📁 آخر الأخبار

بغداديات 73 عماد الاصفر

بغداديات 73 

سمع الشاعر محمود درويش هسيس القيامة، ولكنه لم يكن جاهزا لطقوس التناسخ، ولم يتذكر من زمنه الذهبي القديم سوى الفرح بالنجاة من الموت، هكذا صار احساس الشاعر بالحياة فيما خط نهايتها يقترب، وكان سابقا لا عب نرد يرى ان كل الذين ماتوا، نجوا من الحياة بأعجوبة. (الشعر الصادق هو ابن لحظته الشعورية، لحظة تتواطؤ فيها اللغة مع المشاعر، لتجعل النجاة مرة من الموت ومرة من الحياة، ولتكون في المرتين صادقة تمام الصدق). 

درويش لم يعتبر المكان فخا، ولكن الزمان عنده فخ كبير يُشيخ حتى الصدى، ظل يزور نفسه ذهابا وايابا ليعيد رسم ما يريد من امسه وفقا لما يشتهي وليس كما كان، واشتقاق ما يريده لغده. لم يكن يريد لقصيدته ان تنتهي قبل ان يتأكد من صحة الابدية، لم يكن يريد لنهاره ان ينتهي رغم انه كان نهارا خريفيا. (في النهاية لن نتأكد من شيء، سنترك الاسئلة والقلق وجدول الاعمال ونذهب الى البياض).  

   اطوي بغداديات وفي القلب حسرات، اطويها عاجزا عن وصف جمال العراقيات، وتلمس مهارة صانعي الخزف، وكيفية سكب النحاتين للأرواح في التماثيل، او ادراك الطريقة التي يضخ بها الفنان الدماء والحرارة في شخوص لوحاته وشرفات منازلهم، او الخيال الذي تسبح فيه افكار  الرسامين العراقيين.

اطويها وفي رأسي رياض احمد يدندن بموال مظفر النواب (يا ريحان، اترف من جفاف المهر) في مهرجان بابل، اطويها وفي اوراقي قصاصات من اشعار موجعة كتبها سيف الدين بهائي قبل طرده من العراق ليموت غريبا، اطويها وفي راسي اناشيد حماسية تقول (يا قاع ترابج كافوري)، اطويها معتذرا لأنني لم استقر على كلمات تستطيع وصف الشجن في لطميات مقتل الحسين، اطويها عاجزا عن كتابة ولو  سطر  واحد عن طريقة القراء العراقيين في ترتيل القرآن الكريم، يبدو ان ذاكرتي ترفض التخلي عن اجزاء عراقية جميلة، وتريد الاستئثار بها دون مقاسمتها مع الآخرين.

اين هو الفخ الآن في المكان ام في الزمان، ام في هذه الذاكرة؟ يبدو ان الفخ يكمن في الوقوف على الشرفات الخلفية دون محاولة الاقتراب من العتبات. 

مرة اخرى انا مصاب بالحنين الذي عبر عنه محمود درويش: 
الحنين ندبة في القلب
وبصمة بلد على الجسد
لكن لا أحد يحن الى جرحه
لا أحد يحن الى وجع أو كابوس
بل يحن الى ما قبله
الى زمن لا ألم فيه سوى ألم الملذات الاولى
التي تذوب كقطعة سكر في فنجان شاي
الى زمن فردوسي الصورة
والحنين نداء الناي للناي
لترميم الجهة التي كسرتها حوافر الخيل
في حملة عسكرية
هو المرض المتقطع الذي لا يعدي ولا يميت
حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمَعي
هو دعوة للسهر مع الوحيد
وذريعة العجز عن المساواة مع ركاب قطار
يعرفون عناوينهم جيدا
وهو ما يُجمع لأحلام الغرباء
من مواد مصنوعة من شفافية اللاشيء الجميل
ويحمص لهم ونادرا ما يأتي صباحا
ونادرا ما يتدخل في حديث عابر
مع سائق تاكسي
ونادرا ما يتطفل على قاعة مؤتمر
أو على موعد اول بين ذكر وانثى
هو زائر المساء
حين تبحث عن آثارك في ما حولك ولا تجدها
حين يحط على الشرفة دوريَ
يبدو لك انه رسالة من بلد لم تحبه وانت فيه
كما تحبه الان وهو فيك
كان معطى وشجرة وصخرة
وصار عناوين روح وفكرة
وجمرة في اللغة
كان هواء وترابا وماء ..وصار الى قصيدة

اسهر كل ليلة على الشرفة الخلفية، اعلق اوراقي بملاقط، لترى ضوء القمر مرة اخيرة، امنحها فرصة استرجاع العلاقة مع نجمة من الماضي، انتظر بقلق حتى تكتب احدى الاوراق سطرا اخيرا وتسقط بين يدي، اواسي اخواتها، ثم اواسيها، اضعها قربي وانام، يرن المنبه عند السابعة والربع، اقوم مخذولا بإلقاء نظرة اخيرة قبل تعليقها هنا.  

اللوحة للفنانة نادية اوسي