سوريا التي في خاطري 41
يقول الشيخ الطبيب محمد خير محيي الدين الشعال: "كان الشاميّ اذا خرج من دمشق القديمة (خارج الاسوار) ميمما شطر الشمال نحو جبل الصالحين (قاسيون) ووقف على ابوب حي الصالحية، خلع نعليه ومشى حافيا، احتراما واجلالا للمقادسة الصالحين القاطنين في سفح هذا الجبل قرب نهر يزيد".
يضيف الشيخ المولود في حي الصالحية ان دمشق تشرفت بمقدم هؤلاء المقادسة وهم من آل قدامة من قرية جماعين القريبة من نابلس، وانهم ما ارادوا ان يضيقوا على اهل دمشق للطفهم ونبلهم فنزلوا خارج باب شرقي ثم انتقلوا الى قرية النخل فعمروها واقاموا فيها المساجد كمسجد الحنابلة والمدارس الشرعية والعلمية كالعمرية والضيائية، واجتهدوا في تعليم النساء، فوصفوا بالصالحين وسميت المنطقة بالصالحية تكريما لهم.
وهذا ما يؤكده ايضا المؤرخ الدمشقي، المقدسي الأصل أبا شامة عبد الرحمن بن إسماعيل إذ يقول: "بهم سميت الصالحية لصلاحهم"، وهو ما ثبته الشيخ محمد أحمد دهمان في كتابه المحقق "تاريخ الصالحية".
وتقول رواية اخرى ان تسميتهم بالصالحين وانتقال الاسم الى الحي الذي عمروه بعد ذلك في تلك المنطقة الفارغة ايامها، انما جاء من سكنهم في محيط جامع أبى صالح في منطقة القصاع قرب نهر عقربا، واما الانتقال فقد تم بعد ان دعا احمد الكهفي وهو احد مريدي الحنابلة الشيخ احمد ابن قدامه الى نزهة في أرضه على ضفة نهر يزيد في سفح جبل قاسيون, فاعجب الشيخ بجمال واعتدال مناخ موقع سفح جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق ومبانيها المعمارية, وواحتها الخضراء, كما اعجب بعذوبة مياه نهر يزيد, فتوضأ منه ووضع حجرا نحو الكعبة وصلى هناك ثم شرع مع اتباعه في تشييد المبنى الذي عرف باسم (دير الحنابلة) وتتابعت أعمال تشييد المباني المختلفة حوله, فعرفت هذه التجمعات السكنية الجديدة باسم الصالحية التي ازدادت أهميتها وشهرتها واصبحت اليوم واحدة من اجمل واهم وانشط احياء دمشق.
كان السلطان نور الدين زنكي يأتي الى الصالحية لزيارة الشيخ احمد بن قدامه في هذا الحي الجديد التي تأسس وازدهر في مدة قصيرة وصار جميلا بطبيعته ومبانيه المعمارية العديدة كالمساجد والجوامع والمدارس والمعاهد والخوانق والزوايا والبيمارستان والأسواق والخانات والحمامات والطواحين والترب والنواعير وغيرها, تحيط بها الحقول والبساتين المتميزة بأشجارها وثمارها وورودها.
اهتم السلطان زنكي بمدينة الصالحية الجديدة وراحة سكانها لأنه كان على قناعة بان رخاء عيشهم سيسهم في ازدهار مدينتهم, وان غناهم سيسهم في زيادة موارد الزكاة. وذلك ضمن خطة إعداده كل ما يلزم لتحرير بلاد الشام من الاحتلال الفرنجي الصليبي.
ما ان استقر هؤلاء في دمشق حتى بدأوا بتأسيس مدارس الفقه وتخصيص بعضها للنساء، يقول الشيخ على الطنطاوي في الجزء السابع من ذكرياته انه تتبع اخبار اسرة آل قدامة الذين انشأوا الصالحية فأحصى اسماء نحو 100 عالم، ووجد من نسائها العالمات بضعا وعشرين كلهن كانت تعد اذا عد مشايخ البلد.
هجرة هؤلاء منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، من جُماعيل (كما ذكرها ياقوت الحموي وقال ان معناها عين الاله)، او جماعين (كما ذكرها مصطفى مراد الدباغ اي تجمع جماعي العلم)، لم تكن هجرة لدنيا يصيبونها، او تجارة يريدون انشائها، لقد كانت هربا من الفرنجة الذين ارادوا الفتك بهم، ورغبة في تدريس الدين والمشاركة في الجهاد لتحرير بيت المقدس، خاصة وان نور الدين زنكي قد وضع نصب عينيه قتال الفرنجة منذ بداية استلامه لإمارة حلب، وكان هدفه تحرير القدس، حتى أنه أمر ببناء منبر ليضعه في المسجد الأقصى بعد أن يقوم بفتح المدينة وقد صنع هذا المنبر في دمشق بواسطة امهر الحرفيين من دمشق وحلب. ونُقل بالفعل إلى القدس بعد فتحها على يد صلاح الدين الأيوبي ودعي هذا المنبر فيما بعد بمنبر صلاح الدين.
عاش هؤلاء واولادهم حياة الزهد والتصوف وشاركوا في حروب زنكي وصلاح الدين، واقاموا حيا دمشقيا جميلا، ما زالت ارواحهم الصوفية تحلق في زواياه وآثاره، لتلهم الشعراء والفنانين.
ودمشق التي اكرمت ه
ؤلاء واستقبلتهم خير استقبال، حفظت جميلهم وردته لفلسطين بالكثير من الرجال، مثل الشيخ عز الدين القسام والثائر سعيد العاص، والقائد فوزي القاوقجي والمطران هيلاريون كبوتشي وغيرهم.