرئيسية والتى توفاها الله منذ شهور !.


مزق الآن خطابي أو احرقه, العنْي كما تشاء, ولكن لا تُكذِّبَني, هى الآن معي وجهًا لوجه ولا أعرف كيف, تعجب واندهش كما تشاء, ولكن صدقني, الكاذب دومًا تكون له مصلحة من وراء كذبته, أما أنا فلا أريد سوى الخروج من هنا فقط!, فهى وبرغم طيبتها إلا أنها حين تغضب تكون مختلفة, هددتني إن لم تصل قصتها إلى الناس فستستحيل حياتي إلى جحيم دُنيوي, وكل ذنبي أنني كنت صديقة عابرة فى أواخر حياتها القصيرة .


ولسبب آخر اعتقد بأنه وجيه جدًا, إنها تُريد أن تُملي علي بعض الأحداث التى لا يعلم عنها أحد شىيئًا سواها هى وزوجها السابق فقط, لذا فأنا الآن فى حضرتها وبين يديها وأمام عينيها المُبتسمة بانتشاء وانتصار لم أرَ مثله من قبل, سأرمز لأسمها بحرف " هاء ", لن أبذل جهدًا أكبر فى ترميز اسم زوجها لأنه هو أيضًا يبدأ بنفس الحرف لذلك سأستعمل آخر حروفه وهى " ميم ", حتى يتيسر لي الحديث عنهما كما أرادت, أما زوجته الثانية التى تزوجها بعد وفاة " هاء " فسأرمز لها بحرف " جيم ", والآن إليك قصتها .


***


كالعادة استيقظت صارخة, وكالعادة انتفض من نومه فزعًا يتلفت حوله حتى يستطيع تمييز أنه فى غرفة نومه وعلى فراشه وجدايل تتشبث به, زفر بقوة وهو يربت على ظهرها مُمسدًا لشعرها وهو يستغفر وقد بات الأمر غير محتمل, مازالت ترفض أن تقُص عليه كوابيسها وكأنها تخشى البوح, وبروتينية مد يده ملتقطًا هاتفه لتصدح آيات سورة البقرة فى المكان, فتهدأ وترتخي عضلاتها المتشنجة ثم تنام على ساعده غارقة فى عرق جبينها ومنابت شعرها وهو يمسح عنها العرق بيده الأخرى ورغمًا عنه دواخله ترتجف وكأنه يستشعر رعبها ولكن يخشى الاعتراف, سينتظر حتى تعود والدته لتتصرف, لقد سأم حديث عادل عن ضرورة التقرب إلى الله ليزيح عنهما ماهم فيه, إنه يصلى فروضه وهي كذلك, فماذا يفعلان أكثر من هذا؟!, صحيح أنه يؤخر الفروض واحيانًا يجمعها عندما يعود للمنزل آخر اليوم, ولكنه يؤديها فى النهاية!, لقد أخذ بنصيحته ويقوم بتشغيل آيات سورة البقرة فى المنزل يوميًا ولم يحدث أي تطور, صحيح أنه لا يستمع إلى آية واحدة منها بتركيز بل ويعود للنوم فى بدايتها, مصحفه يعلوه الغبار عن آخره من هجره لما بين دفتيه ولكن هذه مقدرته, والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها !.


علت زفراته مجددًا دون إرادة منه وهو يُحاول العودة للنوم من جديد بعد أن أقنع نفسه بتلك الأفكار, ولكن هزيم الريح الشديد فى الخارج يثير خيالاته المتأصلة بعقله منذ الصغر عندما كانت والدته - سامحها الله - تقول له أن هذا صوت العفريت فى الخارج إن لم ينم باكرًا فسوف يدخل إليه!, ورغم اهتزازه الداخلي إلا أنه لم يستطع منع ابتسامة طافت بين شفتيه لبرهة وهو يسخر بداخله من هذه الذكرى:


- ولم أسأل نفسي يومًا عن مصلحة العفريت فى جعلي أنام باكرًا كل ليلة؟!


التفت نحوها فوجد أنفاسها وقد انتظمت وراحت فى سُبات عميق, فسحب ذراعه من أسفل رأسها ببطء, نهض من بين ركام الأغطية الثقيلة على مهل, ومشى على أطراف أصابعه حتى خرج من الغرفة دون أن يُحدث جلبة, توجه إلى الثلاجة مباشرة فتحها والتقط منها ثمرة يوسيفي وأخذ يزيل قشرتها الخارجية وهو يتوجه نحو غرفة بناته, فتحها بهدوء وألقى عليهما نظرة اطمئنان, ابتسم لرؤيتهما بتلقائية ولكن ابتسامته تلاشت على الفور عندما سقط شيء ما فى الشقة الكائنة فى الطابق العلوي مما جعل صوت الارتطام يبدو وكأنه فى شقته هو, استوعب ذلك مؤخرًا بعد أن بُهتت ملامحه عند سماعه للصوت وقفز قلبه بين قدميه لثوان, مما جعله يحنق على نفسه وعلى استعداده الدائم للذعر هكذا, أغلق الباب عليهما وجر قدميه نحو الردهة, مر بين المقاعد المُريحة حتى التف جالسًا على مقعده المُفضل أمام الطاولة, هوى جسده بحنق وهو يستنشق بقوة ويزفر ببطء ليهدأ, نظر نحو كفه وقد تذكر للتو بأنه مازال مُحتفظًا بالثمرة وقشرتها معًا في يدٍ واحدة, ولكن هيهات لقد ذهبت شهيته أدراج الرياح وانتهى الأمر.


مال للأمام ليضع ما بيده على الطاولة باستياء فلفتت نظره مجلة, عجبًا !, لايذكر أنه اشتراها سابقًا, تناولها يقلبها بين يديه بلا حماس حقيقي, ضيق عينيه حتى تغضنت زواياها عندما وقعت نظراته على أحد أوراق المجلة مطوية من الداخل على شكل سهم غير متساوي بغير عناية, مرر أصابعه بين أطراف الورقة ليعيدها كما كانت وقد أخذه الفضول قليلاً, " وقـالت لـي " سقطت نظراته على العنوان الأحمر اللون بسخاء, مما جذب انتباهه لأول السطور, وعندها تمتم مندهشًا متسع العينين:


- امرأة ميتة تحكي قصتها, هاء, ميم, جيم !!




ارتحلت عيناه بين كل سطر وآخر, كلما ترك واحد قفز فوق الآخر سريًعا كسرعة أنفاسه وحركة صدره مُحملاً بها, وجهه يزداد احتقانًا بالدم


والكلمات تخطف الهواء من حوله وتحبسها عن رئتيه :


" لم يكن شغوفًا بي منذ البداية " , أنا التى صرحت بمشاعري أولاً, عبَّدتُ له الطريق فصرتُ وكأنني أدفعه دفعًا لمشوار الزواج, عندما رفضته عائلتي فى البداية لتفاوت المستويات الاجتماعية بيننا, حرمت نفسي من أن أرى الرجل الذى اخترته ينافح عن حبه, يقاتل لأجلنا, فجنبته كل هذا وجعلته يتنحى جانبًا ووقفت أنا بوجههم حتى رضخوا فى النهاية وهم يتعجبون من خلو ساحة المعركة منه!, وبعد الزفاف بأقل من شهر, أنا التى كنت أخترع القصص ليظل متيقظًا بجوارى بعد دخولنا للفراش, ولكن كسر خاطري أصبح عادة لديه, بل زاد الأمر سوءًا مع مرور الوقت وهو يضنْ عليّ بكلمة غزل أو مدح لمظهر قضيت فى الاعتناء به وقتًا طويلاً لأجله وحده, فقط يبتسم ويقول كلمة واحدة " جميل " ثم يُدير وجهه ليتابع المعروض أمامه على شاشة التلفاز, ماذا أقول, لولا ثقتي بنفسي وبدرجة الجمال التى منحها الله لي لكنت اقتنعت بأنني دميمة


عندما بدأت مشاكلي ومعاركي الداخلية تدب بيني وبين والدته, تركني هو أواجه تدخلها فى حياتنا الخاصة وحدي, وعُدت لمحاربة المُتبقي من عائلتي لأحصل على نصيبي لميراثي من والداي فى شقة العائلة, ولقد كان مبلغًا زهيدًا من المال, قذفوه فى وجهي, ونبذوني من يومها, وبذاك المال القليل سعيت لتأجير شقة أخرى لننفصل ولو بعض الشىء عن والدته ووفرنا بعض الأثاث البسيط وقد كان هذا منتهى أملي من الدنيا, حياة خاصة بعيدًا عن المشاكل, وظل الحال على ماهو عليه من هجر قلبه لي حتى تيبست أنوثتي, وأصبحت عدائية معه, نتعارك لأتفه الأسباب.


نعم أعترف, عزوفه عني لأوقات طويلة سبب مباشر فى اختلاقي للمشاكل, وقد شعُرت بالنبذ, هل تتصور كيف يكون النبذ من أول رجل أحببته بحياتي؟!, لم أحُب قبله, ولم أعرف رجلًا غيره, فهل يلومني أحد الآن عندما أقول أن الغيرة اشتعلت بقلبي عندما رأيت كيف يتعامل مع زوجته الجديدة " جيم " الذى تزوجها بعد وفاتي, هل يستطيع أن يكرهني عندما يعلم بأنني السبب المباشر فى الجحيم التى تعيشه هي الآن, لقد كنت أتصور أنه سيعاملها كما كان يتعامل معي, ولكنني نظرتُ إليه, فوجدته شغوفًا بها, حريصًا على إرضائها, عيناه تلمع دومًا وهو يتأملها, يبحث عنها, أنامله تجد طريقها سريعًا إلى أناملها, أينما جلست ينتقل فورًا بجوارها, يحتضن خصرها, لا يرضى بطفلةٍ تفصل بينهما في الفراش, بل لا يستطيع النوم إلا وهو يلمسها بشوق جارف كما لم يفعل معي يومًا وأنا حية .


أردتُ أن أسأله هامسة بأُذنه, لماذا؟, ولكنني تراجعتُ في اللحظة الأخيرة, خفت أن يرتعب فيُفزِع الطفلتين, فهو يخاف إلى درجة مُضحكة!, حاولتُ أن أبحث عن الإجابة في عينيه, وفعلا عثُرتُ عليها وهو ينظر لها ببريقٍ لم يتوهج يومًا لأجلي, فأدركتُ الفارق حينها, لقد أحبها, هكذا ببساطة, أحبها !.


فانزويت بخيبة في أحد الأركان فوق الستائر المُعلقة بعد أن هدمت عش العناكب به, العناكب التى تشعر بي أكثر منه !" .


إلى هذه النقطة توقفت " هـاء "عن الحديث سيدي ووجهها متألمّ للغاية ونظرت نحوى بنزيف من الدمعات اللؤلؤية وقالت لي:


- أتعلمين صديقتي؟, أنا لستُ ميتةً فقط, بل فاشلة أيضًا, صحيح؟!


وقبل أن أُجيبها سيدي علا الصراخ فى الخارج من جديد, وكأن دمعاتها أضعفتها للغاية فأصبحت غير قادرة على حمايتي, سبحت الغرفة فى ظلام سرمدي, وسمعت صوت والدتي تصرخ بنبرة جحيمية وكأنها أمامي وجهًا لوجه:


- تعالي إلى غرفة والدك حالاً يا قاتلتنا, فهو يُريدكِ بشدة !


نظرتُ إلى " هاء " فوجدتها تئن وتئن والألم يرسم بريشته الحزينة فوق ملامحها, أخذَت تضعُف وتذبل كالوردة المدهوسة للتو, وكأنها أصبحت بقايا متناثرة, وقتها اتخذت قراري بالخروج من الغرفة, سأذهب إلى أبي بالرغم من علمي بأنه سيوبخني لتقاعسي عن حضور جنازته !!.


انتظر رسالتي القادمة, وللحديث بقية .


وكعادة عبدالخالق مروان لابد وأن يُعلق بشىء من النُصح والحكمة فى نهاية كل رسالة, إلا أن هذه الرسالة بشكل خاص لم يستطيع أن يكتب إلا عبارة واحدة فقط تعقيبًا عليها :


" النفوس الطاهرة هي التي اختبرت الألم, ثم اختارت أن تُجنِب الآخرين مرارته, مُنتظرة نصيبها العادل من السعادة سواءً فى الدنيا أو الآخرة " .


***


وماذا ينتُج عن الصدمة الممزوجة بالخوف والرهبة, والمغلفة بتأنيب قاتل للضمير سوى قِدر يغلي بالانفعالات المضطردة الفائرة فوق وجدانه وعقله, هذا المزيج القابل للاشتعال ينفث في صدره, تُسحَق المجلة الآن ببطء ودون إرادة بين كفيه بينما عيناه تتسعان عن آخرهما, عالقتان بتيه شديد وذهنه حبيس السطور التى قرأها للتو, إنها كلمات وتعبيرات هالة, هو يعرفها, أحداث خاصة لم يطلع عليها أحد سواهما, نسبة الشك فى غير ذلك صفر, إذن هى تراقبه, تحقد عليه, تريد تدميره وزوجته, أعلنت حربها وليس لديها ما تخسره, بعد أن خسرت .. كلها!.


نفض رأسه بعنف وهو يتنفس لاهثًا ونقطة ما بزاوية مُظلمة بعقله تتهمه بالجنون, وتسأله بتحدٍ, هل ستصدق هذا الهراء حقًا؟!.


درجة الغليان وصلت لقمتها عندها تأججت جميع ردود فعله فنهض من مقعده وهو يرفع رأسه للأعلى نحو السقف تحديدًا, ثم تحيد نظراته التى قاربت الجنون نحو الستائر, ثم قمة الستائر كمن يبحث عنها, توقفت عيناه عند هذه النقطة وقد أوشكا حاجباه على الالتصاق ببعضهما البعض من شدة التضييق بينهما, بينما مقلتيه تهتزان بانفعال سافر, ملامحه النهائية كانت أشبه بمجرم مُقدم على ارتكاب جريمة ما, رفع المجلة للأعلى وهو يهتف ضاغطًا أسنانه بقوة رغمًا عنه:


- نعم, نعم يا هالة أحببتها, أحببتها أكثر مما فعلت معكِ




أنزل يديه للأسفل ثم فتحهما عن مصرعهما كمن يستعد لتلقى طعنة قادمة نحوه وهو يُعيد هتافه وقد خرج عن السيطرة وأخذ جسده يدور حول نفسه فى المكان ذاته:


- ماذا ستفعلين بنا, هيا أريني جحيمك


لم يصل هتافه إلى أحد, بل وكأنه تم عزله تمامًا عن العالم, خرج من دائرة وجوده, شعر بأن سور قد ضُرب حوله, ظُلمة ما فٌرضت عليه, ظُلمة وظُلم كـ يوسف آخر أُلقى به فى بئرٍ بيد إخوته, وتسلق الهم أشجاره الهزيلة, انهار على ركبتيه ومازالت المجلة جزء من كفه وعيناه قد احتقنتا بالدم وهو يرزح تحت ثقل ندم وذنب يسويانه بالأرض, وصار يهمس بخفوت وقد تَعِبَ .. تَعِبَ حقًا ويريد أن يستريح:


- كنتِ قوية, أقوى من أن تُشعريني بحاجتك لي, أقوى من أن تحكي معاناتك أمامي, وأنا كنت أغبى من أن أفهم كبريائك, فَهمت مؤخرًا, عندما قرأت وصيتك لي, فهمت بأن ابتسامة السخرية التى كانت عالقة دائمًا فوق شفيتك كانت تُخفى مرارة وضعفًا أكبر مما يجب أن تتحمليه وحدك, أماهى, جدايل, جمعت ضعفها بين كفيها وقدمته لي ببساطة هامسة " أحتاجك ", ضربتني همستها فى قلب رجولتي, جعلتني أستنهض معانٍ كثيرة بداخلي جعلتنى أحوم حولها أنافح عنها ضد كل شىء, وأي شىء يجرحها, هنا فقط اكتشفت نفسي, وفهمت معنى الكلمات التى كنتِ تردديها يومًا ما عندما كنتِ تقولين " لن أستطيع أن أُفَهِمَك, أنت ستفهم وحدك, ولكن مع امرأة أخرى غيري" , والآن وقد فهمت, فماذا تريدين يا هالة, ماذا تريدين؟!




الفصل الخامس : وقالت لي




-2-




- لماذا لم تُخبرني كل هذه المدة يا هشام؟!


دفن رأسه بين يديه وهو يرتكز على فخذيه مُجيبها بخفوت:


- كل هذا حدث وأنتِ تؤدين مناسك العمرة يا أمي


ربتت على قدمه وهى تتساءل بحنان:


- وكيف حال زوجتك الآن؟


زفر حانقًا دون أن يرفع رأسه قائلاً:


- كما هى, كوابيس مفزعة ليلاً, وانزواءً بعيدًا عني وشرود فى ملكوتها الخاص نهارًا, تعيش عذابًا مستمرًا


استندت بكفيها إلى عكازها بتفكير عميق لِلَحظات قبل أن ترفع حاجبها بتحفز وهى تُغمغم وتومئ برأسها بثقة:


- لا تحمل همًا يا بُني, أنا كفيلة به


لم يشأ أن يُطلعها على أمر المجلة والرسالة التى كُتبت بها, بالرغم من حُنقه الشديد الذى تملك منه بمجرد أن أخبرته جدايل فى الصباح أن رؤى كانت تزورها فى اليوم السابق, وهكذا استطاع الربط بين وجود المجلة فى البيت وزيارة رؤى الغريبة, كان يريد فضح أمرها عند والدته مؤكدًا لها سوء اختيارها السابق لها كزوجة له, ولكنه لم يفعل, لم يقل شيئًا, خاف أن تطلب منه قراءتها أو تقع بالكلام أمام جدايل وتذكرها, فلقد تأكد لديه بأن جدايل لم تفتحها من الأساس بل وتفاجأت بوجودها, إلا أن هناك سببًا آخرًا أقوى منعه فى اللحظة الأخيرة, مازال يريد الاحتفاظ بماء وجهه أمامها, فوالدته حتى هذه اللحظة لا تعلم كيف ظهر فجأة المال الذى سهل لهم عملية الانتقال إلى شقة أخرى, أقصى ماقالته هالة لها وقتها أن هشام طلب سُلفة من عمله, ترقرق الدمع فى عينيه وهو يتذكر كيف وقفت والدته توبخها ظنًا منها أن هالة هى التى ضغطت عليه ليطلب تلك السُلفة المزعومة, وعندما تحرك ليُوقف والدته نظرت له هالة نظرة معناها أن " لا ضير, اتركها ", فتوقف على الفور وكأنه كان ينتظر تلك النظرة, وكأنها لاتُهان أمامه فى تلك اللحظة بسببه, أراد أن يحتفظ بكرامته أمام والدته ولو حتى على حساب كرامتها !.


أخرجه من شروده رنين جرس باب الشقة فنهض بتثاقل ليجيب نداء من خلفه, بمجرد أن فتح الباب انهال عليه سيل من الدعوات قد كان يتوقعها فى هذا اليوم بالذات, فهذا هو موعدها الأسبوعي!.


ابتسم لها ابتسامة مصطنعة ثم التفت إلى والدته مناديًا:


- إنها عنبر يا أمى


عاد يبتسم مرة أخرى ولكن هذه المرة ابتسامة حقيقية وهو يقارن اسمها بهيئتها الضخمة البنية, وهى تتباهى ببنيتها هذه أمام الجميع وخصيصًا بأنها تقترن بصحة وفيرة, تلك الصحة التى تأكل عيش من ورائها كما تقول, فهى المتخصصة الوحيدة فى المنطقة والمسؤولة عن تنظيف ومسح سلالم العمارات وشققها أيضًا لو تطلب الأمر, وهى التى فتحت شقة هشام ونظفتها قبل عرسه, ولم تنسَ وقتها أن تُلقي النصائح على مسامع والدة هشام بأن الشقة مُغلقة منذ شهور وربما تكون مسكونة الآن, فلماذا لا يلجأون إلى شيخٍ واصل ليُحصنها, كالشيخ عبد الفتاح, فاتح الأبواب الموصودة وقاهر الجن والأشباح !,


فى ذاك الوقت لم تلتفت والدة هشام كثيرًا لثرثرتها ولكن الآن هى تحتاجها بشدة, نهضت من مقعدها وتوجهت نحو الباب بظهر منحني قليلاً هاتفةً:


- انتظري يا عنبر أريدك فى أمر هام


وقف هشام مكانه عند الباب منتظرًا أن يبدأ فى رحلة حمل الماء اللازم إليها ولكنه فوجئ عندما سألتها والدته وهى تضيق عينيها بجدية وتركيز:


- أين هو مكان الشيخ عبد الفتاح هذا يا عنبر


زفر هشام بقوة وتوجه للداخل تاركًا مكانه خاليًا وقد بدأ يعرف ما هى الخطوات التى ستتبعتها والدته لحل مشكلة زوجته, بينما لمعت عيني عنبر وهى تُجيب بحماس زائد:


- ألم أقل لكِ يا خالة, على كل حال الشيخ يراعي مسألة التكتم على الناس المحترمة أمثالكم لذلك هو من سيحضر إليكم


أومأت والدة هشام برضا وهى تُتمتم موافقة:


- هذا ما كنت سأطلبه خصوصًا وأن الشقة تحتاج إلى زيارة منه


بمجرد أن أغلقت باب الشقة سمعت هشام يقول من خلفها بضجر ونفور شديدين:


- أمى أنا لا أحب تعريض جدايل لتلك المواقف من فضلك


- ولا أنا يا ولدي, ولكن ما باليد حيلة


ظل يذرع ردهة الشقة جيئةً وذهابًا وعقله يرفض الفكرة تمامًا, بالرغم من أنه لا يعرف ماذا سيفعل هذا المدعو عبد الفتاح ولكنه يخشى عليها, توقف فجأة والتفت إلى والدته التى كانت شاردة بعيدًا غارقةً فى أفكارها وقد فاض به الكيل:


- أمى أنا غير متحمس أبدًا لهذا الحل


تمتمت والدته وعيناها مازالت شاردة فى النافذة أمامها مباشرة:


- لا تخف عليها أنا سأتصرف وأُقنعها بضرورته


خرج هشام من بيت والدته بحركات عصبية ينطق بها جسده, هابطًا درجات السُلم بسرعة كبيرة وهو يضع الهاتف على أذنه ويقول متوترًا:


- عادل قابلنى بعد ساعة فى مكاننا المعتاد, أحتاج التحدث معك بشدة


***


جلس عادل فوق الأريكة الخشبية وهو يضع ساقًا فوق الأخرى وذراعيه مُمتدتان على ظهر الأريكة من خلفه وينظر بتفكير إلى ظهر هشام الذى يقف أمامه مواجهًا لمياة النيل, وكفيه غارقين فى جيبي سرواله وبرودة الجو فى هذا التوقيت من العام تجعل من لقائهما فى هذا المكان فى غاية الحمق, ولكنه ليس بأقل من الحنق الذى تملك من هشام وهو يواجه عادل عند بداية اللقاء و يرمي بوجهه اتهامه لزوجته رؤى بأنها سببًا مباشرًا فى الحالة التى وصلت إليها جدايل وخصيصًا بعد زيارتها لها أول أمس .


كادت أن تقوم بينهما مشاجرة حقيقية بينما عادل يدافع عن زوجته بشراسة ضاعف منها الهواء المثلج المنبعث من رئتيه, بقايا التعقل دفعت هشام ليئد هتافه المنفعل عند هذه النقطة ويتوجه إلى سور الكورنيش مستندًا بجسده إليه وبداخله يعلم أنه أخطأ وتسرع وقد يتسبب هو هذه المرة فى هدم بيت صديقه أو على الأقل تكدير صفو حياته, تركه عادل ليهدأ قليلاً وجلس يفكر لعله يستطع الوصول لحل أمثل يجعله يحل مشكلة هشام دون أن يمس أحد زوجته رؤى ولو بكلمة واحدة, دقائق أخرى وبدأ الوضع بينهما يفتر شيئًا فشيئًا حتى قرر هشام إنهاءه بالكامل وتصحيحه, استدار نحو عادل متقدمًا نحوه ببطء حتى وقف أمامه تمامًا, ولكن الكلمات هربت من صدره فعالجه عادل قائلاً بهدوء:


- لمجرد العلم بالشىء, رؤى زوجتى كانت ترفض أى تواصل مع زوجتك وأنا من ضغط عليها لتذهب لزيارتها


جلس هشام بجواره وهو يربت على كتفه وصوته يعبر عن إطراد الانفعالات المتناقضة بداخله قائلاً:


- أنا آسف يا عادل, أعذرني, فأنا واقع تحت ضغوط أكبر من قدراتي على التحمل


مال عادل للأمام وهو يفرك كفيه ببعضهما البعض ويجمعها نافثًا الهواء بينهما لعل الدفء ينبعث فيهما ولو قليلًا, ثم قال بجفاء:


- لا تُبرر يا هشام, هذه الضغوط التى تتحدث عنها نابعة من مخاوفك, من عدم قدرتك على المواجهة, لا تنظر أبعد من أنفك - كالعادة -


قال كلمته الأخيرة بسخرية وهو ينهض واقفًا واضعًا كفيه بجانبي سترته الجلدية الثقيلة, قائلاً:


- أرجو أن لا تنسَ فى خضم معتركك هذا أنك ستسافر بعد عدة أيام إلى مقر الشركة فى الإسكندرية لضرورة العمل


أومأ هشام برأسه موافقًا وهو يراقب انصراف عادل الذى ألقى كلمته وغادر دون انتظار الرد, معه كل الحق, لقد أقحم زوجته فى مشاكله الخاصة, وكأنه يخبره دومًا بأن زوجته رؤى مازالت تتمنى أنه لو وافق على الزواج منها, حتى وهى زوجة رجل آخر الآن, ودوافع الحقد بداخلها تحركها لتنغيص حياته مع جدايل .


هو يؤلم صديقه دون أن يشعر, ربما من أجل ذلك لم يُشر من قريب أو بعيد إلى المجلة والرسالة التى قرأها بها, واكتفى فقط بأن زيارتها الأخيرة قلبت حالها وجعلتها شاردة سارحة فى ملكوت آخر, يبدو أنه ليس أمامه حل آخر سوى الذى تقدمه إليه والدته, الشيخ عبد الفتاح!.


***


بسروال أسود وقميص ناصع بياضه بلا رابطة عنق وفوقهما سُترة صوفية سوداء طويلة تصل إلى ركبتيه, دخل الشيخ عبد الفتاح شقة هشام بخطوات واثقة, تمهلت عينا والدة هشام عليه بنظرات تقييمية, ربما تجاوز الأربعين من عمره بسنوات قليلة, ذقنه حليقة لامعة ورأسه أصلع من منتصفها تمامًا, أطلت الطيبة مع التواضع من عينيه إطلالة مُميزة بصحبة ابتسامة غامضة موشومة فوق شفتيه فلا تزول وهو يتجول بعينيه بأريحية بأركان الشقة ووالدة هشام تأخذه من غرفة إلى أخرى مع صمت تام يُخيم على الجميع سوى من ضربات عكازها على الأرض أثناء سيرها وهمهمات خفيضة لا يستطيع أحد منهم فهمها تصدر من بين شفتي الشيخ عبد الفتاح, لم يستمر الصمت طويلاً حينما أنهى الرجل جولته ثم عاد إلى الردهة وهو يُناظر جدايل التى انكمشت بين ذراعي زوجها وبعينيها نفور وخوف تجاه عنبر الواقفة ملتصق ظهرها بباب الشقة المغلق كما أمرها عبد الفتاح بعد دخوله ثم تحولت نظراتها المتجهمة الخائفة نحو الأخير الذى ابتسم عندما أخبره هشام بأنها تنتفض بقوة, فجلس على المقعد المقابل لهما وبنبرة هادئة قال:


- لا تُبالي, إنها تنتفض لرؤيتي


ارتفع حاجبي هشام بدهشة وقبل أن ينطق انفجرت الكلمات من فم عنبر وهى تتكلم بهتاف كعادتها قائلة:


- لا تقلق يا أستاذ هشام, زوجتك بالتأكيد ملبوسة ومن يسكنها هو الذى يرتعش الآن, فالشيخ عبد الفتاح مشهور عند الجن - اللهم احفظنا - ويخافونه


أشار لها عبد الفتاح أن تصمت بينما قالت والدة هشام متسائلة:


- ماذا رأيت فى الشقة يا شيخ, ومن ماذا تُعاني زوجة ابني؟


مازالت عيناه عالقة في عيني جدايل وهو يجيبها بنوعٍ من الإشفاق:


- حقيقة يا خالة, هذه الشقة ليس بها موضع قدم, قبيلة عن أكملها من الجن تعيشُ بها, أما زوجة الأستاذ هشام فلابد من أن أقوم بالكشف عليها أولاً


- ماذا؟!


هتف بها هشام باعتراض ودهشة بعدما حفزت عبارة الرجل الأخيرة دفاعاته كاملة فشد على ذراعيها يضمها إليه دون شعور, وهى استجابت غامرة وجهها فى صدره أكثر, لا تعلم ماذا يحدث حولها, لا تعرف سوى بضع كلمات شحيحة قالتها حماتها قبل حضور ذلك الرجل بعشر دقائق لا أكثر, عن أنه رجل بركة سيقوم بحل جميع مشاكلها وبأنها لن ترى بعدها تلك الكوابيس المزعجة مرة أخرى!, أعادتها نبرة صوته التى شابها بعض السخرية إلى حاضرهم وهو يتحدث إلى هشام موضحًا:


- الكشف هنا يعني بأنني سأقرأ عليها بعض من آيات القرآن الكريم لأستطيع تشخيص حالتها


سكت هُنيهةً وبدى على ملامحه بأن هناك عبارة لازالت عالقة بجوفه, ثم أخرجها مُردفًا باهتمام :


- ولو أن بخبرتي الطويلة ودون كشف, أرى بأنها حالة مَسْ


حرفه الأخير خرج ممطوطًا قليلاً, مُحدثًا رنينًا مًزعجًا بمعناه وليس بصوته فقط وهو يمر بذبذباته بينهم, إلا أن تلك الحالة لا تقارن أمام التوتر والذعر الذى حدث بعدها عندما أكمل حديثه وهو يزيد من تركيزه بنظرات ثاقبة فى عيني جدايل:


- أرى وجه امرأة غاضبة يُطل من عينيها الآن!


لم تتوقف عنبر عن قول العبارة التى يبدو أنها لا تحفظ غيرها من حين لآخر:


- اللهم احفظنا


بينما أصبح الخوف سلعة رائجة بين الثلاثة الآخرين وقد تحولت نظرات والدة هشام وهى تناظر الشيخ عبد الفتاح إلى نظرة رجاء صامتة ترجوه العلاج, بينما أغمضت جدايل عينيها وهى تتشبث بقميص هشام الذى تجمدت عيناه على وجه الرجل الذى أومأ برأسه يطمئنهما وهو يمد يده بجيب سترته مُخرجًا لُفافة صغيرة بيضاء لم تزد عن حجم أصبعين من كفه قائلاً:


- لا داعي لكل هذا الذعر, مدة العلاج لن تزيد عن الشهر, جلستان فى الأسبوع, إذا إلتزمتم بتنفيذ جميع الطلبات


مَرَحتْ ابتسامة ساخرة مرتعشة قليلاً على شفتى هشام, ودون تفكير قال مُعلِقًا:


- آه, هل ستطلب منا دجاجة مُطلقةً, أم كتكوتًا يتيمًا, أم ستقوم بالإعداد لزار و..


قاطعته ضحكة الشيخ عبد الفتاح التى انطلقت سابحة فى فضاء المكان وقد بدا المرح على وجهه, وبعد أن هدأ إلتفت إلى والدة هشام قائلاً:


- من فضلك يا خالة, أريد زجاجة مياه وإناء بلاستيكي متوسط الحجم املئيه بالماء أيضًا وبعض قطع من ملابس لكل من يقطن فى


هذا البيت


أومأت المرأة برأسها وانصرفت للداخل تتبعها عنبر لمساعدتها بينما عاد برأسه إلى هشام قائلاً بنبرة مازال المرح عالقًا بها:


- أنت قديم للغاية يا أستاذ هشام, حتى الدجالين اليوم لم يعودوا يستخدمون تلك الطرق وقد اُستهلِكت كثيرًا فى الأفلام المصرية


صرف هشام عينيه عن الرجل بحرج وهو يدُس أصابعه أسفل ذقن جدايل وهو يهمس لها أن لا تخاف وأنه بجوارها فى كل خطوة, دقائق قليلة وعادت عنبر حاملة الإناء البلاستيكي بين يديها وصدرها يَنْهَت صعودًا وهبوطًا, وضعت الإناء عند قدمي عبد الفتاح


واعتدلت تتناول قطع الملابس من يد والدة هشام التى كانت تحمل زجاجة المياة بيدها الأخرى, أشار عبدالفتاح إلى الإناء وهو يوجه حديثه لـ عنبر آمرًا:


- أغمسي الملابس فى المياه, أغمريها لآخرها


فعلت عنبر ما أمرها به ثم ناولته زجاجة المياة وابتعدت تقف بجوار والدة هشام, فتح الرجل الزجاجة ثم وضعها على الطاولة التى تفصل مقعده عن مقعد شاغر بجواره, ثم عاد إلى اللفافة الصغيرة الورقية التى أخرجها من جيبه مُسبقًا, فتحها أمام هشام وهو يشير إلى المادة التى تُشبه الدقيق ولكن لونها أصفر قاني يميل إلى الحُمرة وهو يقول:


- هذا زعفران, النساء تستخدمه عادة لتحسين نكهات الطعام, أو لإضافة لونه إلى العصائر


تعاقبت نظرات هشام المضطربة بين والدته التى أومأت له مؤكدة وبين الزعفران وحامله الذى بدأ يُفرغه بدقة بداخل الزجاجة, فيمتزج لونه بالمياه ليتغير لونها إلى الأحمر الباهت, أغلق الشيخ عبدالفتاح الزجاجة جيدًا ثم رجها بقوة بين يديه لدقيقة كاملة ثم وضعها على الطاولة تاركًا إياها وهو يقول:


- الزعفران يؤذي الجن بشدة




قال كلمته وهو يرفع رأسه نحو عنبر بوشاحها الكبير وجلبابها الزاهي متسائلاً:


- هل معك منديلًا قماشيًا؟!


انتبهت عنبر وهى تتحسس جيبيها فاستطرد وهو يوقفها بيده قائلاً بعفوية:


- انتظري أنا معي واحدًا تقريبًا


بحث فى جيبه لثانية وأخرج المنديل بعدها ثم ارتكز بمرفقيه على فخذيه, جامعًا المنديل بين كفيه, قربه من فمه ثم أخذ يتُمتم بكلمات مبهمة, لأكثر من خمسة عشر دقيقة وهو يُتمتم هكذا, يرفع صوته قليلاً بين حين وآخر فيستمعون إلى آية قرآنية يعرفونها ثم يعود ليخفض صوته مرة أخرى فلا يُدركون بماذا ينطق لسانه !


انتهت الدقائق بشق الأنفس, وما كاد أن يرفع يده مُلقيًا المنديل فى الإناء البلاستيكي حتى حدث اشتعال طفيف, شهقت معه والدة هشام عاليًا وقد اتسعت عيني هشام عن آخرهما, بينما الشيخ عبد الفتاح يُطفىء الشعلة الطفيفة التى حدثت ثم يرفع رأسه إلي هشام قائلاً:


- روح زوجتك الميتة تسكن خزائن ملابسكم, وهى غاضبة للغاية !


وضعت والدة هشام يدها على صدرها فى محاولة كسيرة لتهدئة خفقاته, وعندما وقعت عيناها على نظرات جدايل تملكت منها الدهشة, لقد كانت تنظر إلى الإناء ببرود وكأنها تشاهد عالم آخر موازي, لم تتأثر !, لم تكن هى وحدها التى تراقب عيني جدايل, بل كان الرجل يفعل نفس الشىء, وحين تكلم وجه حديثه إلى هشام وقال:


- أعتقد أن زوجتك المتوفاة بدأت تحضر بيننا


قطعة من الجليد انسابت فوق عموده الفقري وانحدرت إلى أسفل قدميه مثيرة زوابع مخاوفه فارتعش جسده بالكامل وبدأ يشعر بذراعيه تنحل دون إرادته ببطء من حول جسد جدايل التى تنظر إلى الجميع نظرات مبهمة كطفل لا يعي شيئًا مما يدور حوله, صار هشام مسلوب الإرادة, مستقبلاته العصبية فى إجازة مفتوحه, ففتح الشيخ عبد الفتاح الزجاجة وناولها إلى هشام وهو يأمره أن يسقيها منها ثم يسقي والدته جرعة ماء واحدة, فهى الأخرى مُعرضة للأذى, فعل هشام ما أراده وأخذ يسقيها بيدٍ مرتعشة, ثم أرسلها عن طريق عنبر إلى والدته, فشربت منها دون حساب, نهض الشيخ عبد الفتاح وأخذ يدور فى غرف الشقة مُجددًا وهو يُتمتم من جديد, من غرفة لأخرى ببطء رتيب والدقائق تمر ساخرة من الجميع, ثم رجع إليهم ثانية وهو يُشير إلى هشام بأن يوقف زوجته بمنتصف الردهة ليبدأ القراءة عليها, كان هشام يفعل ما يقوله الرجل وكأنه دخل في حالة تنويم مغناطيسي, خوفه هو الذى يحركه لا إرادته, أوقفها بالمنتصف تمامًا وما إن بدأ يقرأ حتى سقطت على ركبتيها وأخذت تضحك كالمجانين, هو مُستمر بالقراءة وهى مستمرة بالضحك الذى يعلو أكثر فأكثر حتى تحول إلى نشيج وبكاء ثم أخذت تنادى وتتحدث بكلمات تائهة متقطعة:


- هالة .. لم أفعل .. انتظروني .. أبى


كان هشام يتابعها وهو لا يشعر بالدموع التى انسكبت على وجنتيه, ماذنب تلك المسكينة في كل ما يحدث, هو الذى تزوجها وأدخلها بيته وهو المُهدد الآن بفقدها, وأخذ يهمس دون وعي منه:


- أرجوكِ يا هالة اتركيها, انتقمي مني أنا, فأنا المذنب الوحيد هنا


وفجأة صرخت عنبر عندما سقطت والدة هشام بين يديها, أسرع هشام إليها يجثو بركبتيه بجوارها ينظر إلى شحوب وجهها, ناداها فلم تُجبه, تلمس النبض بعنقها فوجده يضعُف ويتباطأ شيئًا فشيئًا, بينما عيناها جامدتان وأنفاسها تتسارع وكأنها تتنفس من سَم الخِياط, تُصارع الحياة, وقتها نسي زوجته التى تَهذي, العالقة بين عالمين, وعنبر التى تكتم صرخاتها بكفيها وبات وجهها كالأموات وهى تنظر إلى عبد الفتاح الذى كان يبحث عن زجاجة المياه ويَدُسها بسترته قبل أن يفر هاربًا, كل الصور تتحرك من حوله ببطء قاتل، كـ بطء نبضات والدته فى تلك اللحظة, والتى تُنبئه بأنها ستتوقف ساكنة بين ثانية وأخرى .


ربما يحلُم بعضنا بالموت, ولكن مواجهته فعليًا, تجعل مقارنته بالحلم أمر سخيف!. عرض أقل


 رواية  #وقالت_لي .. الفصل رقم 6 .. دعاء عبد الرحمن 




الفصل السادس : اختفاء




-1-




لم ينتظر المصعد, قفز درجات السُلم طابقًا ينتهي ليبدأ بآخر حتى وصل إلى طابقه المنشود, ظل يعدو بين أروقته حتى تراءى له جسد هشام من بعيد, كان يتحدث إلى طبيبًا خرج لتوه من حجرة مجاورة, أسرع الخطى وصدره يَنْهت بشدة من الانفعال والمجهود, مجهدًا نفسيًا أكثر منه بدنيًا, منذ أن تلقى الاتصال السريع من هشام قبل قليل, يخبره على عجالة بأن والدته بين الحياة والموت فى المشفى, طيلة الطريق وهو يُحضر نفسه لتلقى صدمة قاتلة له ولصديقه, وعندما رأى الطبيب يقف مع هشام هرول نحوهما بأسرع مما تكون الخطوات, واستقر واقفًا خلف صديقه واضعًا كفه على كتفه, التفت هشام إليه ثم عاد يلتفت إلى الطبيب الذى ألقى نظرة عابرة نحو عادل ثم تحول بعينيه واهتمامه نحو هشام مستكملاً الحديث الذى بدأه للتو:


- كما قلت لك يا أستاذ هشام, تحليل عينات الدم أثبتت أنهما تناولا عقارًا مُهلوسًا, والدتك لم تتحمل مضاعفاته, ولكن لا تقلق هى الآن حالتها مستقرة, ولكن ستبقى معنا هنا لعدة أيام قبل أن تخرج معك


تمتم عادل مصدومًا:


- عقار هلوسة !


لم يظهر على هشام أنه قد استمع لتعليق صديقه, فلقد كان يزدرد ريقه الجاف بجفاف حلقه وهو يتابع تساؤلاته:


- وزوجتى؟


عدل الطبيب من وضع عويناته قبل أن يُجيب بعملية مُنهيًا الحوار:


- بخير, وتستطيع أن تأخذها بمجرد أن تستيقظ .


ابتسم وهو يستدير ليغادر فلم يستطع عادل كتم انفعالاته أكثر من هذا, أدار هشام ليواجهه وهو يهتف بانزعاج:


- ماذا حدث معكم يا هشام, أي عقار مُهلوس هذا؟!


تمتم هشام وهو يتجه نحو أقرب مقعد ليرمي فوقه حمل جسده المنهك, الموشك على الانهيار بالكامل, مستندًا بمرفقيه إلى فخذيه, يتنفس, وهذه فى حد ذاتها مُعجزة, إنه يتنفس أخيرًا, لقد ظن بأنه قد فقد القدرة على التنفس منذ أن سقطت والدته أمام عينيه وحتى خرج إليه الطبيب ليطمئنه بأنها بخير, أخرج انفعالاته فى زفرة طويلة مؤلمة قبل أن يلتفت نحو عادل الذى جلس على المقعد المجاور له مائلاً بجذعه نحوه, عيناه مترقبتان لما سيخرج من بين شفتي هشام بقلة صبر, وبدأ يقص عليه ما حدث منذ دخول الشيخ عبد الفتاح النصاب إلى منزله بعد أن دفع له مئة جنيه عن الزيارة الواحدة, وحتى خروج والدته وزوجته إلى سيارة الإسعاف .


ضرب عادل ركبتيه بقبضتيه وهو يهتف بعصبية لم يستطع التحكم بها:


- النصاب, ابن الـ (.....) , كيف تُدخله بيتك يا هشام, كيف؟!



مرت أمامهما مُمرضة فى هذا التوقيت الخاطئ, فالتفتت نحوهما بتقزز وقد ضرب لفظ عادل أذنيها, وأسرعت خطواتها تتخطاهما بنفور.


وضع هشام يده على قبضة عادل المستقرة على قدمه, وربت عليه مُهدئًا وهو يقول بإنهاك شديد:


- سأُحرر محضرًا ضده فى الصباح, الآن أنا مقتول ذهنيًا يا عادل, أرجوك


استند كلاهما إلى ظهر مقعديهما فى صمت مطبق, كل منهما فى عالمه الخاص, هشام غائب فى زوايا عقله حيث ذكريات اليوم المؤلمة تـمر أمام عينيه بحركات بطيئة والافتراضات تغزوه من كل اتجاه متصورًا بأن عقار الهلوسة ذاك الذى وضعه عبد الفتاح مع الزعفران فى زجاجة المياه, كان بدلاً منه عقارًا آخر, ربما مُنومًا, ماذا لو أصر على أن يشرب هشام هو الآخر, كان ثلاثتهم سينامون منزوعي الإرادة وبصحبة نصاب ومساعدته, ترى ماذا كان سيحدث, نفض رأسه بقوة وهو يرفض تلك الصور البشعة التى مرقت بعقله, تضرب رجولته فى مقتل, عادل معه حق, هو السبب بلا شك, كان محقًا عندما قال له بأنه يفتقر إلى ميزة مواجهة مشاكله, ولا ينظر أبعد من أنفه, شعر بيد عادل تربت على كتفه وصوته الهادئ يتسلل إليه متسائلاً:


- أين جنى و لُجين الآن؟


اكتفى هشام بالنظر بطرف عينيه وهو يجيبه بخفوت:


- هذه ميزة الأحياء الشعبية يا عادل, عندما وقفت سيارة الإسعاف أمام المنزل ورأى الجيران والدتي وزوجتى يدخلان إليها, أصرت أكثر من جارة لنا على اصطحاب بناتى معها فى بيتها, والحمد لله لقد كانتا نائمتين أثناء كل هذا فى شقة والدتي بالأسفل فلم يشعرا بشىء, وفى النهاية استقرتا عند زوجة ياسين جارنا, أنت تعرفه


أومأ عادل برأسه مؤكدًا بوهن قائلاً:


- نعم, وٍسأمر عليه لآخذهما معي إلى بيتي حتى تتحسن صحة زوجتك


رفض هشام رفضًا قاطعًا بعد أن شكره مُمتنًا, فزوجته ستعود معه بمجرد أن تستيقظ من النوم على إثر المُهدىء الذى حقنها به الطبيب وقد كانت حالتها يرثى لها وهى لا تتوقف عن الهذيان والقىء .


وأخذ يُمني نفسه بكل ماهو جميل, سيعود كل شىء على ما يرام, ستتعافى زوجته وبعد أيام ستخرج والدته من المشفى وقد استعادت صحتها, وترجع بناته إلى دار الروضة وستتحسن حالة تأخر الكلام لديهما ويُصبحا مثل أقرانهما فى تلك السن, سيبتاع نفس المجلة بعد صدور العدد القادم منها وسيجد أنه لا رسائل أخرى تحمل عنوان " قالت لي", نعم, سيكتشف بأنها كانت مجرد مُزحة, مزحة سخيفة لا يعلم مصدرها, كل شىء سيكون بخير, لاشك فى ذلك!


***


فى اليوم التالي عادت جدايل بصحبته إلى بيتها, ولكن رافضة لأى تواصل معه, ترفض حتى التواصل البصرى ولو بنظرة واحدة, أخذت الفتاتين من بيت ياسين شاكرة زوجته ثم صعدت حيث شقة حماتها, أصرت على عدم الصعود معه لشقته, انفصلت عنه انفصالاً تامًا لأيام, لم يرها فيها إلا أوقاتًا قليلة جدًا, إما عندما يأتي بعد عودته من العمل ليلاً ليرى بناته لدقائق قبل أن ترفض هى أن ينام معهن بنفس الشقة, أو عندما تذهب لزيارة والدته فى المشفى وفى نهاية الزيارة ترفض أن يُقلها بسيارة اجرة إلى المنزل وذلك فى المرات الشحيحة التى تصادف تواجده مع حضورها هناك .


وكعادته انتظر, انتظر حتى تُحل الأمور من تلقاء نفسها مع الوقت وكأن شيئًا لم يكن, غافلاً عن الاشتعال الذى يزيد بتجاهله لشرارته وتركها تُطفأ وحدها!, هل هذا هو الإهمال التى كانت هالة تتحدث عنه فى وصيتها, الإهمال القاتل, مُشعل الحرائق, ضاربًا كعادته عرض الحائط معرفته الحديثة بأن طرق باب قلب الأنثى يستلزم قبله حمل حقائب الإهتمام.


***


وجاء اليوم الذى كان ينتظره بقلق, يوم صدور العدد الجديد من المِجلة, لم يكن فى كامل تركيزه ذاك اليوم أثناء عمله, ذهنه مُشتت تمامًا لدرجة أن استرعى انتباه عادل من شدة شروده, عيناه واظبتا على مراقبته وكأنه مشهد لا يريد تفويت تفاصيله, وقبل نهاية اليوم حاول أن يسأله بخفوت عن السبب, معتقدًا أنه ربما ساءت حالة والدته الصحية ولكن هشام طمأنه بأنها بخير وأن الطبيب سمح لها بالعودة غدًا إلى المنزل.


كم يحب اهتمام صديقه بما يؤرقه, وكم يكره قيامه بتسليط الضوء على المشكلة الحقيقية بداخله!, لم يكن بمقدور عادل الضغط عليه ليتحدث أكثر من هذا, فهو أيضًا يعيش نوعًا من التوتر مع زوجته رؤى دون سبب واضح, وبرغم إصراره عليها يوميًا أن تحكي له ماذا يوترها, فتبدو وكأنها ستتحدث, وقبل أن تنطق بحرف واحد تُغلق شفتيها وتدعي حاجتها للنوم, زفر ببطء طاردًا جميع انفعالاته المُطردة, والتفت نحو هشام الجالس على المقعد الجلدي خلف مكتبه ومال بجذعه نحوه


ثم قال بخفوت:


- مواعيد العمل شارفت على الإنتهاء, ما رأيك لو تنصرف الآن, فأنت ستُسافر باكرًا ولابد وأن ترتاح جيدًا


سقطت عبارته على منطقة حيوية برأسه يُفكر بها منذ أن جاء إلى العمل صباحًا, متى سيغادر ليبتاع المجلة؟, بل متى سينفرد بنفسه ليبحث فيها عما لا يريد أن يجده؟!, تبرعت عيناه بالإجابة رافقها تحرك جسده وهو ينهض على الفور و يومىء برأسه بتعب مُدلكًا عنقه المُجهد وهو يقول:


- أنا فعلاً فى حاجة شديدة للراحة استعدادًا للسفر


جمع أوراقه المُبعثرة بإهمال فوق سطح مكتبه يَضمهم إلى بعضهم البعض بداخل أحد الدفاتر, ثم أغلق خزانة المُستندات بإحكام قبل أن يلتفت إلى عادل مُحييًا إياه وهو يغادر إلى أقرب بائع جرائد ومجلات يقابله فى طريقه .


***


منذ أن ابتاعها وأمسكها بيده وهى تقذفه بين هواجسه المتوالية, تُشعل فتيلها شيئًا فشيئًا, حتى قرُب صبره على الانفجار, وعندما وصل إلى المنزل لم يمر على شقة والدته كالعادة, لم يكن باستطاعته مُمارسة الانتظار أكثر من هذا !.


وفى غرفة نومه وفوق فراشه استلقى بكامل ثيابه, لم ينزع عنه سوى حذائه فقط, الأمر بالنسبة له حياة أو موت, كمن تأتيه رسائل من قاتل مجهول, وفى كل رسالة يجد بها علامات ترشده إلى شخصيته الحقيقية!, بدأ يُقلب صفحاتها بقلة صبر, حتى توقف أخيرًا أمام صفحة بريد " بين الناس" التهمت عيناه السطور حتى سقطتا على ما لم يتمنَ يومًا مُعاينته, الرسالة الثانية منها إلى الصحفى عبدالخالق مروان, تحت عنوانها التى اختارته فى السابق" قالت لي" :


هل تعرف سيدي قول الكاتب آرثر ميللر عن هؤلاء الأشخاص الذين يُفضلون أن يُشنق الجميع على أن يوجه إليهم عتاب ما أو يعترفوا بأخطائهم؟!, أحد هؤلاء الأشخاص هو زوجي!, فعندما كانت تتكاثر بصدري أفعاله حتى تتعاظم ولم أعد قادرة على حجبها بداخلي أكثر من هذا فأعاتبه عليها, وقتها كنت أشاهد وجهه يحتقن بالضيق, قبل حتى أن يفهم مشكلتي الحقيقية, يُغلق قلبه عن سماع بقية عتابي ويترك عصبيته تُنصت لي وحدها, نظراته تتحول إلى صخر, وكأنه لايراني أمامه فى تلك اللحظة, فقط يرى أخطاءه تتجسد فيِّ, فتكرهنى عيناه بشدة, ثم يحدث الانفجار!


انفجار يطيح بي وبه, يُبعثر أشلاء سنوات قضيتها معه, فى خدمته, وفى محراب حبه, والآن أتساءل, ماذا لو كان يسمعنى وقتها بقلبه, ماذا لو تفهم عتابي, ماذا لو تحركت شفتاه بكلمات تروي صحراء حبي القاحلة, بدلاً من دبيب الصمت الذى يُمعن فى قتلي به !, أتعلم سيدي أن فى تلك اللحظات كان للصمت عندى ضجيج يثير أعصابي ويُفقدني ما تبقى لدي من تعقل!, لا لأن الصمت هو من يؤذيني فى حد ذاته, بل لأنه كان يلتهم مني كل صبر وأنا أنتظر كلمة واحدة منه تُطفىء النار المشتعلة بروحي!, صبر مغموس بالانتظار الذليل, كـكلب يلهث ينتظر أن يُلقي إليه سيده بِفُتات طعامه .


ولم يكن يفعل!, ومن شدة عجزي وقهري منه ذات ليلة, أتيت بسكين وحززتُ أطراف شعري حتى شعُرت بألم مُبرح يغزو فروة رأسي, ثم وضعت شعري المُمزق على شاشة هاتفه وهو نائم, أعلم أنها حالة جنونية أصابتني ولكن الجنون الأكبر أنه عندما استيقظ ليأخذ هاتفه أزاحه بعيدًا وتناول إفطاره وذهب إلى عمله, لم يُكلف خاطره بإلقاء نظرة علي ليتفقدني هل أنا على قيد الحياة أم لا !, وكأن قهري أصبح من المُسلمات البديهية لديه !.




أعلم أنك ربما تُفكر أو أحد قراءك, لماذا لم أطلب فراقه؟, لماذا وقد استحالت العِشرة بيننا إلى جحيم صامت؟, ذاك السؤال طاف بذهني ذات يوم وألحّ عليِ بقوة حتى كدتُ أن أتخذ قرارًا به, ولكننى توقفت فى لحظة صدق أمام المرآة, أنظر إلى نفسي, امرأة تجاوزت الثلاثين وطفلتان, أنفقت كل ما تملك على شقته والأثاث المتواضع بها, نبذها أهلها بسببه, نبذها هو شخصيًا, عاطلة لا تعمل!, ترى ماذا ستتحصل فى النهاية إلا على ضياع كامل, فى مجتمع يُحَمل المرأة المُطلقة كل الأسباب, كل العيوب, بل ويطمع بها أيضًا !.


أما الآن ومع زوجته الجديدة "جيم" فهو متفهم للغاية, مُحتضن لها ولمشاكلها, أتعرف بأنه أحضر إلى المنزل رجلًا نصابًا ليمنعني عنها!, وأنا كنت بينهم, أُشاهد وأضحك, كان مشهدًا مثاليًا لتسليتي بالفعل, كان يستحق ما حدث له فى النهاية, وسيستحق ما سيحدث له بعد ذلك, فلقد قررت أن أُنهي تلك اللعبة بطريقتي .


لماذا هو ينعم معها بينما كنت أنا كنت أتعذب لديه, لابد وأن يفقدها ليشعر بما شعرت به يومًا, يشعر بالعجز, بالقهر, بالذل, ولن يجدها ثانية .


كنتُ أُحب أن يكون السلام ختامي, ولكن تلك الكلمة غريبة عندما تبحث عنها بين دفتي أيامي .


ظل هشام يقرأ ويقرأ وانتهت سطور رسالتها فى اللحظة التى اكتشف فيها أن غلالة الدموع فى عينيه أصبحت ثقيلة للغاية, ثقيلة لدرجة تجعله يُجهد بصره فى النظر إلى السطور القليلة التى كتبها عبد الخالق مروان تعليقًا على رسالتها:


- حالة يزيد تفردها تفردًا, حالة مجهولة الخطر, سقت أطراف مشاعري وتفكيري إرباكًا من نوع خاص, يُغري حاستي على التمعن بها أكثر في محاولة لفهمها, بل ومحاولة مراسلتها لتكتب أكثر وأكثر عن نفسها, وعليه فلن أتوجه بنُصح إليها الآن, سأجعل قلمي مُحايدًا وهو يوجه حروفه نحو بعض الأزواج من هذا النوع, وإليهم أقول :


- ارفع رأسك أيها الزوج وانظر إلى المساحات الشاغرة, فى قلبك, ومن حولك, وابحث عن زوجتك, تخطى جدار الصمت الذى علا بينكما يومًا بيوم, فلربما تجد هناك "هاء" أخرى تبكي نبذها بقهر.


أسدلت عيناه ستائر جفونها وسقطت المجلة فوق وجهه, لقد أيقن بأنها كلمات هالة, ولغرابته لم يرتعب كما المرة الأولى, حتى وإن شعُرَ بها حوله فى تلك اللحظة, حتى وهى تقول بأنها لن تتركه ينعم بسلام, رفع رايته واستسلم لأي شىء, المهم أن ينتهي كل هذا ! عرض أقل



الفصل السادس : اختفاء


-2-


استيقظ فى الصباح وهو لايعرف كيف سرقه النوم بالأمس, كل ما يتذكره آخر كلمات قراها وأغمض عينيه دون أن يشعر, بينما سقطت المجلة فوق وجهه تفصله عن العالم, نهض فجأة كالملسوع وهو يهتف باسم " جدايل", شىء غامض بداخله نبت فجأة لا يعرف ما هو, كل ما يعرفه بأنه يخبره بأن حياته أصبحت, ناقص واحد !, شىء اختفى, وربما إلى الأبد !.

نظر إلى ساعة معصمه العالقة بيده منذ أمس, لقد تأخر كثيرًا, كان يجب أن يكون فى طريقه إلى محطة القطار الآن, لم يفعل شيئًا سوى أن ضرب وجهه بعدة دفعات من الماء وهو منحنٍ أمام الصنبور, ثم انطلق يرتدي حذاءه على باب شقته ويهرول على الدَرج, كان لابد من أن يطمئن عليها وعلى فتاتيه ولو لدقيقة واحدة, فتح الباب بمفتاحه الخاص وأخذ يتلفت حوله وهو ينادي عليها بنبرة منخفضة, ولكن لم يُجبه إلا الصمت المُطبق, حدث نفسه بأنها ربما تكون نائمة فالوقت مازال باكرًا جدًا وموعد دار الروضة لم يحن بعد, كاد أن يُغادر ولكن آخر عبارة برسالة هالة قفزت إلى ذهنه ودفعت قدميه للبحث عنها بجميع الغرف, لا أثر لأي منهن بالشقة على الإطلاق, وقف بمنتصف الرُدهة يحاول طرد الأفكار السيئة عن عقله, ربما ذهبت لزيارة والدته بالمشفى؟, أم ؟, أم ماذا !, إلى أين ستغادر فى تلك الساعة؟!.

أغلق الباب خلفه بتوتر وعاد يقفز درجات السُلم مُحددًا المشفى هدفه وبالتأكيد سيجدها هناك!, اصطدم رغمًا عنه بجاره ياسين الذى كان يخرج من شقته فى ذلك الوقت متوجهًا إلى عمله, فابتسم ياسين له وهو يلحظ حالة هشام المرتبكة المُشعثة وقال بحماس:

- أستاذ هشام!, صباح الخير

تجاوزه هشام وهو يرد تحيته سريعًا ولكنه توقف فجأة عندما سمع ياسين يقول من خلفه:

- لا تقلق على بناتك, وبالله عليك حاول أن تُطمئننا على والدتك إذا كان لديك متسع من الوقت

استدار هشام إليه ببطء وقد قطب جبينه بدهشة, لم يستوعب ما قاله ياسين للتو, أو ربما يرفض الاستيعاب:

- ماذا؟!

تابع ياسين والحيرة تنازع القلق فى ملامحه وتفرض سيطرتها:

- وأنا عائد من صلاة الفجر وقبيل الشروق وجدت زوجتك تقف أعلى السُلم شاردة, مُثقلة بحمل الفتاتين فوق كتفيها حتى كادت أن تسقط بهما, حملتهما عنها وسألتها عن وجهتها فى وقت كهذا فلم تُجبني, وغادرت وهى فى حالة يرثى لها, فتوقعت أن تكون حالة, والدتك ..

ذابت كلماته الأخيرة بين شفتيه وهو يواجه ملامح هشام التي تتوالى عليها الانفعالات تترا, محاولاً إخضاع ذهنه لمنطق مفهوم لما يحدث, وذراعه ترتفع تلقائيًا لتسنده إلى الحائط بجانبه قبل أن يُتمتم برجاء خافت:

- من فضلك, اعتني بهما حتى عودتي, وإذا حضرت زوجتي فى أي وقت اتصل بي على الفور

ثم غادر سريعًا بعد أن أومأ له ياسين موافقًا بإشفاق, أسرع يعدو تجاه أول سيارة أجرة استجابت لإشاراته, وبمجرد أن استقر بداخلها حتى أخرج هاتفه مُجريًا اتصالًا بصديقه مُخبرًا إياه بما حدث بصوت متقطع وبغير تركيز, فقال عادل على الفور وهو يمسح وجهه بيده الأخرى, محاولاً إيقاظ حواسه التى كانت مازالت نائمة:

- لا تحمل همًا يا هشام, عندما تصل إلى المشفى وتطمئن على والدتك وزوجتك اتصل بي, واذهب انت حتى لا تفوت قطارك, وأنا سأتكفل بالأمر.

أبواب المشفى كانت مُغلقة إلا من الأبواب الخاصة بالعيادات الخارجية المُلحقة بها فقط فموعد الزيارات لم يحن بعد, دخل من تلك الأبواب وظل يعدو بين أروقتها الطويلة يمينًا ويسارًا ثم استقل المصعد المؤدي إلى الطابق المنشود, انطلق مباشرة من المصعد بعد توقفه, حيث غرفة والدته, دلف إليها ببطء برأسه أولاً وهو يدعو أن تكون جدايل قد اتخذت نفس الطريق إليها, ولكن عينيه صُدمت بالسرير المُرافق لسرير والدته خاليًا, ولا يوجد أحد غيرها بالغرفة, وهى سابحة فى نومها, انتفض عندما شعر بيد توضع على كتفه ثم صوت أنثوي يقول:

- ماذا تفعل هنا فى تلك الساعة

التفت مستديرًا للخلف فوجدها الممرضة المسؤولة عن هذا الرواق بكل المرضى الساكنين غرفه, زفر بتوتر ثم قال بخفوت:

- هل تعرضت والدتى لمضاعفات بالأمس

زمت المُمرضة شفتيها وهو تهمس حانقة:

- كنا سنتصل بك لو حدث ما تقول, والدتك بخير وستخرج اليوم ولكن ليس فى هذه الساعة بالتأكيد

سألها عن زوجته فأجابت بنفس الحنق أنه أول شخص تراه اليوم فى الرواق بأكمله, ثم طردته من الغرفة وهى تتوعد رجال أمن البوابات المتساهلين!, خرج من المشفى بنفس الطريقة التى دخل بها, هاتفه ملتصق بأُذنه فى محاولة ربما تجدي نفعًا, ولكن الهاتف القاطن ببيت عمها انقطع رنينه مرات ومرات ومازال لا يرفع سماعته أحد, يكاد يُجن, نظراته تموج بين الهاتف وساعة معصمه, لم يتبق الكثير, لابد وان يتصرف, لم يكن أمامه حلّ آخر سوى إجراء اتصالٍ أخير بـ عادل ليطلعه على التطورات ويرجوه أن يُسافر بدلاً منه فكلاهما يستطيع تنفيذ المهمة.

***



بحث عنها فى كل مكان من المُمكن أن تتواجد به, واتصالاته المُتكررة بمنزل عمها لم تتوقف, ولكن دون فائدة, إن كانت لم تذهب إليهم فلماذا لا يجيب أحد على الهاتف على الأقل, الاتصالات لا تجدي نفعًا!, الطوابق التى صعدها بتردد بصحبة والدته من قبل يصعد سُلمها الآن قفزًا, طرقات وطرقات ولكن لا مُجيب أيضًا, مازالت الرسومات على الحائط المجاور للشقة تستفزه وتُثير غيظه أكثر, فُتح باب الشقة المقابلة وأطلت منها رأس امرأة أربعينية بملامح متحفزة, ومن بين حافتي الباب ظهرت يدها تحمل منفضة غبار, هاتفة بعصبية:

- من أنت وماذا تفعل ؟

استدار إليها محاولاً الاعتذار بتوتر ولكنها لم تصمت أو تتراجع وهى ترمي باعتذاره عرض الحائط بتصميم شديد على أن يُعرف نفسه, لم يشأ أن يدخل معها فى جدال طويل, فالمنفضة فى يدها المُمتلئة تُنبىء عن قوة سلاح لم يختبره بعد!, فقال بأدب:

- أنا هشام, زوج جدايل التى تسـ,

لم تُمهله ليستكمل عبارته, ولكن هجومها هذه المرة مختلف وقد تغيرت ملامحها إلى الترحيب والتبسط, حاول بشق الأنفس مقاطعتها والسؤال عن جدايل وعمها, فأجابته بدهشة وهى تُلوح بالمنفضة:

- لقد سافروا بعد زواجكما يا أستاذ, ألم تكن تعلم؟!

من المؤكد أن هذا هو اليوم العالمي للدهشة والمفاجآت, متى سافروا؟ وإلى أين؟ تلك التساؤلات مرت من عقله إلى شفتيه فلم تزد المرأة إلا تعجبًا وهى تقول مُثرثرةً:

- والله لا علم لي يا أستاذ, ولكن زوجة عمها أخبرتني أنهما فى الأساس مستقرين فى الخارج منذ سنوات طويلة مع أولادهما الكِبار ولم يأتوا هنا إلا لإجازة قصيرة, فهما لايستطيعان ترك أولادهما أكثر من هذا وحدهم

يُصر هذا اليوم على أن يفقده عقله, لو كانت ما تقوله المرأة ذات المنفضة صحيح, فكيف قال له عمها بأن جدايل تعيش معه منذ أن فقدت والديها, جمعت المرأة شتات أفكاره مناديةً باسمه, رفع رأسه تجاهها دون تركيز, فقالت تسأله بفضول:

- لماذا تطرق الباب, هل ضاع منك المفتاح؟!

أجابها بنفاذ صبر بعد أن أرسل زفرة طويلة ربما تعود إلى شقتها وترحمه:

- ولماذا يجب أن يكون معي مفتاح؟

بعفوية وبتلويحة أخرى من منفضتها وكأنها توبخه:

- لأنها شقة زوجتك, ويجب أن يكون معك مفتاحًا احتياطيًا, أهذا أفضل أم تصديع رؤوسنا بطرقاتك على الباب؟!

شقتها وليست شقة عمها؟!, مفاجأة أخرى أدارت رأسه وجعلته يشك بكل شىء كان يعلمه من قبل, جعلته يشير إليها أن تتوقف قليلاً ويسألها محاولاً الفهم:

- هل أنتِ متأكدة بأنها شقة جدايل وليست شقة عمها؟

زفرت بضيق وعلا رنين هاتف منزلها فنظرت للداخل ثم التفتت نحوه مُجددًا وهى تُخرج من صدرها مجموعة مفاتيح مجموعين فى سلسال من خيط الصوف, بأسنانها فكت عقدة الخيط وأخرجت منها مفتاحًا وحيدًا وعادت تربط الخيط من جديد, مدت له يدها بالمفتاح وهى تقول على عجالة:

- زوجة عمها تركت لي نسخة من المفتاح لأي طارىء, تفضل خذه, أنا غير متفرغة لكل من هب ودب.

ألقت له المفتاح فتلقفه قبل أن يسقط وقبل أن يعود بنظره المذهول إليها كانت قد عادت للداخل مُغلقة الباب فى وجهه بنزق !.

ظل مُتجهمًا مكانه للحظات, وأخيرًا استطاع التحرك نحو الباب, أدار المفتاح وبسهولة كان داخل الشقة, لم يرى من تلك الشقة سابقًا سوى جزء من الردهة وغرفة الاستقبال التي دخلها أكثر من مرة بعد أن رآى جدايل فيها لأول مرة, بتوجس دلف من غرفة إلى أخرى, رائحة الفراغ من حوله تخنق أفكاره وتُشتتها أكثر, الآن هو فى غرفة ضيقة بسريرٍ خشبي صغير, ومكتب خشبي أصغر منه, خلفه مقعد له أرجل رفيعة للغاية خشي أن يجلس فوقه فيحطمه, يده تعبث بلا هدف فوق سطح المكتب باحثًا عن شىء يدله فى متاهته تلك التى دخلها بإرادته, أي إشارة لطريق العودة!, لفت نظره دفتر صغير مألوف لديه, اسم ابنته جنى المُدون عليه وفر عليه الكثير من محاولة تذكر أين شاهده من قبل, بمجرد أن أمسكه بين يديه تذكر كل شىء, إنه الدفتر الذى كتبت فيه هالة وصيتها له, وأخذته والدته من يومها ولم يره, هل خبأته لدى جدايل؟!.

قلب صفحاته بشرود حتى وقعت عينيه على الرسالة التى كتبتها هالة وتركتها لـ جنى و لُجين, لم يقرأها تفصيليًا من قبل, فقط وقعت عيناه على بعض كلمات مُكررة منها, بدأ يقرأها من البداية وحتى نهايتها حتى وقعت عيناه على جملة لم يكن ليلحظها فى ظروف أخرى "ولقد وصيت جدتكما أن تحتفظ بكل أشيائى لكما, لم أستثنِ إلا حجابى الرمادي, فهو لمعلمتكما رؤى التى ستُصبح أمًا لكما بعد وفاتى, لقد خصصتها به لعدة أسباب, الأول لأنني أردت دعوتها بشكل غير مباشر لارتداء الحجاب, والثاني لأنه يليق جدًا بعينيها الرماديتين"!.

***

مال عادل باتجاه رؤى التى بجواره بداخل القطار يتأملها وهى تنظر من نافذته بشغف كبير, عندما فاجأها صباحًا بسفره السريع تشبثت به وهى ترجوه أن يصحبها معه فهى لم تزر الإسكندرية من قبل, وبرغم برودة الجو إلا أنه لم يستطع رفض رجاء عينيها وإلحاح كلماتها, كل ما استطاعه هو أن يؤكد عليها بأنها ستكون وحدها فى الشقة التابعة للشركة طيلة النهار تقريبًا, فالمُهمة فى الأصل مهمة عمل, وهى وافقت بسعادة, ستجلس فى الشرفة تُشاهد البحر وأمواجه العالية فى هذا الفصل من السنة وستتجمد أطرافها, ولكن لا يُهم, المُهم أن تراه ولو من بعيد, رحبا والداه وبالأخص والدته باستضافة طفله حتى يعودان فى الغد, وهاهى تجلس فى المقعد المجاور تستمع بكل ما يمر بها من حقول وحيوانات حتى أعمدة الإنارة المُطفأة !, همس بأذنها مُداعبًا:

- سعيدة يا زيتونة ؟

التفت نحوه بنزق وهى تلكزه بخفة فى ذراعه:

- توقف عن مناداتي بزيتونة, وإلا رميتك من القطار الآن

ضحك بخفوت وهو يرفع كفيه باستسلام, وبنبرة خاصة تُحبها قال:

- وهل ذنبي أن عينيكِ سوداء سواد الليل يا زيتونة

أطرقت برأسها بخجل فوضع أنامله أسفل ذقنها ورفع رأسها مُتابعًا بعتاب وقد وجدها فرصة سانحة:

- ألن تقولي لحبيبك ماذا تُخبئين بقلبك

ألقت نظرة سريعة إليه فلاحظ غلالة من الدموع بدأت تتجمع بعينيها, مسح وجنتها بحنو ودفن كفها بداخل راحته الكبيرة وهو يربت عليه بمساندة و يحثها على الحديث قائلاً:

- تأكدي أن ما تداريه عنى لن يُغير من حبي لكِ شيئًا مهما كان

أدلهمت عيناها بُسحب تنذر بهطول دمعها وتفضح شعورها بالذنب تجاهه وقالت بصوت خافت مُتقطع:

- هل تعدني؟

أومأ برأسه بثقة مؤكدًا لها صدقه, وصدره يضج فى انتظار تلك الحقيقة التى تخشى أن تبوح بها بقلة صبر استطاع أن يُداريها حتى لا تتراجع, وهو يُتمتم بقوة:

- أعدك حبيبتي

سَمِعَ تنهُداتها الناعمة المضطربة قبل أن تميل برأسها نحو كتفه وتقول بخفوت:

- ولكن لا تُقاطعني أرجوك, هل تذكر اليوم الذى عدتَ فيه من عملك فوجدتني أرتعش وأبكي واختبأت فى حضنك؟, لقد كذبتَ عليك هذا اليوم عندما سألتني, أنا لم أفقد وعيي فى المتجر كما قلت لك ولم أقض اليوم مع عاملاته, لقد, لقد كنت عند جدتي فى منزلها

أنتفض بعنف فى مقعده وهو يستدير نحوها بجسده كله هاتفًا دون وعي:

- ثانيةً يا رؤى؟, تذهبين دون أن تُخبريني!, وماذا حدث هناك, تكلمي

علا صوت نشيجها وهى تُجيب متألمة:

- كيف أُخبرك وأنت ترفض أن أذهب هناك, جدتى هى من ربتني يا عادل ولا أستطيع تركها هكذا وقد بلغ بها المرض بأنها أصبحت مُقعدة ولا تستطيع حتى تناول دوائها, وهى كل ما ترجوه أن أُجالسها وأُطعمها, أُسليها ببعض الحكايا

ضغط كفها الذى مازال يسكن راحته بضعف وهو يقول بعصبيته التى اعتادتها منه عندما يغار بشدة:

- وهل تلومينى, ماذا لو صادف وجود ذاك الحيوان "خالك" هناك ماذا كان سيحدث حينها؟

ارتجافتها ذكرته بهيئتها عندما عاد إلى بيته ووجدها ترتجف فقال بعنف بعد إدراك متأخر:

- هل كان هناك ذاك اليوم, هل تعرض لكِ من جديد؟

أنبأه اهتزاز كتفيها بوضوح وهى مطرقة برأسها للأسفل تكتم شهقاتها براحتها الأخرى بأنها تبكي بشدة, ولا تستطيع التوقف, هو يعرفها, هى زوجته ويعلم كل خلجة بها, لا تنهار هكذا إلا إذا تعلق الأمر بذاك الخال الحقير, الذى لم تمنعه صلة القرابة من أن يستغل وحدة ويُتم ابنة أخته المتوفاة, ويُحاول التحرش بها مرة بعد أخرى, إلا إنها كانت تُدافع عن عفتها بضراوة, لا يُنكر عادل فى بداية ارتباطه بها أنه كان مُتفاجئًا بعض الشىء من موافقتها السريعة على الزواج ولكن تلك المُفاجأة لا تعنى شيئًا أمام ذهوله وهى تصارحه بتلك الحقيقة, وترجوه بأن يُعجل بالزفاف, لتخرج من هذا البيت بأسرع وقت, فبالرغم من حبها لجدتها التى ربتها إلا أنها كل يوم تنام مرتعبة مما يُمكن أن يحدث لها فى الغد, لذلك منعها بعد أصبحت فى بيته من زيارة جدتها وشدد على ذلك, الحالة التى تعانيها الآن تعنى بأنها قابلته فى ذلك اليوم, ترى ماذا فعل بها؟!.

ترك كفها وقبض على كتفيها وهو يُديرها نحوه قدر استطاعته, هاتفًا من بين أسنانه:

- أقسم بأن أقتله, تكلمى يا رؤى ماذا حدث منه

فلتت منها شهقة ثانية ثم ثالثة وأصابعه تنغرز دون أن يشعر بكتفها فتؤلمها فقالت وهى تتألم:

- لقد قال لي بأننى الآن ليس لدي ما يمنعنى عن قبول عرضه بعد أن تزوجت, وحاول لمسي وأنا خِفت, خِفت بشدة يا عادل, كانت عيناه دموية مُرعبة, لم أشعر بنفسي إلا وأنا أضربه على رأسه بزجاجة الماء, فسقط أسفل قدمي مُدرجًا بدمائه, تصورت وقتها أننى قتلته, ولكنه أُصيب فقط.



أتمت عبارتها وقد فقدت القدرة على كتم شهقاتها فالتفت نحوهما من يجلسون فى المقاعد المجاورة بفضول, ولكنه لم ينتبه إلا لها هى فقط, ترك كتفيها وضمها إلى صدره بقوة وهو يسبه ويتوعده بالقتل, أنفاسه ملتهبة حارقة والغليان يعلو بصدره وأفكار شيطانية توسوس له بالعودة إلى القاهرة وتمزيق قلبه بيديه العاريتين, دفنت رأسها بصدره بقوة وهى تُحركها وتقول برفض, مُبللةً سترته بدموعها المنهمرة على قلبه تحرقه:

- لا تفعل يا عادل أرجوك, لا تجعله يأخذك مني, أنت كل ما تبقى لي فى الدنيا, أرجوك سامحنى أننى ذهبت دون علمك لم أكن أعلم بأنه يتواجد فى تلك الساعة, جدتى مريضة وأنا لا أريد إغضابك فماذا أفعل؟

سكت لدقائق طويلة وتركها تُفرغ كل دموعها على صدره وعندما هدأت قال بصوت عميق جدًا, وكأنه آتٍ من عمق بئر سحيق:

- أُسامحك حبيبتي, جدتك سأنقلها إلى بيتنا لتقومي برعايتها كما تُحبي, أما ذلك الحقير فلن يفلت من يدي

رفعت رأسها إليه والامتنان يتقافز بعينيها المتورمتين من البكاء, استطاع رسم ابتسامة واهية على شفتيه لطمأنتها ولكنه وجدها تُطرق مرة أخرى برأسها قبل أن تجلد نفسها قائلة:

- ولكن, أنا لا أستحق ما تفعله معي, لقد خدعتك!

أمسك وجهها ورفعه لتنظر إليه, وهو يشعر بأنه لم يسمعها جيدًا:

- ماذا ؟!!

أعادت رأسها إلى صدره تحتمى منه به, وهى تقول مُعترفة بُجملٍ غير مُترابطة:

- صدقنى أنا لم أكن أقصد, لم أنوِ خداعك, كنت فقط أريد ترك بيت جدتى, كنت أخشى على نفسي لذلك سكت, اليوم الذى رأيتنى فيه للمرة الأولى فى دار الروضة التى أعمل بها وفاتحتنى فى الزواج, أنا علمت بعدها بأنك لم تكن تقصدنى أنا, كنت تقصد رؤى أخرى, غيرى !! عرض أقل



 النهاية




-1-




بدت عبير شاردة جدًا وهى تجمع متعلقاتها من فوق سطح مكتبها بداخل المركز الطبي وقد انتهى وقت عملها فى انتظار حضور زوجها الدكتور بلال لتتحدث معه فيما حدث اليوم صباحًا, عندما شاهدت ياسين بجسده المُكتنز وقامته القصيرة يقف أمام جهاز التعقيم يُجهز أدوات الحجامة ويُعقمها وهو يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع كمن يحاول حل شِفرة ما, وعندما سألته عما به وهى تتصور بأنها مشكلة جديدة مع زوجته, فاجأها بالقصة التى انتشرت بالحي عما دار فى شقة هشام والنصاب الذى كاد أن يودى بحياة والدته وزوجته, والكلام الذى تناقلته جاراتها فيما بينهن عن الحالة التى أصبحت عليها زوجته مُذ أن عادت من المشفى بالإضافة إلى مغادرتها قبيل شروق اليوم فى حالة يرثى لها, زمت شفتيها باستياء وهى تلقى باللوم على والدة هشام التى نقلت كل ما يحدث فى بيت ولدها إلى تلك المدعوة عنبر, من المؤكد أنها بتلك المعلومات التى قامت بتمريرها إلى ذلك النصاب عبدالفتاح ساعدته على إيهامهم بما يريد بسهولة لتحقيق مآربه, ولكن شعورها بالشفقة على المرأة العجوز غلب عليها فى النهاية وهاهى تُفكر فى زيارتها بالمشفى فلربما كانت تحتاج إلى مُساعدة فى تلك الظروف الغريبة التى يعبرون من نفقها .


ثلاث طرقات تعرفهم جيدًا جعلن وعيها يطفو من جديد فوق سطح أفكارها, راقبت دخوله لحجرتها بتحية مُشفَّعة بابتسامة يُجيد خصَّها بها وحدها, تلك الابتسامة التى انزلقت من عينيه إلى شفتيه قلمت سريعًا أظافر ظلال مشاعر سلبية تحوم حول قلبها, كتفاه العريضتان احتلتا مجال رؤيتها, مما يُجبر نظراتها أن تحط على لحيته المُهذبة بعناية, رنا نحوها وهو يُعدل من وضع نظارته الطبيبة الأنيقة فوق عينيه بحركة اعتيادية وهو يقول:


- لا داعي لكل هذا الإعجاب فى عينيكِ, فأنا رجلٌ متزوج, مع الأسف!


مُذ سنوات وهو يستطيع استمالة ضحكاتها رغمًا عنها, قذفته بحقيبتها الجلدية فتلقفها فى الهواء وهو يقترب منها بمرح ويرفع غطاء وجهها مُقبلاً جبهتها فدفعته مُدعية استياءً كاذبًا من اقترابه الذى لم يُقس بالمسافات بينهما يومًا, هاتفة بغيظ مُحبب:


- لحُسن حظك أننى لستُ فى مزاج جيد هذا اليوم


لم يندهش كثيرا, فهو يعلم أنها بحكم عملها واختلاطها بأنواع مختلفة من صنوف النساء من المُمكن جدًا أن يتعكر صفوها أو تفقد القدرة على الصبر آخر يومها, هو أيضًا بحكم عمله يحدث معه ذلك وأكثر ولكنه يقذف كل هذا عند قدميها فى تلك الدقائق القليلة التى يلتقيان فيها بعد عودته من المشفى وبداية عمله فى مركز العلاج الطبيعي خاصته, جلس على المقعد المقابل لمكتبها وهو يخلع نظارته عن عينيه مُدلكًا أعلى أنفه وهو يقول ببساطة:


- الأمر يعود إليكِ حبيبتي, لو العمل هنا يُرهقك فلا داعي منه وتفرغي للأولاد فقط


ثم التفت نحوها متذكرًا أنه لم يسأل عن أطفالهما:


- على ذِكر الأولاد, أين هما الآن يا تُرى؟


جلست بدورها على مقعدها الجلدي خلف مكتبها, وتزفر بنعومة قائلة:


- أختى عزة هنا فى إجازة ولقد أصرت على اصطحاب الأولاد من الروضة إلى بيتها اليوم, ومن المُفترض أن ألحق بهم عندها الآن, ولكن حدث أمر غير وجهتي.


أومأ برأسه باهتمام يحثها على التحدث فبدأت تسرد عليه ما أخبرها به ياسين فى الصباح, ورغبتها فى زيارة أم هشام فى المشفى وقد ساءت حالتها كما علمت, ففى كل الأحوال المرأة كانت تحرص على زيارتها بشكل دائم وتتودد إليها وقد أحبتها للغاية رغم عدم رضاها عن بعض من تصرفاتها مع زوجة ولدها الراحلة .


كعادته يُفكر قليلًا قبل أن يجيبها عن أمر كهذا, وكعادتها تنتظر قراره الذى لم يكن يومًا ضد رغبتها إلا نادرًا, وأخيرًا أنار لها الضوء الأخضر لتعبر إلى موافقته بسلام ولكنه اشترط أن يصطحبها بنفسه إلى هناك حتى يطمئن عليها, نهض من مجلسه وهو يُشير لها بأن تُسدل غطاء وجهها مُجددًا, خرج من الغرفة متوجهًا نحو غرفة الكشف الخاصة به, فوجد ياسين يهتم بها ويُرتبها قبل بداية العمل, وطلب منه تأجيل مواعيد المرضى إلى ما بعد صلاة العشاء ليكون لديه متسع من الوقت وهو يصطحب زوجته إلى زيارة أم هشام, أعلن الامتنان فى عيني ياسين عن نفسه بوضوح وهو يهتف شاكرًا له بحماس وتقدير.


***


جلست والدة هشام على فراشها الأبيض وقد ارتدت جميع ملابسها مستعدة للخروج من المشفى, وأمامها حقيبتها الزرقاء الكبيرة التى جهزت فيها أغراضها منتظرة مجىء عادل, فهى تعلم بسفر هشام لمقر الشركة وبأن عادل هو من سيصحبها إلى المنزل, عندما أخبرتها المُمرضة بأن ولدها حضر باكرًا جدًا ظنت بأنه كان يريد الاطمئنان عليها قبل سفره, وهاهى الساعات تمر وجدايل أيضًا لم تأتِ .


ضربت الأرض الملساء بعصاها وهى تزفر متململة بجلستها, وهى تستعد للنهوض بنزق, ستخرج وحدها وتعود للمنزل وستضربهم جميعًا بالعصاة على رؤوسهم حتى تهشمها, طرقات خفيضة جعلتها تكافح تقدم أفكارها العنيفة بالتراجع, تهلل وجهها فجأة وهى ترى عبير تدلف من الباب بحرج بالغ وتُحيها بخفوت, عرفتها بالرغم من غطاء وجهها أو كما تقول لها دائمًا - أستطيع تمييزك من بين مئات المنتقبات


أخبرتها عبير بأن ياسين قص عليها ما حدث لذلك أتت لزيارتها وأن زوجها بلال ينتظر فى الخارج, أصرت المرأة على دخول بلال وقد هالها وجوده بالخارج كالمطرود, تركت عبير وخرجت إليه وهى تُقسم عليه أن يدخل ويجلس معهما بالداخل, كان متحرجًا بشدة ولكنه لم يستطع مقاومتها وخصيصًا وهى مُقدمةً على جذبه من ذراعه, فاختار الدخول بكرامته أفضل !.


كل ما قالته لها عبير كانت تعرفه لذلك لم تُعلق إلا بمصمصة شفاها وهى تتحسر على ذكائها الضائع ولكن جملة عبير الأخيرة والتى نقلتها عن ياسين عن خروج جدايل بتلك الهيئة ثم تبعها هشام بهيئة لا تقل عنها تشعُثًا هو ما أثار ريبتها وشرودها من غرابة ما تسمع .


فُتحَ باب الحجرة دون استئذان, وبلا وعيٍ حاضر دلف هشام يحمل دفتر ابنته جنى بيده, وبالرغم من سقوط نظراته على بلال وعبير ولكن إدراكه سقط على والدته فقط وهو يمُد لها الدفتر بيديه مؤشرًا بأنامله على العبارة التى جعلته يدور حول نفسه منذ أن قرأها فى شقة جدايل قائلاً بصوت مشحون:


- فقدت قدرتي على الفهم, أفهميني أمى, جميعكم خدعتموني أليس كذلك؟!


زفرت والدته بعدم رضا وهى تنهض واقفة مُنحنية الظهر قليلاً وهى تُجيبه زاجرة:


- أنت السبب, رأسك كان كالحجر, رفضت رؤى دون سبب لمجرد أنها كانت تعمل وكأنها وصمة عار بالرغم من أننى أكدت عليها بأنها لن تعود للعمل مُجددًا, أخترت راحتك على مصلحة بناتك, وتناسيت أن أختيار رؤى من الأساس كان لأنها الأقرب إليهما وتعرف كيف تتعامل مع حالتهما, ولكنك فكرت فى راحة بالك فقط .


أنحنى بلال نحو عبير الجالسة بجوار الفراش تشعُر ببلاهة مما تسمع من الحوار الدائر وهمس لها ليرحلا, فالموضوع المُثار عائلى للغاية, بمجرد أن نهضت عبير وهى تستأذن للمغادرة, قبضت المرأة على ذراعها قائلة بعصبية زائدة:


- انتظرى يا دكتورة عبير سأرحل معكما لا أريد البقاء مع هذا المعتوه


عاد إدراك هشام يعمل من جديد على بقية مساحة الحجرة دون والدته والتفت بحدة لم يقصدها نحو عبير وقد كانت بالنسبة له كـسفينة إنقاذ أتته وهو يصارع أمواج بحر يوشك على الهلاك فيه, وهتف وهو يقترب منها خطوة واسعة:


- أنتِ الدكتورة عبير؟, كيف لم أُفكر بكِ من قبل وأنا أبحث عنها فى كل مكان, أين أجد زوجتي الآن أخبريني؟


تلك الخطوة كانت كفيلة بأن تجعلها مَأسُورة خلف جسد زوجها الذى وقف أمامها مباشرة واضعًا يده على كتف هشام بخشونة ولسانه ينطق بشراسة أقل حسيسًا من التى انطلقت شرارتها من عينيه:


- اقترب خطوة أخرى وستندم صدقنى !


رفع هشام نظره بدهشة نحو بلال وكأنه لم يلحظه إلا الآن, بينما تدخلت المرأة بينهما وهى تسحب ولدها بعيدًا عن يد بلال, فالوضع لن يكون مُتكافئًا أبدًا, بالإضافة إلى ضيق صدرها الذى شعرت به وقد فاض بها الكيل مما يموج به, يكفى مُداراةً وصمتًا وليفعل ما يفعله لقد تعِبتْ, أبعدته الخطوة التى اقتربها وهتفت غير مبالية بوجود آخرين معهما:


- الدكتورة عبير لا تعلم شيئًا عن جدايل, ألا زلت أعمى البصيرة حتى الآن؟!, أنا بالفعل طلبت منها أن تُرشح لي عروسًا لك ولكنها لم تجد من توافق على ظروفك العائلية, وبما أنك لم ترَ رؤى حتى, وركبت رأسك ورفضتها دون أن تعلم حتى اسمها اضطررت أن أُسايرك وأخبرتك أن هناك عروسًا أخرى من طرف الدكتورة عبير.


غرز هشام أصابعه المرتعشة بين خصلات شعره بقوة ثم يحرك رأسه يمينًا ويسارًا كأبله لا يفهم ما يُقال له بوضوح, ولكن كيف؟ فتح الدفتر مرة أخرى ونظر لسطوره وهو يهذي بالعبارات الغير مترابطة التى تطحن عقله بلا هواده:


- أمى, هالة تقول فى وصيتها للفتاتين أن رؤى مُعلمتهما غير مُحجبة لذلك أهدتها وشاحها الرمادى لأنه نفس لون عينيها, ورؤى زوجة عادل هى نفسها مُعلمة البنات ولقد كانت غير مُحجبة بالفعل ولكن عينيها سوداء, أنا رأيتها بنفسي عندما ذهب عادل ليراها فى الروضة, وجدايل زوجتى عينيها رمادية ومستديمة على ارتداء حجابها الرمادى, سأُجن بالتأكيد !


زفرت والدته بضيق ولكن الحدة خَفُتت فى نبراتها وهى تربت على كتفه بتفهم:


- رؤى زوجة عادل ليست هى رؤى نفسها التى أوصت لها هالة بوشاحها, هى زميلتها وقد كانت تعمل معها بالروضة, حدث خلط بينهما عندما ذهب عادل ليراها, ولو توقفت عن مناداة زوجتك بـ جدايل لحُل الموضوع من تلقاء نفسه .


وكأنها ضغطت قابسًا أحمر كبيرًا فى عقله, أضاء بضوضاء الإدراك المُتأخر دافعًا إجابات منطقية لكل أسئلته بتلافيف عقله بقوة وسرعة وليدة, عندما استقبله عمها وقتما ذهب لرؤيتها, حدثه عن مدى ارتباطها بوالدها رحمه الله, ومدى تدليله لها حتى أنه أطلق عليها أسم جدايل كتدليل لها, جدايل اسم جدتها من أبيها وكان ذلك سببًا كافيًا ليجعل والدتها ترفض أن تكتبه فى شهادة ميلادها, وأصرت أن يُسجلها باسم رؤى!, ومنذ ذلك الحين والجميع يناديها بـ جدايل إلا والدتها وبعضٌ من زميلاتها, لذلك أحب هو أن يُناديها به ليُشعرها بالألفة تجاهه منذ اللحظة الأولى حتى نسي أو تناسى اسمها المُسجل بالأوراق "رؤى".


لم ينتبه إلى تلك الحقيقة فى البداية, اعتبره مجرد تشابه لا أهمية له, ولمَ يكن له أهمية وقد تزوجها صديقه وانتهى أمرها بالنسبة له!, والدته خدعته بمكر, ولكنها ليست وحدها !


رفع عينيه إلى والدته والغضب يُحدد مقلتيه وسوادهما بخطوط لا تقل سوادًا عن لونهما وهو يهمس من بين أسنانه :


- وبالتأكيد زوجتى الفاضلة وعمها المُهذب وافقا على تلك الخطة, وكنتم تضحكون فيما بينكم على الأحمق الذى صدقكم جميعًا


أزاحت يدها من فوق كتفه سريعًا وكأن لمسته تحرقها واستندت بظهرها بإرهاق بدا على وجهها وجعل جسد عبير يتحفز تلقائيًا استعدادًا للسقوط الذى سيحدث بين لحظة وأخرى ولكنها وجدت المرأة تستعيد بعض من قوتها بعد أن تنفست بعمق ثم قالت له:


- يا بني افهم, جدايل زوجتك..


قاطعتها ضحكته العصبية الساخرة وهو يهتف :


- تعنين رؤى زوجتى, أليس كذلك!


عادت تتنفس عميقًا من جديد مُستعينة بعصاها تلقى ثقل جذعها عليها قبل أن ترد بهدوء لا يتناسب مع الضيق الذى يعترى دواخلها:


- نعم رؤى زوجتك, كانت وحيدة جدًا يا ولدى بعد أن فقدت والدتها أيضًا, وعمها وزوجته حياتهما مستقرة خارج مصر, رؤى زوجتك هى من هاتفته وهى تبكي راجية إياه أن يأتى ولو لزيارة قصيرة ليساعدها على نقل والدتها إلى الشقة الجديدة التى أجبرتها إحدى جاراتها على الانتقال إليها وقد سئموا صراخ أمها كل ليلة, لذلك ترك عمها وزوجته أولادهم هناك وجاءوا إليها ولكن للأسف بعد انتقالهم بيوم واحد هربت والدتها عائدة إلى شقتها القديمة وهناك ماتت مُحترقة أعاذنا الله, كانت الفتاة ضائعة تمامًا وبالأخص وهى تعلم بأن عمها وزوجته سيعودان مرة أخرى بعد فترة قصيرة وستصير وحدها تمامًا, أنت وبناتك كنتم آخر أمل لها فى الحياة فماذا كنت تريدنى أن أفعل, أتركها وقد وصتني عليها هالة رحمها الله؟.


دون أن يرى وجهها شدد مُساندًا على كتفها بعد أن أحاطه بذراعه, كان يعلم أنها تبكى فى هذه اللحظة تأثرًا بما تقوله المرأة من حكايا عن تلك الرؤى, كم من أبوابٍ مُغلقة يحصُل خلفها ما لا يُمكن تصديقه, منه ما ينسل من أسفل بابها, ومنه ما يُحكى على العلن, ومنه ما يُؤسَرُ بقلوب تموج به وحدها, قلوبٌ رأت كل شىء, حتى مات فيها كل شىء, تلاطم الحديث العاصف أجبر بلالًا على الخروج من تأملاته وهو يسمع هشام يهتف بدهشة:


- معنى هذا أنها هى من كانت تكتب وتُرسل تلك الرسائل إلى المجلة, ولكن كيف لها بتلك الأسرار, هل هالة تزورها بالفعل, هل أجبرتها, هل اختطفتها كما توعدتنى, هل هى فى خطر الآن؟ ماذا يحدث لي, كلما حللتُ عقدة تُسرع إلي حياتى أختها؟!


أنهى كلماته وهو مُمسكٌ برأسه, يشعر به على حافة الانهيار, لم تستطع والدته كتم فضولها, سألته بترقب خوفًا من انفجاره عن تلك الرسائل التى يتحدث عنها, ترك جسده ينزلق كورقة فى مهب الريح إلى الأرض الباردة مُستندًا بظهره إلى الباب المُغلق, الغليان الذى تضج به عروقه جعله لا يشعر بتلك البرودة القارصة التى بدأت تلف الحجرة أكثر فأكثر كلما غربت الشمس وهو يقص عليها ما أراد أن يُخفيه من قبل, وكلما توغل بين غابات حكاياته كلما تململ بلال فى وقفته وهو يناظر عبير وكأنه يسألها النصيحة, الأمر بات مُحرجًا بالنسبة لهما كثيرًا, هشام يقول أشياء تُسَود فيها صفحاتٍ كِثار !, لولا استناد هشام وهو فى تلك الحالة لباب الحجرة لسحب زوجته وخرج منها دون أن يلتفت لرفض المرأة وتشبثها بـ عبير, هذا الزوج المُتعَب يُثير عجبه لا إعجابه, لو كان ذو فطنة ولو قليلاً لما كابد كل تلك المعاناة !.


انتبه فى تلك اللحظة على صوت زوجته المُشبع بالبكاء وهى تسأل بقلق على رؤى وبجفاء موجه نحو هشام وحده, وكأنها تعرف رؤى منذ سنوات غابرة وتنافح عن قضيتها:


- هل سنجلس هكذا نُضيع فى الوقت بأحاديث ليست ذات أهمية, ولا نعلم مصير الإنسانة المُختفية منذ الصباح وحتى الآن؟


تمتمت والدة هشام وكأنها لا تتعلم أبدًا دروسها:


- كنت على حق عندما ظننت أن روحها تسكن الشقة!


اتسعت عيناها شيئًا فشيئًا وهى تُتابع بصدمة:


- معقول, هل من المُمكن أن تكون أخذتها معها تحت الأرض؟!


شهقت بصوت مسموع عندما علت طرقات عصبية على باب الحجرة, تحرك بلال مُسرعًا وهو يساعد هشام على نهوض مُمسكًا أياه من كتفيه, فُتِحَ الباب ودلفت المُمرضة على عجلة من أمرها تسألهم الرحيل, فهناك حالة أخرى تنتظر.


***


سرت بعض الهمهمات فى المقعد الخلفى للسيارة بين عبير ووالدة هشام, بينما ولدها يجلس صامتًا بجوار بلال بداخل سيارته, اضطر للموافقة وقد ألح بلال على أن يقلهما بسيارته إلى المنزل, الآن وقد استوت الأمور برأسه أكثر من ذى قبل وبدأ يهدأ ويُفكر بعقلانية منطوٍ على نفسه يستند برأسه إلى زجاج النافذة المُغلقة بجواره, لا مفر أمامه من استكمال البحث عنها, بل لا مفر من العنوان التى أعطته والدته إياه وهى تقول له بعفوية:


- هذا عنوان شقة رؤى القديمة التى هجرتها بعد أن احترقت فيها والدتها.


عنوان أثار بعض مخاوفه, ذكره بما قرأه من خلال بريد بين الناس, وهى تتحدث عن الشقة وعمن يسكنها من أشباح من كانوا يسكنوها يومًا وهم أحياء, والدتها, والدها, هالة التى تعدهما بالشر!, وسؤال حول رؤى يخشى الإجابة عنه منذ أن استقل السيارة, ترى هل مازالت حية؟.


بدأت قطرات الأمطار القليلة تُقبل زجاج السيارة الأمامى وهو يُراقبها وكأنه يحصيها, أخرجه صوت بلال الهادىء من حساباته عندما سمعه يتساءل:


- علمت بأنك حررت محضرًا لذلك النصاب عبد الفتاح, فهل هناك جديد؟


تنحنح هشام ليجلى حنجرته صارفًا أفكاره بعيدًا قليلاً عن عقله الآن :


- المحامى أبلغنى بأن الرجل حُرر ضده محاضر كثيرة من قبل وجاري البحث عنه, حتى عنبر التى لم تظهر سوى بعد أن علمت أن والدتى بخير, عندما قبضوا عليها لم تستطع أن تدلهم على مكان سكن مُحدد له وما زالوا يحتجزونها لديهم حتى الآن.


أومأ بلال برأسه, وهو يُحاول فتح أحاديث جانبية مع هشام حتى يصلوا إلى منزله, لقد استطاع أن يقرأ عينيه ونظراته المضطربة ووالدته تمنحه عنوان الشقة المهجورة وتحدثه عنها, لذلك أراد صرف أفكاره لبعض الوقت ليتمالك جأشه ولو قليلًا, ليستطيع المواجهة, لا مواجهة الموقف, بل مواجهة مخاوفه!, فالمخاوف لا قيمة لها دون أن نؤمن بها, ونُصدقها !.


- ياسين جارك فى نفس البناية, أليس كذلك؟


- نعم


ابتسم بلال وهو يُدير عجلة القيادة قائلاً بثقة:


- هذا يؤكد لي أن المحامى الذى تتحدث عنه هو فارس سيف الدين


التفت هشام نحوه بابتسامة صغيرة متسائلاً:


- كيف عرفت؟


ضحك بلال بخفة وهو يُجيب ببساطة:


- ياسين يُحب (فارس) جدًا ويجمع له الزبائن من كل مكان


ابتسامة ضائعة ارتسمت على شفتيه وقد بدا الاهتمام يظهر على نبرات صوته:


- هل تعرف الأستاذ فارس؟


ظهرت التسلية على ملامح بلال وهو يقول بحماس:


- صديقى منذ سنوات, منذ أن كان مُضطرًا على مواجهة الشياطين هو أيضًا, ولكنها كانت شياطين الإنس, وصدقنى هؤلاء من يستحقون خوفك بحق, سأحكى لك قصته فيما بعد, بعد أن ننتهى من أشباحك الخاصة .


أنهى كلماته وهو ينظر فى المرآة أمامه يُبادل عبير النظرات بابتسامة وهو


فى هذه اللحظة كانت والدة هشام تمد يدها واضعة إياها على كتف ولدها من الخلف وهى الأعرف بحاله فى تلك اللحظة قائلة:


- سأذهب معك إلى هناك لا تقلق


** شخصيات فارس وبلال وعبير ومهرة أبطال رواية سابقة بعنوان – مع وقف التنفيذ -


حرك هشام رأسه نفيًا وقبل أن يجيب سمع (بلال) يتدخل قائلاً بحسم:


- لا يا خالة, سأقلك أنت وزوجتى لبيتك وسأذهب أنا مع هشام


ثم وجه حديثه إلى عبير مُذكرًا أياها:


- حبيبتي, لا تنسي أن تهاتفى أختك لتطمئنى على الأولاد وتُعلميها أين أنت


أدار هشام رأسه نحوه بنظرات مُستنكرة, هل يقول لها حبيبتى أمام الناس؟, هكذا ببساطة وكأنه يناديها باسمها !.


أوقف بلال السيارة أمام البناية وما زالت قطرات المطر الخفيفة تداعب وجهه عندما ترجل هشام من السيارة صاحبها فى تلك اللحظة صوت آذان المغرب يصدح من المسجد القريب, دار حول السيارة من الأمام ليواجه (بلال) الذى ترجل هو الآخر مُوصدًا بابها خلفه, مُستندًا إليه وهو يُراقب خطوات زوجته إلى أن اختفت داخل البناية ثم استدار تجاه هشام واضعًا يده على كتفه وهو يقول بأريحية وكأنه صديق قديم:


- نُصلى المغرب ثم ننطلق إلى هناك, سنجدها إن شاء الله, لا تقلق؟


أومأ هشام موافقًا وهو يشعر بالأُلفة معه, بينما كان قلبه يُعاتبه مُتسائلاً عن آخر مرة دخل فيها المسجد مُصليًا؟!.


عندما انتهت الصلاة وخرجا من المسجد ركضا إلى السيارة وقد بدأ المطر بإرسال زخاته إلى الأرض مُعلنًا عن انتهاء وقت الدعابة ببرق يصحبه رعدٍ شق السماء المُظلمة, كظلمة مخاوفه التى لم تنطفىء نجومها بل تومض بقوة اعتقاده بها.


الشارع المُظلم الذى ولجته السيارة بمساعدة مصابيحها والذى لم يكن خاليًا تمامًا من المارة, مازال البعض يدخلون إلى البنايات فيه جريًا تجنبًا للمطر والبرك التى صنعت لنفسها زوايًا حيوية منه كفخاخٍ للبشر.


أوقف بلال السيارة جانبًا ببطء وحذر إلى جانب السيارات المرصوصة والمُغطاة منها إلى جانب البناية المقصودة تمامًا, ترجلا من السيارة سريعًا قاصدين مدخلها مباشرة قبل أن تبتل ملابسهما بالكامل, الأضواء القادمة من الطابق التالى هى التى كانت تمد غالبية الطابق الأرضى حيث شقة رؤى بالإضاءة, فالمصباح الخاص به مُغطى بالغُبار وإضاءته ضعيفة للغاية, رعشة صدمت أوصاله عندما وقعت نظراته على الشقة المنزوية خلف السُلم قليلاً حيث ظلال الأضواء تقع على جزء منها صانعةً ظلالاً خادعة للنظر, رائحة الفُلفُل الحارق مخلوطًا بروائح أخرى مُغلفة بالغُبار تصل إلى أنفهما بشكل مُزعج, تحولت نظرات هشام إلى بلال الذى يقف بجواره يتأمل المشهد بتفاصيله وقال بضياع وكأنه تذكر للتو أن لكل شقة مفتاحًا يخصها:


- كيف سندخل ؟


مط بلال شفتيه وهو يضع يديه على خاصرته متسائلاً وهو يُقيم الباب بنظره:


- ما رأيك, نكسره؟!


بعد ما يقرُب من نصف ساعة كان هشام يُمسك بمفتاح الشقة بين أصابعه المُرتعشة وهو يقترب بحذر من الباب مُتحليًا بشجاعة ظاهرية, بينما بلال بجانبه يسانده بنظراته ويومئ له برأسه, ومن خلفهما ببضع خطوات تقف فتحية صاحبة البناية وبجوارها زوجها بعد أن كانت رافضة أن تمنحهما المفتاح خوفًا من خروج اللعنة إلى بقية الطوابق وطوال الدقائق الماضية وهما يتجادلان معها فى محاولة إقناعها ولكن لاجدوى, لولا تدخل زوجها الذى قلق بالفعل على رؤى بعدما علم بأنها غائبة منذ الصباح وزوجها يبحث عنها, وهاهو وبعد معاناة معها يقف بصحبتها خلفهما فى انتظار النتيجة .


دفع هشام الباب بحرص ففتحه على مصراعيه أثناء ما كان بلال يهمس له بتحرج وهو يُفكر بأنها لو كانت بالداخل فبالتأكيد ستكون مُتكشفة ولو قليلاً:


- هل تريد أن تدخل أنت أولاً؟


ابتلع هشام غُصة بحلقه الجاف وعيناه تحاول اختراق الظلام بالداخل, فى محاولة ضعيفة للإجابة ولكنه لم يستطع نطق كلمة واحدة عندما تسلل إلى سمعه همهمات آتية من الداخل, وفجأة ودون مقدمات, دوت صرخة جعلت فتحية تقفز بين ذراعي زوجها الذى تمتم بالاستعاذة على الفور وهو يتراجع بها خطوة للخلف كرد فعل غريزي, أما هشام فلقد انزلقت حرفيًا كُتلة من الثلج من أعلى ظهره وحتى نهايته وصولاً لقدميه, والبسملة لا تُفارق شفتيه, إلا أن خارجه كان صامدًا كرجل أمامهم دون أن يسمح لقدميه بخذلانه, عندما شاهد (بلال) يتخذ خطوات ثابتة للداخل تبعه دون تفكير, يداه تتحسس الجدار بترقب فى انتظار شىء ما سيقبض عليه فى أية لحظة, فجأة أُضيىء مصباح الردهة فالتفت ليجد (بلال) يرفع يده من فوق زر الإضاءة خلف باب الشقة مباشرة ثم قال بخفوت:


- اعتياد أعمال الكهرباء تنفعُ أحيانًا


زفر براحة وهو يدور ببصره بين أركان الشقة ورُكام الأتربة الذى علا كل شبرٍ منها يُخلخل ظنونه بوجودها هنا من الأساس, فى الاتجاه الآخر غرفة مُحترقٌ جزء من بابها ومتهالك للغاية, عندما نظر بداخلها, حيث الجدران المُحترقة السوداء, شعر بأنه داخل غرفة خُصصت لتحضير الأرواح كما كان يُشاهد فى بعض الأفلام القديمة, لم يُدرك أن لسانه يُتمتم بما يدور بذهنه فى تلك اللحظة إلى عندما سمع بلال يقول مُعقبًا:


- الأرواح التى يقبضها ملك الموت عند انتهاء أجل أصحابها تذهب إلى عالم البرزخ, ولايستطيع أحد إحضارها من هناك


رفع هشام عينيه إليه بصمت يلاحقه اهتزاز مُقلتيه, فتنهد بلال بعمق وهو يُجادل بنظراته عيني هشام المُتشككتين, أصنام الجاهلية هُدِمت بقلوب من كفروا بها قبل سواعدهم, فهل تقدر قلوبنا اليوم على كسر أصنامنا الخاصة؟!


حاد هشام بنظره بعيدًا نحو الممر المؤدى لغرف النوم, لم ينتظر هذه المرة نظرة تشجيعية من بلال, رجولته أبت ذلك, وفكر كما فكر بلال من قبل باحتمالية وجودها بالداخل مُتكشفة, إن كانت موجودة من الأساس, مرت عيناه سريعًا على الغرفة الأولى, فارغة سوى من أثاثها فقط, لفت انتباهه خف منزلي موضوع بعناية فوق الأرضية المُتغبرة أسفل الفراش فى انتظار قدمي صاحبه, سرت قشعريرة فى جسده واستكمل ازدراد ريقه وهو يستكمل سيره للغرفة الأخيرة, كانت مُغلقة, وقبل أن يمد يده ليتناول مقبضها ويعتصره ألقى نظرة للخلف, وشعوره بتلك الإنقضاضة الخلفية يلازمه دومًا فى كل حركة يقوم بها, دفع الباب فجأة وهو يقف على عتبته كما فعل مع باب الشقة ونظرة واحدة إلى الداخل جعلته يهتف بلوعة وهو يراها مُلقاة على الأرض شاحبة الوجه:


- جدايل !


***


انحنت عبير وهى تُطعم الفتاتين وتُداعبهما بينما والدة هشام تجلس أمامها وتناظرها بامتنان شديد, منذ يومين وهى لاتفارقها إلا لساعات قليلة, طلبت من ياسين تأجيل جميع مواعيدها فى المركز الصحى, وتظل معها هى وأولادها فى بيتها من بعد الظهر وحتى يأتى زوجها ليلاً ليقلها وأولادهما إلى المنزل, زوجها الذى لم يترك هشام منذ أن وجدا رؤى فى شقة عائلتها القديمة مُلقاة أرضًا شاحبة كالأموات, وفى المشفى ازدادت حيرتهما عندما قال الطبيب:


- صحتها جيدة, مجرد هبوط لا أكثر إلا أنها لا تريد التحدث مع أحد !


وعندما دخل هشام إليها فى حجرتها بالمشفى لم تنظر له وظلت عينيها معلقتين فى الفراغ, وحين أمسكها من كتفيها ارتعشت ونفضت يديه بقسوة وكأنه أخرجها من مكان تحبه عنوةً, ولما ناداها باسمها المُحبب:


- جدايل


ظهرت على وجهها ابتسامة لا حياة فيها, ابتسامة تشفي, وتجمدت نظراتها بجفاء داخل عينيه وهى تُحرك شفتيها الباهتتين وتهمس بنبرة خافتة شرسة :


- جديلتك هذه تركتها لـ هالة كما تركت أمى للنار


لم يملك بعدها إلا أن ينصاع لنصيحة بلال عندما قال له:


- زوجتك تحتاج إلى مصحة نفسية, أنا أعرف طبيبًا نفسيًا جيدًا يعمل فى واحدة


وتم نقلها إلى المصحة ومن يومها وحتى الآن وهى تخضع لجلسات نفسية لتحديد نوعية مرضها المجهول هذا, ولقد كان من المستحيل تحديد هويته دون أن يعرفوا ما حدث لها بالضبط وهل لها تاريخ مرضى أم لا ؟, كانت الخيوط مُبعثرة, ومهمة الطبيب فى جمعها كانت صعبة للغاية, منحته والدته رقم هاتف عمها فى الخارج وعندما علم بحالتها وعدهم بالحضور السريع قدر ما يستطيع .


رفعت والدة هشام رأسها التى كانت مُستندة بها على رأس عصاها وهى تقول موجهة حديثها نحو عبير مقاطعة حديثها الذى كان من طرف واحد مع الطفلتين:


- لا أعرف كيف أشكرك أنت وزوجك يا ابنتى على كل ما فعلتماه معنا


أرسلت عبير تنهيدة ناعمة وهى تلتفت نحو والدة هشام وتُجيب وكأنها لم تسمع شكرها الذى تكرر كثيرًا على سمعها منذ أن حضرت صباح اليوم:


- خالتى, جنى و لُجين تحتاجان إلى بيئة مختلفة, أشعر أنهما منطويتان أكثر من اللازم, هما فى حاجة للاختلاط أكثر بأطفال, الروضة مهمة بالطبع ولكنها لا تكفى.


زمت المرأة شفتيها وهى تتأوه بيأس قائلة:


- النصيب يابنتى ماذا نفعل, ليس لدينا فى أسرتنا أطفال فى عمرهما, أبناء عمتها الوحيدة كِبار, وكذلك أبناء أخوالها, بالإضافة إلى أن العلاقات لم تكن تسمح بالزيارات من الأساس


نهضت عبير جالسة بجوارها وهى تربت على كتفها مُقترحة بجدية:


- مارأيك يا خالتى, لقد تحدثت مع مُهرة صديقتى عنهما وهى طلبت مني أن أصطحبهما لزيارتها بعض الوقت يوميًا


- هل هى طبيبة تخاطب أو ماشابه؟


قالت عبير وهى تُلوح بيدها بحماس مبتسمة:


- أكثر من هذا, مُهرة لديها طاقة لا تنفد مع الأطفال, أطفال الحى لا يُغادرون بيتها, إلا إذا حضر زوجها من عمله أو طردتهم هى لتستذكر دروسها فهى ما زالت طالبة جامعية .


صمتت والدة هشام لتفكر فى الأمر, وعيناها مُعلقة بالطفلتين الجالستين بهدوء لا يتناسب مع أعمارهما فى هذا السن, ثم أومأت برأسها موافقة لها, ولم لا, ربما تتغير نفسيتهما عندما يعيشان بعض أجواء المرح لبعض الوقت فى بيئة أخرى صحية, بعيدًا عما يُعانونه جميعًا هذه الأيام . عرض أقل


النهاية


-2-


جلس عمها أمام الطبيب المُعالج, هو القريب الوحيد لها, هو فقط من يعلم عنها ما لم يعلمه غيره, حمد الله أنه استطاع الحصول على مقعد فى الطائرة المتوجهة إلى القاهرة فى اليوم التالى مباشرة من مكالمة هشام له, وهاهو الآن يجلس برزانة أمام طبيبها وساعده يرقد بأريحية فوق حافة مكتبه وهو يجيب عن أسئلة الطبيب بصدق:

- نعم, بالرغم من تواجدى خارج البلاد بصفة مستمرة نظرًا لظروف عملى واستقرار أولادى فى دراستهم هناك إلا أننى كنت أتواصل هاتفيًا كثيرًا مع أخى رحمه الله وأعلم الكثير عنهم, والدتها رحمها الله منذ أن تزوجها أخى وهى تعانى من مرض الوسواس القهرى, وعندما حاول أخى أن يعرضها على طبيب رفضت بشدة واتهمته بأنه يريد وضعها بمشفًى الأمراض العقلية, وقد كان رحمه الله يُحبها بشدة لذلك قرر أن يُعالجها بنفسه .

وكان هذا أكبر خطأ ارتكبه فى حقها دون قصد, فبعد أن بلغت جدايل الخامسة عشر من عمرها زادت الوساوس لدى والدتها, بدأت تكره ابنتها وتقول بأنها تريد قتلها وهى نائمة, كانت تكره اسم جدايل بشدة ليس لأنه اسم حماتها فقط بل لأنه كان اسم التدليل الذى أصبح وكأنه هو الاسم الرسمى لـرؤى, الاسم وحده كافٍ ليجعلها تنزعج حتى بدأت تُفصح عن وساوسها بوجه رؤى وتقول لها دومًا بأنها ستقتلها وبأنها تكرهها لأنها دميمة وعيناها رمادية تُشبه عيون الأموات, وبالرغم من أن رؤى ليست دميمة على الإطلاق إلا أن معاملتها كدميمة جعلتها تعتقد ذلك بل وتخاف من لون عينيها المُميز أيضًا .

كان خطئي أنا, فقد رأيت حالتها تسوء بعد موت أخى رحمه الله ولم أفعل شيئًا لها أو للفتاة المسكينة, بعد أن انتهى العزاء ذهبت إليهما لأودعهما قبل سفرى وسمعتها تشتمها بكلمات بذيئة وتتهمها بأنها قاتلة والدها, وبالرغم من ذلك سافرت وتركتهما وتخليت عن مسؤوليتهما بدعوى أن هاتفى معهما لو احتاجانى بشىء ضرورى سأكون عندهما فى اليوم التالى, بعد أشهر قليلة هاتفتنى جدايل و..

قاطعه الطبيب الذى كان يُدون بعض الملحوظات فى دفترٍ خاص قائلاً بتنبيه:

- من فضلك, لا أحد يُناديها بـ جدايل بعد الآن, من الواضح أن لديها إشكال مع هذا الاسم

أومأ له عمها بالموافقة دون أن يُعلق فأشار له الطبيب بأن يستكمل بما يعرفه عنها فقال مُردفًا:

- بعد أشهرٍ قليلة هاتفتنى رؤى وطلبت مني الحضور بشكل ضرورى لأن والدتها حالها تبدل من سيء إلى أسوأ والجيران يُريدون طردهما من الشقة لأن والدتها كانت تصرخ طوال الوقت فكانت تُفزع أطفالهم, وقالت لي وقتها بأن جارة لها لا أذكر اسمها منحتها شقة أخرى بالإيجار فى مكان قريب من شقتها القديمة ولكن والدتها ترفض الرحيل وترك الشقة, تأخرت فى الحضور أسبوعًا كامًلا وعندما وصلت كانت والدتها حاولت أن تحرق نفسها ولكن رؤى منعتها فى اللحظة الأخيرة وسمعتها تشتمها ثانية ولكن هذه المرة كان سبًا مؤذيًا للغاية حتى أن رؤى انهارت فى بكاءٍ شديد وهى تقول " ليتني تركتك للموت " .

فى نفس اليوم اقترحت على رؤى أننا يجب علينا البحث لها عن مشفى أو مصحة للعلاج بعد أن تنتقل إلى الشقة الجديدة ورؤى وافقتنى على اقتراحى, وبالفعل أجبرتها بالقوة على ترك الشقة وذهبت بهما إلى الشقة الجديدة, فى نفس الليلة استيقظت فزعًا على صوت انغلاق قوى لباب الشقة, بحثت عنهما فلم أجدهما, فتوقعت أن والدتها هربت وهى لحقت بها, ذهبت فى إثرهما بعد أقل من عشر دقائق فوجدت الجيران مجتمعين أمام البناية وبعض من الرجال يحاولون كسر الباب والدخان ينسل من أسفله بكثرة, وبعد كسره وجدنا والدتها مُتفحمة بالكامل فى غرفة المكتب و رؤى تقف فى الردهة فى حالة صدمة وانهيار, وسقطت بين ذراعي بمجرد أن لمست كتفها .

أنهى كلماته وهو يحرك رأسه بدهشة مُعلقًا:

- هل تعلم يا دكتور أن غرفة المكتب كان بابها مفتوحًا على مصراعيه وبالرغم من تخبط المرأة وهى تحترق إلا أنها لم تخرج منه

وضع الطبيب قلمه فوق الدفتر وهو يسأل باهتمام:

- لماذا تقول رؤى إنها قتلت أمها, هل وجهت لها الشرطة أي اتهام أو ما شابه؟

حرك عمها رأسه نفيًا وهو يميل للأمام قليلاً ويجيب قائلاً:

- الجيران فى البناية المقابلة قالوا بأنهم رأوا النيران من نافذة غرفة المكتب قبل أن تصل رؤى بدقائق

أغلق الطبيب دفتره وهو يستند إلى سطح المكتب بمرفقيه وهو يقول بجدية:

- سنحتاجك هنا معنا لبعض الوقت

ظهر عدم الارتياح على وجه الرجل ومشاعره تتخبط بين الواجب وعمله وأسرته فى الخارج, ليس لديه الكثير من الوقت, يومان آخران وسيضطر للعودة, قطع أفكاره طرقات على الباب من الخارج يعقبها دخول هشام بملامح لهفة مُتوقةً إلى أخبار جيدة, حياه الطبيب وهو يفتح دفتره قائلاً:

- يبدو أننى سأعتمد عليك وحدك يا أستاذ هشام فمن الواضح أن عمها ليس لديه الكثير من الوقت

ثلاث نظرات تقارعن فيما بين أعينهم بين ثلاثتهم فقط ..

نظرة للخذلان ونظرة للأمل ونظرة للمجهول !

خلال الأيام السابقة تغيب عادل ليومٍ واحد فقط, أنهى فيه انتقال جدة زوجته إلى بيته وفعل ما كان ينتويه بخالها الحقير ولم يتركه من قبضته إلا وهو كاره للعالم وللنساء خاصة, ثم عاد للعمل بعد ذلك ليتولى أمر غياب هشام عن العمل أثناء انشغاله مع زوجته والأطباء والذهاب للمصحة النفسية كل يوم وهو يقوم بعمله بدلاً عنه, وقد قص عليه عادل ما قالته له رؤى زوجته فى القطار, وبأنها قالت من بين اعترافاتها المتوالية بأن والدة هشام علمت بالخلط الذى حدث بينهما واخبرت به جدايل, وتكتم الثلاثة الأمر فيما بينهم دون اتفاق حقيقي ولذلك ظهر الشحوب والإرتباك عليهما عندما ذهب هشام لزيارة عادل فى منزله وتقابلت جدايل مع رؤى زوجة عادل للمرة الأولى منذ زواجهم, وكان تصرفًا ارتجاليًا من كلتيهما أن يظهرا وكأنهما تتعارفان للمرة الأولى, وعندما اختلتا ببعضهما فى الغرفة الداخلية حدث أول اتفاق حقيقي بينهما على ألا تخبر كل منهما زوجها بما حدث وليبق السر سرًا للأبد ما دام إفشاؤه سيُسبب ضررًا للجميع .

***

استطاع الطبيب أخيرًا أن يجعلها تثق به وتتحدث إليه عما ترى وتسمع والأشياء التى تتراءى لها مِن دون مَن حولها, كان حديثها هو الخيط الأخير والذى استطاع من خلاله الطبيب ربط جميع الأحداث ببعضها البعض وإعطاء تشخيص نهائي لحالتها المرضية, وبداية علاجها بشكلٍ صحيح, حينها حضر هشام فى الموعد الذى حدده له الطبيب سابقًا وجلس إليه وبدأ يشرح له حالتها بشكل مُبسط يستطيع أن يفهمه وقال:

- زوجتك لديها حالة فصام, ومريض الفصام يُعانى من نوبات هلاوس وهذيان وضلالات تفصله عن الواقع تمامًا وتجعله مؤمنًا جدًا بما يرى ويسمع من أشياء عجيبة وغير واقعية, كأن يُقابل أُناسًا غير موجودين على الإطلاق ويتحدث إليهم, ويكون مُقتنعًا بما يقولونه له, حتى لو قالوا له بأنه نبي أو رسول .

مَسد هشام رأسه ثم جعل يناظر الطبيب بنظرات ضائعة يتكسر عندها الإدارك وكأنه لم يفهم ولو كلمة واحدة مما قال وهو يقول:

- لا أفهم, متى حدث لها هذا؟!, إنها كانت بخير وطبيعية جدًا, أنا أعرف أن الذى يُصاب بهذا المرض يكون له شخصيات متعددة ويتقمصها وأنا لم ألحظ شيئًا من هذا

ابتسم الطبيب ابتسامة من كان يتوقع سؤالاً كهذا وهو يُضيف موضحًا:

- ما تتحدث عنه يُسمى الانفصام أو تعدد الشخصيات وهذا مرض مختلف عن مرض الفصام الذى تعانى منه زوجتك, مريض الفصام لا تتعدد شخصياته هو فقط يعيش فى ضلالاته وهلاوسه, ولو تُرك بدون علاج ستتفاقم حالته ومن المُمكن أن يؤذى نفسه و من حوله أيضًا .

غرز هشام أصابع يديه فى جانبي رأسه حتى التقيا من خلفها واستند بظهره للمقعد وهو ينظر للطبيب الذى أدرك محاولات هشام للإستيعاب فعدل من وضع نظارته فوق عينيه وهو يشرح أكثر قائلاً:

- مما سمعته عن والدة زوجتك يتضح لي بأنها كانت تعانى من هذا المرض, والضلالات التى كانت تعانى منها كانت تجبرها على كُره ابنتها وتقول لها دائمًا بأنها ستقتلها لذلك كانت تردد هذه الكلمة دائمًا على مسامع رؤى منذ سنوات, وعندما مات أبوها أمام عينيها ظلت والدتها تُقحم بعقلها أنها قتلت والدها, وبدأ الوسواس القهرى عند زوجتك بتلك الفكرة, أنها قتلت والدها, وكانت والدتها تُغذى المرض فيها بتلك الكلمات حتى هربت من الشقة الجديدة وذهبت للشقة القديمة لتحرق نفسها هناك وعندما لحقت بها رؤى ورأتها وهى تحترق وتموت حدثت لها صدمة عصبية ووقفت مكانها ولم تتحرك, وأنا على يقين من أن الضلالات بدأت تستفحل أكثر فى تلك اللحظة وتُقنعها بأنها قتلت والدتها بالفعل لأنها تركتها تموت رغمًا عنها ولم تتدخل لإنقاذها بالرغم من أنها كانت مُصابة بصدمة وقتها, أتعلم أنها حكت لي بأنها رأت هالة فى القبر وهى توصيها على ابنتيها؟

رفع هشام رأسه متشككًا وقد قطب بين حاجبية بشدة فأومأ الطبيب مُردفًا:

- أكاد أُجزم أنها كانت أول نوبة هلاوس تمر بها, وبداخلها كانت على يقين أن سبب انقطاع هالة عن زيارتها المتوالية فى الروضة هو موتها.

- وهل كانت هالة رحمها الله تزورها دائمًا؟!

- قالت بأنهما كانتا تلتقيان بشكل مُستمر, وفى كل مرة كانت هالة تُفضفض معها ببعض من همومها القديمة وكانت رحمها الله توصيها بأن تُبقيها سرًا بينهما فقط, مُعظمها كانت أشياء تخصك يا أستاذ هشام ولكنها كانت تعدها بأنك ستتغير وستُعاملها بأفضل مما كنت تتعامل مع هالة, لأنك لم تكن تُحبها, وفى أحد هذه اللقاءات قالت لها هالة بأنها كانت تنوى بعد أن علمت رحمها الله بإصابتها بذلك المرض الخبيث إرسال حكايتها لبريد " بين الناس " ليتعظ الأزواج, ولكنها تراجعت خشية أن تقرأها فتجرحك الكلمات !

أطرق هشام برأسه وذكرياته القريبة والبعيدة تتناطحان فى مدارٍ ثابت, هكذا إذن علمت رؤى تلك الأسرار التى قرأها فى المجلة, وإلى هذا الحد كانت هالة رحمها الله كانت واثقة من أنه سيُحب رؤى, ولم لا وهى بنفسها كانت تُكرر تلك الجملة دائمًا عندما يتشاجرا, بأنه لم يُحبها ولن يشعر بالحب إلا مع غيرها, كان بداخلها ما يهمس لها بأنها ليست أهلاً للحب فى هذه الدنيا, إذن فلا وجود لشىء يسمى شبح هالة أو روحها عادت لتنتقم ممن أذوها وهى حية, جميع ما حدث كان من صُنع مرض رؤى النفسي وخيالاتها الضالة !.

نهض الطبيب من خلف مكتبه والتف حوله حتى وقف خلف مقعد هشام مباشرة ثم وضع كفه على كتفه من الخلف وهو يكاد يسمع ضجيج أفكاره فى تلك اللحظة ثم قال:

- رؤى كان لديها استعداد وراثى للمرض, ارتبطت بهالة للغاية وعاشت ألمها بكل جوراحها حتى أن جزء فى زاوية ما بقلبها حقد عليك لأنك كنت السبب الرئيسى من وجهة نظرها فى كل الألم الذي تراه مُتجسدًا فى هالة, تلك الزاوية المُظلمة أنت غذيتها عندما رفضتها, ذلك الرفض أكد بداخلها ما كانت تزرعه والدتها بأنها مرفوضة ودميمة, الصراع الحقيقي بداخلها بدأ عندما رأيتها فى شقتها الجديدة وأعجبتك وبدأت تتودد إليها, لم تكن تناديها سوى بـجدايل, شعرت بأنها تأخذ شيئًا كانت هالة محرومة منه وتبكى لأجله, وبداخلها كرهت جدايل !, نعم كرهت هذا الجزء من شخصيتها, الجزء المحبوب الذى سطا على شىء ليس له, وأعتقد أن بداية هذا الكره بدأ فى ليلة زفافكما عندما جسدت لها ضلالاتها صورة هالة وهى تبكى فى المرآة !.

التفت هشام إليه وهو يتذكر تلك الذكرى التى لسعته للتو بمجرد أن تكلم الطبيب عنها, يتذكر جيدًا الرعب الذى عاشه فى تلك الليلة, بسبب الفزع الذى ظهر على وجهها وهى ترتد إلى الخلف وتصرخ مُشيرة للمرآة, فهل كانت تُمثل قاصدة إرعابه؟!, نهض واقفًا بحدة وهو يتكلم بما اعتمل بصدره مُتسائلاً:

- هل كانت تعرف ما تفعله؟

سار الطبيب بخطوات رتيبة حتى وصل للمقعد المقابل له خلف المكتب وجلس بهدوء, كان ينتظر هذا السؤال من البداية, نفس السؤال الذى يتكرر على مسامعه كلما واجه حالة مُشابهة, فى كل مرة شيئًا ما بداخله يُخبره بأن التساؤل ليس بريئًا أو فضوليًا, بقدر ماهو استفهام لتحديد المشاعر التى سيشعرون به نحو مريضهم, هل سيكرهونه لإدراكه ما يفعل أم سيشفقون عليه لمرضه الذى نزع عنه التحكم, ألا يكفى ما يُعانى منه, ليجعلهم يتفكرون أكثر فى الأسباب التى أدت به إلى هذه الحالة, أم كل المهم فى تلك اللحظة معرفة مدى مسؤوليته عما يحدث, مثلهم مثل القضاة ليتم إصدار الحكم على أساس التقرير الطبى؟!, عندها شرد فى قول إحدى زميلاته الطبيبات لما كان يُناقشها عن مدى تعاون أهل المريض معها فقالت له مُجيبة تساؤله " لا يهمهم أن يُخرجوه من ظُلمته, بقدر ما يهتمون بمدى مسؤوليته عن إسدال الستائر السوداء " , رفع عينيه إلى هشام الواقف أمامه بشىء من التحفز وقال مُجيبًا وهو ينظر لعينيه بعمق وتركيز :

- هل تستطيع أن تشعر يا أستاذ هشام بمعنى أن صوتًا ما يظل يهمس فى عقلك ليل نهار بأنك سارق !, بأنك قاتل, بأنك تأكل فاكهة مُحرمة !, ولابد وأن تتعذب بها وتخرج من جنتك !,هل تستطيع الشعور بمشاعر المريض عندما يرى وحده أشخاصًا وهمية يدورون من حوله فى كل مكان يأمرونه بشىء ويقنعونه بتنفيذه, حتى لو هذا الشىء هو التخلص من حياته !, إذا استطعت الشعور بذلك فوقتها ستعلم الإجابة الصحيحة .

***

خرج هشام من حجرة الطبيب بعد قليل من المناقشات الأخرى عن حالتها ودوره هو فى الأيام المُقبلة, وقد توقف عقله عن طرح الأسئلة, وبدأ يأخذ منحنى آخر عن كيفية إخراجها مما هى فيه, وبداخله يقين بأنه هو المسؤول الوحيد, لابد وأن يتخلص من تلك النظرة الضيقة التى أهلكت الماضى وكانت فى طريقها لسحق الحاضر أيضًا, عندما وصل إلى حديقة المصحة النفسية وجد (بلال) ينتظره هناك, وبمجرد أن رآه قادمًا نهض واقفًا واقترب منه يربت على كتفه متسائلاً عن حالتها وهل استطاع الطبيب تشخيصها والإلمام بها أم لا, جلس هشام إلى الأريكة الخشبية بجواره وهو ينظر إلى المساحة الخضراء أمامه مًجيبًا بضمير مُعذب:

- زوجتى هالة رحمها الله كانت تقول لى دومًا والعبرة تخنقها بأننى سأحب من بعدها وسأتعذب بهذا الحب مثلما شَقيت هى بحبى, الآن شعرت للمرة الأولى بما كانت تشعر هى به رحمها الله

جلس بلال بجواره وهو يلتفت بجسده كلية تجاهه قائلاً:

- من الجيد أن نتعلم من أخطائنا السابقة ونتخذها زادًا لحاضرنا ومستقبلنا, لا أن نقتل أنفسنا بها, والدتك قالت لي ما رأته من بِشريات على وجه زوجتك الراحلة أثناء تغسيلها ولو كان الأمر كذلك فاعلم أنها الآن مُنعمة وقد نسيت كل أذى لحق بها فى الدنيا, وكأنها لم ترى شرًا قط فى حياتها, هكذا هى أرواح المؤمنين.

مال هشام بجذعه للأمام وقد ارتسمت ابتسامة تلقائية على وجهه وهو يقول مُستبشرًا:

- هالة فى أيامها الأخيرة لم تكن تترك ليلة إلا قامت فيها تُصلى حتى تتعب وتنام فى مكانها, عندما حملت نعشها كانت أخف ما يكون ورائحتها كانت طيبة للغاية لكننى وقتها كنت مشغول بمسؤوليتي الجديدة فلم أنتبه إلى كل تلك العلامات الرائعة

ابتسم ساخرًا من نفسه وهو يُعقب على حديثه مُتابعًا:

- الطبيب قال لي أنها كانت فى منتهى الذكاء عندما كتبت لي فى نهاية وصيتها

" أحذر غضبي " كانت تخشى على الفتاتين مني فكتبتها على سبيل التحذير وهى موقنة بأنني سأتوقف عندها كثيرًا, تصور يا دكتور بلال, أنا بالفعل صدقت أن روحها عادت لتنتقم مني ومن زوجتى ووالدتى .

تبسم بلال بدوره مُستندًا إلى ظهر الأريكة مُكتفًا ذراعيه فوق صدره وقال:

- ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الإنسان عندما يموت وتقبض نفسه تصعد بها ملائكة الموت إلى السماء ولا تهبط بها إلا عندما يدخل جسده القبر, فتُعاد روحه إلى جسده بكيفية لا يعلمها إلا الله, وتُجلسه الملائكة ليُسئل عن عمله ودينه ونبيه, لو كان خيرًا فستصبح روحه مُنعمة, وتلك الروح الطيبة المُنعمة لا تعود لتنتقم يا هشام, بل أكثر ما تستطيعه هو أن تاتى فى منام مُستبشرة تُبشر أحباءها بالخير, أما إذا كانت روح فاسق والعياذ بالله أو عاصى فروحه مُقيدة فى شغل بعذابها, كما هو السجين المُعذب لا يستطيع فكاكًا, والاثنان فى عالم البرزخ حتى قيام الساعة, وما نسمعه من حكايا حول رؤية روح أو شبح فلان الذى مات فهو إما أن يكون مجرد تخيلات أو أن الجن تشكل فى صورة ذلك الشخص لأي سبب كان, وهذا الأخير حله بسيط للغاية, سورة البقرة وينتهى كل شىء, لكن لابد أن نؤمن بذلك لا أن نفعلها على سبيل التجربة .

غلف حديثهما الهادئ المُتأمل انسياب زقزقة العصافير المُتناغمة بينهما وقد سطعت أشعة الشمس فى ذلك اليوم بالرغم من برودته التى تُعلن عن رحيل فصل المطر بكل ما فيه من شجن ووجع, تاركًا ذكريات دافئة لا يمكن محوها .

تنفس هشام بعمق قبل أن يُحرك رأسه مؤكدًا وهو يتذكر حديث صديقه عادل عن سورة البقرة, أدرك الآن لماذا لم يكن يحصد ثمارها, لأن كل ما كانت تراه رؤى هو محض عقلها فقط !, تغضنت زوايا عينيه عن ابتسامة حزينة وهو يتذكر كل الليالي التى جافاه النوم بها وهو يشعر بها حوله, وينسب لها كل فعل غامض مر به, حتى المرأة العجوز فى المتجر, تبًا للوهم !

- ألم تخشَ على نفسك يا دكتور ونحن نقف على باب الشقة ونفتحها؟

التفت إليه بلال بابتسامة مُتعجبًا من سؤاله المُتأخر جدًا, رفع حاجبيه بدهشة وهو يجيبه ملوحًا بيده ببساطة:

- ألم تسمعنى ونحن فى السيارة قبل المغرب وأنا أُهمهم بأذكار المساء كاملة وآية الكُرسي؟!, ثم إننا كنا على وضوء وقد صلينا المغرب فى المسجد فممن أخشى إذن؟!

تنحنح هشام بحرج وهو لا يعلم بماذا يُجيب, لقد كان وقتها فى عالم آخر يحارب مخاوفه وقلقه من كل شىء, فنهض واقفًا ليرحل مُعتذرًا, وعندما عرض عليه بلال أن يقله إلى حيث يشاء بسيارته, رفض شاكرًا إياه فهو يريد أن يسير وحده قليلاً, ليُحاسب نفسه ويضع يده على مواطن الزلل فيها .

سار بطيئًا وهو يتأمل الطريق المُعبد أمامه وكلمات الطبيب الأخيرة تُحلحل ثوابت ذكرياته عن زوجته وتتغلل به فى إنسانة أخرى لم يكن يعلم عنها كل شىء, كيف يمكن لامرأة أن تكره جزء من شخصيتها؟!, الجزء الذى حظى بحب والدها وكرهته والدتها, ثم حظى بحب هشام وتقبل والدته فلم لا تكرهه هالة؟ لابد وأنها كرهته ولابد وأنها تريد الانتقام مثل والدتها تمامًا !, جدايل تلك انتزعت كل شىء وسرقته من رؤى ثم من هالة فلابد وأن تختفى, أو ربما تموت !, هكذا قالت للطبيب وهى تعانى إحدى النوبات بينما هو يستدرجها, وهكذا حاول الطبيب شرح حالة رؤى له بكل ما يستطيع تبسيطه من معلومات عما يعتمل بوجدانها, لن يدفن رأسه فى الرمال كالسابق, سيقف بجوارها حتى تُشفى وتخرج من المصحة وقد تصالحت مع نفسها قبل أن تتصالح مع من حولها, ولكن هذا لايكفى, لابد وأن يقوم بالفعل ولو لمرة واحدة, لا أن تكون كل تصرفاته مجرد, ردود أفعال !. عرض أقل


النهاية


😚


بضعة أشهر أخرى خضعت رؤى خلالها للعلاج الدوائى والجلسات المُكثفة, منع عنها الطبيب الزيارات ليُجلي ذهنها من كل انفعالات متخبطة من الممكن أن تتعرض لها إذا رأت هشام أمامها, لم تكن الجلسات بنزهة خفيفة أو مجرد حكايات فهى فى الأصل لم تكن تعترف بأنها مريضة وبأن كل ما عاشته مع هالة بعد الموت كان هلاوس وضلالات, وأن كل ما رأته فى شقتها المهجورة كان من صُنع عقلها, رفضت وقاومت ورفضت الحديث بل ورفضت أن تفتح عينيها أثناء الجلسات وازدادت وتيرة النوبات, لذلك أصر الطبيب على بقائها فى المصحة وعدم خروجها حتى تبدأ تتعرف على مرضها, فلو أدركته على حقيقته لخطت خطوة كبيرة فى طريق علاجه, وكانت الأشهر الماضية كفيلة بذلك, استطاعت أن تفهم ماهية مرضها, طبيعته وطريقة التعامل مع نوباته وهلاوسه, مازالت تذكر الصفعة التى سقطت على وجهها عندما كانت بشقتها وسمعت الباب الخارجى يُفتح, وقتها كانت ترى هالة تُعذب جدايل, ولكن الآن أدركت أن تلك الصفعة كانت من يدها هى, وقد سقطت على وجهها هى أيضًا, وعندما بدأت ترى الأمور من منظور مختلف سمح الطبيب لها بالزيارة, وكان أول زائر لها هو هشام, كان يحمل لها مُفاجأتان, اختار أن يمنحها إياهما فى نهاية الزيارة لتكون خاتمتها سعيدة لها .

استقبلته ببرود فى حديقة المصحة الصغيرة, حتى أنها لم تبتسم لعينيه وهو مُقبل عليها بلهفة وشوق, كتفت يديها فوق صدرها بينما يمد هو يده ليصافحها, تجاهلت يده ونظرت فى الإتجاه الآخر وهى تقول بجفاء:

- لماذا لم تحضر معك جنى و لُجين, لقد اشتقت إليهما

جلس على مسافة غير قريبة منها كما نبهه طبيبها من قبل وقال بابتسامة:

- وهما أيضًا اشتاقا لكِ للغاية, سترينهما فى الزيارة القادمة بإذن الله

صمتا ولكن الكون لم يسكت, النسائم الباردة كانت تحوم حولهما تتلمس دفء أنفاسهما, وأصواتٍ قريبة مختلطة تتكسر أمواجها فى المساحة الشاغرة بينهما بدوى صامت كصمتهما الظاهري فقط, بينما هو لايجرؤ على الخطو فوقه أو تجاوزه, حتى استطاع إجبار نفسه على الخروج من خلف ذلك الصمت الساتر الذى يحتمي به, والذى تشققت قشرته الخارجية وصار يتهاوى بعد أن قال لها بخفوت:

- سامحيني, أنا لم أشعر بكِ كفاية

التفتت إليه دفعة واحدة بحركة حادة وصدرها يكتم أنفاسه رغمًا عنها بينما تتكلم من بين أسنانها بغضب خافت, يكاد يصل إلى الهمس:

- أُسامحك !, ومن أنا لأُسامحك, أنا حية, أعيش, أتنفس, لى إرادة القبول والرفض, أما من تستحق طلب السماح الحقيقي منها, ميتة, لا إرادة لها, تحت التراب, فلا هى تملك ان تُسامحك وترتاح, ولا هى تملك أن ترفضك وتُحيل حياتك إلى جحيم, ذهبت إلى ربها بألمها ووجعها الذى كنت أنت السبب فيه, بينما أنت تعيش حياتك وتتزوج وتُحب وتسعد, وتنساها .

رفعت يدها وهى تُشير إلى صدرها هامسة بحقد لا تعلم إلى من هو موجه فى تلك اللحظة لنفسها أم له أم للاثنين معًا:

- تتزوج من أخرى, تُحبها كما لم تحب هالة, تقول لها مالم تقله يومًا لهالة, تحميها وتُساعدها وتُسعدها وتفهمها كما لم تفعل مع هالة, أخرى سارقة, تُحب دومًا أن تأخذ ما ليس لها, تنعم به بأنانية بينما من تستحقه تصرخ وتصرخ وتصرخ ولا أحد يسمعها .

الكلمات الأخيرة خرجت عن حدود الهتاف, خرجت من حلقها بصراخ متألم يتلوى كعواء حيوان يحتضر, صراخها لفت الأنظار ولاحظ هشام الطبيب مُقدمٌ عليهما بخطوات سريعة وقد كان يُراقب الوضع من قريب, وعندما وقف بجوارها قال لها مُعاتبًا:

- ألم نتفق على أن نكون هادئين اليوم

شردت قليلاً قبل أن تقول بخفوت وهى تحيد بنظراتها عنهما:

- أريد أن أصعد لغرفتى

كاد هشام أن يناديها بـجدايل وهى تستدير لتنصرف ولكنه تذكر ما قاله الطبيب بأن لا يفعل, ليس قبل أن تتصالح مع ذلك الاسم مُجددًا, فناداها على الفور قبل أن تبتعد وهو يحث الخطوت نحوها:

- رؤى, مازال هناك شيء مهم أود قوله لكِ

حثها الطبيب على النظر إليه وعندما التقت عيناهما قال بحماس:

- لقد راسلت الأستاذ عبد الخالق مروان وهو وافق على مقابلتى, التقينا منذ أيام وتحدثنا عنكِ

نظرت له بتحفز ثم تبادلت النظرات مع طبيبها قبل أن تقول بترقب:

- عني أنا ؟!

أومأ برأسه والحماس لايزال يشوب نظرته ونبرة صوته وهو يجيبها:

- الرجل كان فى الأصل يبحث عن عنوانك أو شىء يتواصل به معكِ, وعندما علم بأننى زوجك رحب بمقابلتى جدًا, هو مُعجب جدًا بأسلوبك فى الكتابة إليه ويقول بأنك موهوبة ويريد التحدث معكِ شخصيًا, فهل تسمحين له بأن يُراسلك؟

اختلط الترقب الذى كان يكسو ملامحها بشكٍ وتكذيب لكل كلمة قالها فالتفت الطبيب نحوها وقال مؤكدًا لحديث هشام:

- حقيقي يا رؤى, والأستاذ عبد الخالق هاتفنى ليطمئن على حالتك وهو سعيد جدًا بتقدمك فى العلاج ويريد أن يُراسلك على بريدك الإلكترونى

رفعت كتفيها حائرة وما زال الشك يعبث بها وقالت بنظرات تائهة:

- ولكنى لا أملك واحدًا !

أشار لها هشام بيده أن تنتظر لثوانٍ, عاد سريعًا إلى الأريكة الخشبية حيث كانا يجلسان منذ قليل, حمل الحقيبة الجلدية التى تركها هناك ثم عاد إليها وقدمها لها وعيناه تترجاها لأن تقبلها قائلاً:

- هذا حاسوب محمول تستطيعين مراسلته عن طريقه,

ثم تابع بحرج بالغ ظهر جليًا فى حركة عينيه التى انخفضت قليلاً للأسفل ويديه التى لم تعد ممتدة باستقامة نحوها:

- صحيح هو مُستعمل, وليس به إمكانيات كبيرة, ولكنه يفى بالغرض

أشار الطبيب للممرضة أن تأتى لتصحبها ولكنها غادرت بخطوات مترددة دون أن تلتفت, أطرق هشام رأسه أرضًا بإحباط وقد كان يتوقع رد فعل مختلف على ما قاله لها, ولو حتى ابتسامة صغيرة تبثه الأمل, وضع الطبيب راحته على كتفه وسار إلى جواره لخطوات قبل أن يقول بتفهم:

- ما رأيته حاليًا هو أفضل بكثير مما كنت أتخيل, كنتُ أعتقد أنها لن تنظر إليك بالمرة ولن تتفوه بكلمة معك وستتجاهلك كليًا, ولكن التفاعل الذى حدث منها أيًا كان هو علامة مبشرة للغاية على تقبلها لك بحياتها, بل وتلومك أيضًا, وهو مؤشر قوى لبداية تسامح بقلبها تجاهك, اصبر قليلاً والتزم بما اتفقنا عليه فى كل زيارة قادمة ولا تتعجل خروجها من هنا .

***

كان يعلم جيدًا إلى أين تأخذه خطواته ذاك النهار, حيث الهدوء والصمت اللانهائى, حيث الماضى الذى يحن إلى أيامه, ويتمنى أن يمرق شيئًا منه إلى حاضره, الماضى الذى مر من بين أصابعه وهو عالق فى التمنى, مُنتظر أن تُحل مشاكله تلقائيًأ دون تدخل منه!, تلك المشاكل التى تلوى حلقه الآن بمرارتها حيث اللا أسف, اللا رجوع, حيث لا مفر من الوقوف أمام قبرها بخشوع, والدعاء المفروط من عِقد الدموع, مُحاولاً بجهد سحب أخطائه من فوق قمم جبالها, تحريرها من عقالها, ربما من بين ندباتها تظهر حلولها .

وقف أمام القبر لايدرى ماذا يقول, التصقت الكلمات بحلقه, منذ متى وهو يفكر قبل أن يتحدث إليها, أليس الحديث إليها سهلاً الآن؟!, فلماذا يهاب, لم يعد الآن وجود للحد الفاصل بينهما, الحد الوهمى الذى اكتشف أنه كان يبنيه بنفسه ويحرص عليه, ابتسم ساخرًا من نفسه وهو يهمس مُعترفًا بذاك لنفسه قبلها ويهبط على ركبتيه أمام حروف اسمها المنقوشة فوق شاهده:

- دومًا ما كنتُ أراكِ أفضل بكثير, بكثير مما كنت أبوح به أمامك, كنتُ أشعر بأنكِ تستحقين شخصًا أفضل, بأنك زائرة فى بيتي, حبك لي كان أقوى من أن أستوعبه, من أن أتعامل معه بما يستحق, كنتُ أرى نفسي أقل بكثير من أن تمنحيني كل شىء كما كنت تفعلين, منحتيني كلك وضننتُ عليكِ ببعضي, لا لبخلٍ مني, ولكن لخوفي من أن يكون هذا البعض لا يليق بكِ, وبدلاً من أن أبذل الجهد لتحطيم هذا الحد الوهمى, استسلمت لسلبيتي وتركتك تعانين متصورة بأننى لا أحبك .

مال بزاوية حادة بجذعه نحو الجزء المُرتفع من القبر, حتى تغبر طرف أنفه بترابه هامسًا بأُذنه كما لم يفعل يومًا مع من تسكن وحشته, متوهمًا سماعه لخفقات قلبها:

- صدقيني أحببتك يا هالة, الآن أمنح عمري لأي وسيلة مُستحيلة تجعلك تُصدقين, بينما كانت الوسائل كثيرة أمامى من قبل وأنتِ على قيد الحياة فلم أعرها اهتمامًا يليق بكِ, أزاح موتك رداء صمتي وظهر خذلانى المُتكرر لكِ بوضوح يُعريني ويكشف مساوئي, أنا أطلب الصفح منكِ, متأخرًا جدًا أعرف, ولكن أن آتي متأخرًا خيرًا من لا آتي أبدًا .

سقطت دمعاته الصامتة فوق التراب الجاف أسفل وجهه, فتركته نديًا, بينما جذب بصره للأعلى حيث أشعة الشمس التى بدأت تعلو من فوقه وتبعثه راحة دافئة فى قلبه, أعاد نظراته المُحملة بروحه إلى القبر من جديد وهو يستقيم قليلاً هامسًا:

- حبيبتي, علمتُ بأن الدموع والحسرة والندم لن تُفيدك, فأرجو ان يتقبل الله مني ما سأفعله لكِ من صدقات جارية, وهذا أقل ما أقدمه لكِ بعد أن فشلت بتقديم أبسط ما تتمنين فى دنياك, أُبشرُكِ بأن بناتك تحسنتا كثيرًا وأصبحتا تقاربا فى حديثهما غيرهما من الأطفال, والعام القادم إن شاء الله ستكونان فى صفهما الأول فى المدرسة, أوقاتي التى كنتُ أبخل عليهما بها أمنحها لهما الآن بكل حب, سأحفر اسمك بقلبيهما إن شاء الله حتى لا تسجد إحداهما سجدة فى يوم من الأيام دون أن تتضرع إلى الله بالدعاء لكِ .

شعر بخطواتٍ تتقدم نحوه يتبعها كف ثقيلة استراحت على كتفه من الخلف, وبرد فعل تلقائي أخرجه من حالة الطوف التى كان يدور قلبه بها فى التو, انتفض ناهضًا مُلتفةً(ملتفتًا/ ملتفًا) خلفه, فوجد امرأة عجوز سمينة تتوشح بالسواد وتغطي به نصف وجهها قائلة برجاء:

- رحمة ونور يابيه

***

لم تستطع رؤى أن تُنكر أن رسالته الأولى إليها والذى كان يرد بها على رسالة منها لتُعرفه بنفسها على استحياء؛ رفعت من معنوياتها إلى قمم الثقة التى لم تزورها يومًا, وكأنها منطقة ضبابية موضوع عليها للأبد لافتة ممنوع الاقتراب, خطر!, توقفت عيناها كثيرًا على كلماته عن إيمانه بموهبتها وقدرتها على تحمل مسؤولية عامودٍ كبداية لها ضمن عواميد التواصل مع القُراء بالمجلة, وعندما سألته عن مدى توافق ما يقوله مع حالتها العقلية وهل سيثق القُراء بها أم لا؟, قال لها حروفًا نقشتها فى قلبها بعد أن منحتها الشعور بالاختلاف الجيد, " الفرق بين الجنون والإبداع شعرة واحدة, العبقري مجنون بطبعه إلا أنه يُدرك ذلك ويقوم بتوجيهه داخل إطار إبداعى, وهذا هو الاختلاف " .

بعد تلك الكلمات قررت الموافقة على عرضه بالكتابة الحرة فى عامود خاص بها فى المجلة التى يكتب بها, وستكون كتاباتها تحت عنوان" قالت لي", وعندما ناقشت الأمر مع طبيبها قال مُشجعًا:

- اسمعيني جيدًا يا رؤى, أنتِ الآن تخطيتِ مرحلة كبيرة فى طريق العلاج, تعرفين مرضك وتعرفين كيف تواجهيه بمقاومة تلك الهلاوس, لو اخترت الطريق السهل معكِ والذى يتبعه معظم الأطباء العرب بل والكثير من غير العرب أيضًا, لكنت منحتك الأدوية وتركتك تخرجين بعد أيام تصل بحد أقصى إلى الشهر من المصحة على مسئولية عائلتك وينتهى دورى بعد أن أُنبه على عائلتك بأنك لو توقفتى عن تناول الدواء فسيعود المرض أقوى مما كان, وتظلين طيلة حياتك أسيرة تلك العقاقير التى لن تمنحك سوى البرودة مع زوجك وكثرة النوم والهدوء الخادع الأشبه بالمُخدر, إلا أننى أستخدم معكِ الطرق الأصعب للعلاج ولكنها الأنفع لكِ فيما يخص حالة الفصام تلك, أنا أعتمد على قوتك فى الرغبة بالشفاء الكامل وقد توقفنا تدريجيًا عن الأدوية ومستمرين بالجلسات, وستظلين هنا فى المصحة حتى إذا أدى الأمر لعام أو اثنين, حتى تتغلبين عن الهلاوس والضلالات التى تعتريكِ وترفضينها بإرادتك وليس بتلك العقاقير, عندما تحدثت إلى الأستاذ عبد الخالق مروان شرحت له أن ما يدور بذهنك سيظل لامعًا متوهجًا مادام فى عقلك فقط, أما لو خرج على الورق, بل وتفاعل معه الناس وحدث خلاف ونقاش, سينطفىء من تلقاء نفسه ويذبُل, نعم ربما لا ينتهى تمامًا ولكنه سيأخذ مساحته الخيالية التى توجد لدينا جميعًا مع الفروق الفردية طبعًا ولكنه فى كل الأحوال لن يتعداها, وافقى يا رؤى واكتبي وتحدثي إلى الناس بما ترينه حتى لو كان هذيانًا !

حديث الطبيب, وإيمان الأستاذ عبد الخالق مروان بها ألهب حماسها, إلا أنه لم يمنع ذاك الخوف الدفين من الفشل, الفشل الذى كان يتجسد فى الضلالات الكثيرة التى تنتابها باستمرار والتى تتجسد لها بوالدتها وهى تقول باذنيها " أنتِ فاشلة ", والخزى والأسف الذى تراه مُتجسدًا فى وجه هالة التى تأتيها من عقلها لتهمس لها " هل ستسعدين بنجاحك بينما كنت أنا أتعذب "!, ثم يأتى والدها ليلاً بدماءه التى تقطر من حنجرته ليصيح بها زاجرًا " كيف تفعلين أمرًا دون موافقتى"!, وفى كل يوم تهمس لنفسها بأنهم ليسوا حقيقيون !

مع الوقت تعلمت بالطريقة الصعبة أن تتجاهل تلك الخيالات والأصوات, لأنها أدركت ببساطة (بيسر/بسهولة) أنها تنبع من عقلها فقط, ليست حقيقية, وكأن اللحظة الفارقة بعمرنا هى تلك التى نتوقف خلالها عن تنفس الزيف وفتح نافذة جديدة مُحملٌ هواؤها برياح التغيير, فوافقت وأرسلت له بريدًا إلكترونيًا تُعلن فيه موافقتها, فأجابها بسعادة أنه سيقدمها بنفسه للقُراء فى عدد المجلة القادم وهو يضمنُ لها بيقين أن طبعات المجلة ستنفذ من أجلها, من أجل تلك الكاتبة الغامضة التى كانت الأموات تراسله عن طريقها !.

***

لأول مرة تغمرها سعادة خالية من تأنيب الضمير على مدى سنوات عمرها وهى تُمسك بالمجلة بين يديها وتقرأ ما كتبه عنها بفخر, وهو يحكي قصة صمودها رغم كل ما عانته, ويعد قراءه بكاتبة صحفية ذات طراز فريد, قلمها لن يتقيد بقيود المنطق أو الواقع, وستتعامل مع رسائلهم على أن كل ما حواها حقيقي جدًا, مهما كان خياليًا جدًا !, بل وستجيبهم على تساؤلاتهم بخيال يفوق خيالهم بكثير .

وترقرق الدمع بعينيها عندما وصلت لآخر كلماته وهو يختتم مقالته كاتبًا:

- وأعرف أنها من النفوس الطيبة التى تغفر مهما قست عليهم الحياة وتنتظر الخير العميم الذى تدخره لها الأقدار .

عندها نهضت من فوق الأريكة الخشبية فى طريقها لغرفتها حيث الحاسوب المحمول وقد نسيت تمامًا هشام الجالس بجوارها والذى أحضر لها المجلة اليوم ومنحها إياها بابتسامة مُشجعة, ولكنها توقفت فجأة قبل أن تهبط أول درجة من السُلم الحجرى القصير الذى يعلو أرض الحديقة الخضراء الندية, أصوات لعب جنى و لُجين هى ما جعلها تتوقف وتستدير نحوهما, حتى هذه اللحظة لا تُصدق بأنهما قد تغيرا تمامًا وكأن الحياة الطفولية الصاخبة قد دبت بهما من جديد, فرت دمعة رغمًا عنها من سجن جفنيها وهى تراقبهما وحينها شعُرت بأنامل هشام تمسحها بخفة تشي بوقوفه قريبًا جدًا بجوارها, أسبلت جفنيها وهى تدفع عقلها بالنظر إلي الماضي نظرة محايدة تخصه هو وهالة, ثم رفعت عينيها ببادرة لم تصدر منها نحوه إلا اليوم وقالت بهدوء:

- امنحنى بعض الوقت

ابتسم وهو ينظر إلى عينيها نظرة متوهجة مُفعمة بسطوع مُفاجئ لأشعة الأمل بمقلتيه فرفعت حاجبيها وتمتمت بدهشة:

- أنا لم أقل شيئًا, يستحق كل هذا,

قاطعها على الفور بشغف وليد للتو حاول التحكم به, مانعًا قدميه من الاقتراب تلك الخطوة الأخيرة والوحيدة الفاصلة بينهما:

- ليس لكلماتك فقط, بل لأن عينيك الشتوية قررتا أخيرًا العفو عني وأنهت خصامها الطويل لعيني .

ظلت تنظر إليه لثوانٍ محدقة به وكأنها لا تستوعب ما قاله, شعر هو بأن تلك الثوان دهورًا طويلة منتظرًا أحد ردود الأفعال الانفعالية على كلماته, ولكنه وجدها أخيرًا تُرفرف بأهدابها سريعًا ثم تُطرق أرضًا وتلونت وجنتاها منذ أشهر بعد هجر طويل خلف الشحوب وقد أدركت للتو ما حدث من تقارب بينهما, وغمغمت بشىء ما فهمه هو على أنها تستأذن للانصراف وهى تخطو خطوات سريعة هابطة الدرجات القليلة, قاطعة الحديقة بسرعة يغلفها الارتباك وتقترب إلى العَدو(الركض.. لدفع الالتباس) مما جعله يبتسم وهو يستنشق الهواء بقوة ويملأ به صدره بتفاؤل لم يشعر به منذ شهور مضت, رفع وجهه للأعلى وقد بدأت قطرات المطر الخفيفة تهفت إلى جبينه فأعاد رأسه للوراء أكثر سامحًا لها بمحو ثقل أخطائه المحفورة عن أرض ماضيه المُثخنة بالجراح .

أما رؤى فقدت أغلقت خلفها باب حجرتها التى تتشارك فيها مع مريضة أخرى, تلك المريضة الغامضة التى تُثير بداخلها الفضول لمعرفة حكايتها,وفى يومٍ ما ستكتب عنها. جلست أمام الحاسوب وبدأت تسطر أول كلماتها:

" أكتب إليكم أول كلماتى وأنا مازلت نزيلة المصحة النفسية أتلقى الجلسات, ليس الشعور بالتعافي هو فقط ما يمنحني القوة الآن لمواجهتكم, بل ربما الجزء المريض هو الذى يفعل, فالتعقل الشديد هو الذى يجعلنا نَجْبُن أحيانًا !.

سأحكي لكم فى كل مرة بعضًا من خيالاتي, منها ماهو حدث بالفعل, ومنها ما لستُ مُتيقنة حتى الآن هل هو حقيقي أم لا وسأنتظر تعليقاتكم عليها, بحكايات مُشابهة, حكايات ومشاكل مطمورة تخشون البوح بها, فالكثير من البشر يقتات على الخشية!, يعيش بها, ويموت لو هُدد بكشف غطائها .

حدثيني عنه وما تتمنين منه, وما تكرهين فيه, هو نصفك الآخر

حدثني عنها, أزفر بما يعتمل بصدرك لها, هى عالمك الآخر

أما ما سأكتبه الآن لكم فهى حكايتي أنا, قد تعتقدون أنها مجرد حكاية, وقد ترونها دعوة لفهم العالم الآخر" .


..تمت بحمد الله.