بغداديات 72
ليس هناك ما هو اسهل من الاعجاب بالأغنية العراقية حتى لو لم تفهم الكثير من معاني مفرداتها الموغلة في طين الاهوار، السابحة بين رصافة وكرخ دجلة، او نامية في صحراء الرمادي، او طائرة فوق شلالات اربيل كردستان. وليس هنالك ما هو اصعب على المطرب غير العراقي من اداء الاغنية العراقية حتى لو كان من اكثر المطربين اقتدارا.
(يضع الانسان دوما قواعد جميلة غير مكتوبة لنفسه، وقد يفرضها على الآخرين فتصير معايير ويصبحون عبيدا لها).
ربما لأن المطرب الاصيل تجاوز فهم مدلول الكلمات، فهضمها وسارت عصارتها في دمائه، وتشرب اجوائها فقدم روحها مع شكلها، فالتقليد يستصعب استحضار الارواح ويستسهل تقديم الشكل.
(لا بد من تبرير نظري علمي الشكل للقواعد حتى تبدو مقنعة لصاحبها ثم لغيره).
وربما بسبب اختلاف القصد والنية فالمغني الاول يريد بالأساس قلوب الجمهور، واما الثاني والثالث والرابع فلا يريدون بالأساس سوى التميز عن الاصل وعمن سبقهم.
(حين لا تكفي المبررات علمية الشكل نلجأ لما هو ابعد وغير محسوس، الخيال اخطر من الواقع، خاصة حين يكون حقيقة غير مثبتة)
كثير من المطربين العرب فُتنوا بالأغنية العراقية فحاولوا تقديمها، حاول ذلك عاصي حلاني ووائل كفوري وملحم زيم ومحمد عساف وحسين الجسمي، وفلة الجزائرية ومكادي نحاس وفايزة احمد وغيرهن كثير.
(الاستدلال بما هو نسبي لخلق اليقين، يحمل من الخداع ذات المقدار الذي يحمله من الصواب).
ذكرياتنا تلتصق بالأغنية الاصلية، فيصير مكان وزمان سماعها جزءا اصيلا منها، فللذاكرة دائما طرقها العجيبة في ارشفة الحدث، وفي اختزال طريقة التعبير عن الاعجاب به او القرف منه.
(تعميم ما هو شخصي، والانتقال من الخاص للعام لعبة تحتاج الى تواطؤ المتلقي، وهناك دائما متلقي غشيم وآخر جاهز للتواطؤ وثالث للمناكفة حتى لو اقتنع).
ما عدت اذكر من القائل ان الحياة اطول من مجرد ذكرى، واقصر من ان تصير ذاكرة، انها توالي لرسم الذكريات، ربما لو توقفت ذاكرتك وذكرياتك عند حدث معين، واحطت بتفاصيله وتداعياته استطعت ان تمنحه صفة ذاكرة. تجمع مفردة ذكرى فتصير ذكريات، ولكن يصعب استخدام تثنيتها، وتثنى مفردة ذاكرة فتصير ذاكرتان، ولكن يصعب استخدام جمعها.
(مع ذلك نسمي بناتنا ذكرى وذكريات، لم اقابل بنتا اسمها ذاكرة).
أن ترفع ذكرى ما الى مرتبة الذاكرة، يعني انك تريد ان توقف طنينها في مؤخرة راسك، كلما دق الكوز بالجرة، تريد ان تتخلص منها ولكن عبر وضعها في خزنة أمينة، فالذكريات عزيزة. يضع الاثرياء اللوحات الاصلية لمشاهير الفنانين في خزناتهم بالبنوك، ويعلقون نسخا عنها على الحائط، ويقضون العمر سعيدين بخداع الآخرين، ومتحسرين على خداع انفسهم.
(حين ترتب مكتبتك يصبح بإمكان رفوفها استقبال مزيد من الكتب المركونة بعيدا).
مصابٌ انا بالحنين، الذي عبر عنه محمود درويش:
الحنين استرجاع للفصل الأجمل
في الحكاية: الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة
ولا يولد من جرح
فليس الحنين ذكرى
بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب
وللحنين أعراض جانبية منها
إدمان الخيال النظر الى الوراء
والحرج من رفع الكلفة مع الممكن
والإفراط في تحويل الحاضر الى ماض
حتى في الحب
تعالي معي لنصنع الليلة ماضيا مشتركا
يقول المريض بالحنين
سآتي معك لنصنع غدا مشتركا
تقول المصابة بالحب
هي لا تحب الماضي وتريد نسيان الحرب
التي انتهت
وهو يخاف الغد لأن الحرب لم تنته
ولأنه يريد ان يكبر أكثر
في بغداديات غربلت الاغاني والكتب والسير الذاتية لاماكن واشخاص، بحثت عن لوحات تناسبها، خلطتها بذكرياتي، عجنتها معا، خبزتها، وانتقيت منها ما يصنع ذاكرة من حنين لا يؤلم، ليواجه ذكريات اخرى تؤلم.
(سيطالبك الآخرون بالحياد مع الآخرين، والانحياز اليهم، ليس مهما ان تستجيب لطلبهم، المهم ان تُعطِ نفسك حرية الانحياز لما صنعت من ذاكرة).
اللوحة للفنان نبيل علي