محبة وشكر
بعد 73 يوما من هذه المطولات البغدادية، ينتابني الشعور بالضياع، او الغرق في دوامة لا استطيع الخروج منها، يجب ان استريح ولا استطيع، يجب ان اعود الى هنا ولا اعرف كيف، يجب ان اعرج على شاميات، واخشى ان اغرق ثانية.
كتبت سلاسل كثيرة في شؤون شتى، هنا على الفيسبوك وفي اماكن اخرى، وكان الخروج منها سهلا، كنت اتقيأ سياسة فترتاح معدتي، واكتب في شؤون اخرى فيرتاح دماغي، واما الخروج من بغداديات فهو صعب جدا، لان ما فيها يستقر ابعد من العقل، انه اصعب على قلبي من مغادرة بغداد عام 1995، كنت يومها عائدا الى فلسطين، اما اليوم فأغادر لا اعرف الى اين.
ليس ان "الطريق الى البيت اجمل منه" كما قال الشاعر محمود درويش، فالبيت جميل وعزيز، ولكن الاشياء البعيدة تبدو اكثر رومانسية وجمالا، وتصير اجمل وانقى عندما تغدو ابعد في الجغرافيا والزمن. المكان يتبدل والزمان لا يتوقف الا في البال، كما قال الشاعر:
قد يهون الزمان الا ساعة / وتهون الارض الا موضعا
ورغم ان الزمان والساعة لم يكونا حقيقة في بغداد، او ربما كانا هناك ولكن خيالا ولدقائق ليس اكثر، وربما لم يكونا او لم يصيرا الى الآن، وربما كنت احاول نحتهما هنا عبر هذا الفضاء الافتراضي الازرق.
اكثر ما اخشاه هو معاودة زيارة الاماكن او مشاهدة الاشخاص الذين دخلوا الى قلبي وعقلي واستقروا في ذاكرتي بكل الق وجمال، اخشى ان يتم خدش صورتهم في الذاكرة، لم اتجرا على زيارة برلين التي عشت فيها عاما واحدا فقط ايام الشيوعية الا بعد مرور 20 عاما على انهيار جدارها.
لم تكن الحياة في برلين سهلة ومريحة كما قد تظنون، ولكنها كانت افضل الف مرة مما رُسمت في خيال من لم يزرها، ومن عمل على اسقاط جدارها، ولم تكن الحياة في بغداد، وحياتي انا خاصة، مريحة وسهلة كما قد تعتقدون، لقد كانت قاسية جدا، ولكنها كانت حياة ذات مغزى، وكانت افضل بمليون مرة مما هي عليه الآن بعد اسقاط نظامها.
لم ابدا كتابة هذه السلسلة بقرار مدروس، لقد بدأت لكي ابتعد عن ازمة انتشار فيروس كورونا، والتي واكبتها يوميا بالمقالات والمنشورات واليوميات، بدأت بكتابتها والزمت نفسي، وفتحت ابواب الذكريات والانطباعات، ولم يكن اقصى ما يمكن البوح به كثيرا، ولأسباب في بطني وستظل في بطني، ابتعدت عن اضفاء الطابع الذاتي عليها، فتحايلت عليها بالمعلومة والتاريخ ووصف الاماكن واستعنت بالسير الذاتية لكثير ممن احببتهم، ونقلت ابداعاتهم كتابة ورواية ورسما ونحتا وشعرا وموسيقى وغناء.
تذكرت الناس غجرا وكردا وصابئة ويهودا وأزايدة، والأماكن من اربيل الى الفاو، رميت نفسي من فوق شلال كلي علي بيك فوجدت نفسي في الاهوار، سبحت في الحبانية وتجففت في صحراء الرمادي، وقفت بشط العرب فرأيت سامراء وسمعت أذان الحدباء.
توضأت في المندي وصليت في الكنسية ورتلت في المسجد، ولطمت في الحسينية فصار حزني شفافا وصار بوحي شجيا. وغنيت مع رياض احمد شعر النواب حين قال: "ان الصلاة على تراب لا يوحد ليس تكتمل".
تذكرت بائعات الهوى، واحاديث البارات والمقاهي، ومناكفات الزهاوي والرصافي، احتفلت بالدارمي والنايل الجبوري والابوذية، وهوّست هوسات جنونية مع ثوار العشرين في الناصرية، دخلت قصر الرحاب وزنازين نقرة السلمان، قرأت الفاتحة في نصب الشهداء، حاولت ان اقول: "اقدر اشوفك" وانا اقف على جبل احد مواجها المنطقة الخضراء، طفت اسواق الكرادة بحثا عن مسبحة من كهرمان، بحثت في رفوف المتنبي عن "الشخصية المحمدية" فتعثرت بفرانكشتاين، وطشاري.
تتبعت دروب المنفى والعودة اللاعودة، لأرى مظفر النواب وفؤاد سالم والسياب وسيف الدين ولائي، هتفت جوووول مع مؤيد البدري، وضحكت كثيرا مع عمو بابا، وبكيت على احمد راضي، وكنت كلما حاولت التقدم الى الامام تشدني ضحكة ظلت معلقة تحت شجرة في الوزيرية، او دمعة عالقة فوق جسر الجادرية، او صرخة هناك على الحدود.
ركبت الريل مع محبوبة حمد، جالست عبدالله الذي يجيد صنع مجدافين ولا يملك قارب، بكيت على سعود، تعاطفت مع وشلة وميحانة، وبكيت على من اعطى البراءة، وهمست في اذن من صمد ولم يعطها: "ايام المزبن كضن، تكضن يا ايام اللف"، فصعد مراجف للدف، ودك راسه بكاع الحبس، وكتب على القاع: "ابنكم باعته الدنيا ولا باع".
لعبت محيبس في الحارات، واكلت من السما وزنود الست، وحضرت بعض المسرحيات، فتشت عن مقاطع لمسلسل "تحت موس الحلاق" فاجأني الذئب وعيون المدينة وصاح نسرها: "عجيب امور ... غريب قضية". واطل عبود الكرخي من باب المجرشة ليقول: "هم دنيا وتنكضي وحساب اكو تاليها".
اشتريت اشرطة لسعدي الحلي وياس خضر ورياض احمد وفريدة وسليمة وزهور ومائدة ووحيدة ولميعة، ونسخة من مجلة الف باء، لم اجد توك توك ليوصلني فركبت باص ابو الطابقين، مررت بكل النصب والتماثيل، وشربت شايا في شارع الرشيد وانا اتأمل ما بقي من شناشيل. ويا حريمة انباكت الجلمات، وظلت تتقاذفني لوحات التشكيليين من زقاق لزقاق، وجاء رسام سوريالي انتزع رأسي ووضعني هنا امام شاشة الكومبيوتر.
شكرا لكل من تابع وشجع وعلق، ولكل من ايد جمع البغداديات في كتاب، وشكر خاص لمن والى تقديم النصائح المخلصة حول اسلوب الكتابة، وآسف من كل قلبي لتوقفي عن الرد على التعليقات، الردود مجهدة وصعبة، اصعب على نفسي من الكتابة بحد ذاتها، لأنني اطمح دائما الى ردود خاصة ومميزة تليق بكم وبحجم محبتي لكم.
لن اضع لوحة تشي بالماضي الذي احبه، ولم اجد لوحة عن المستقبل الذي اريده. سأقول مرة ثالثة انني مصاب بالحنين الذي عبر عنه محمود درويش:
الحنين انين الحق العاجز عن الاتيان بالبرهان
على قوة الحق أمام القوة المتمادية
انين البيوت المدفونة تحت المستعمرات
يورثه الغائب للغائب
والحاضر للغائب
مع قطرة الحليب الاولى
في المهاجر والمخيمات
الحنين صوت الحرير الصاعد من التوت
الى من يحن اليه في انين متبادل
هو اندماج الغريزة بالوعي واللاوعي
وشكوى الزمن المفقود من سادية الحاضر
الحنين وجع لا يحن الى وجع
هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم
من اعالي جبل بعيد
وجع البحث عن فرح سابق
لكنه وجع من نوع صحي
لأنه يذكرنا بأننا مرضى
بالأمل…وعاطفيون!!
عماد الاصفر
رام الله فلسطين
6 تموز عام الكورونا