بغداديات 71
"لاريب ان هذه المدينة جوهرة، لكن يجب ان لا ننسى أن المدن تشبه البشر. فهي تولد، وتمر مرحلتي الطفولة والمراهقة، ثم تشيخ، وفي النهاية تموت. وأظن ان بغداد قد بلغت الان أواخر شبابها. إذ لم نعد اثرياء كما كنا في عهد الخليفة هارون الرشيد، لكن بالرغم من ذلك، يحق لنا أن نـفـتخر بأننا لا نزال مركز التجارة والحرف والشعر. لكن من يعرف كيف سيكون حال المدينة بعد ألف سنة؟ فقد يختلف كل شيء".
هذا ما قاله القاضي عن بغداد في رواية أليف شافاق "قواعد العشق الاربعون"، وفي ذات الرواية رد شمس التبريزي على القاضي:
"لا يجادل احد في أن بغداد مدينة رائعة، لكن لا يوجد جمال على وجه الارض يدوم الى الابد. إذ ان المدن تنتصب فوق أعمدة روحية، كالمرايا العملاقة، وهي تعكس قلوب سكانها، فاذا أظلمت هذه القلوب، وفقدت ايمانها، فإنها ستفقد بريقها وبهاءها. لقد حدث ذلك لمدن كثيرة، وهو يحدث دائما" .
بغداد،،،، اية طفولة واية مراهقة وشيخوخة تعيشين الآن؟ ومتى ستولدين من جديد؟.
بغداد افق يتسع ولا يضيق، في كل درب الف طريق وطريق، وعند كل زاوية الف صديق وصديق، وفي كل نفس الف ليلة وليلة، وفي كل ليلة الف حكاية و الف عشيق، بغداد خشنة وناعمة، قاسية وحنونة، مع كل قطرة من دمها تزهر حنونة، بغداد الحزينة حين تفرح تكون افراحها مجنونة.
بغداد لا تعرف النمط، بغداد تعلو على اللغط، بغداد تسير دوما نحو سجيتها الاولى.
في كل لحظة عراقية يختلط الماضي بالمستقبل، في كل كلمة عراقية يختلط طين الاهوار بنخل السماوة وماء دجلة والفرات بقطرات من دم الحسين، ورنة استكان الشاي بدمعة عين، وهلهولة البصرة بنسائم ام الربيعين، وهوسة الناصرية بدبكة السليمانية ونفط خانقين، وشربت الزبيب والرمان بعرق بعشيقة وحناء الفاو. في رسمة كل حرف يلتقي نصب الشهيد ببرج كنيسة وهلال مأذنة، فيبتسم الجندي المجهول، وتطرب تماثيل الشعراء.
العراق لا يستورد الكلام، العراق يخلق الحروف ويصنع الكلام، العراق لا يقبل العطايا، العراق يوزع على الكون الهدايا، شعرا ونثرا، رسما ونحتا، موسيقى وغناء.
العراق يلفظ عن نفسه كل ما عداه، ولن يكون العراق الا عراقيا خالصا من ألفه الى منتهاه. وكما كان النغم عراقيا وكما كان الحزن عراقيا سيكون الفرح عراقيا ايضا بهمة الثوار.
ستفتح شهرزاد اذنيها على عزف منفرد على العود، تمد ايديها فتلمس رمل صحراء الرمادي، تفتح اعينها فتشاهد أطياف رجال يلعبون الجوبي، تشم رائحة طين ممزوج بقصب الاهوار، تسير في زحام شارع السعدون وتهرب الى هدوء ووناسة شقيقه أبو النواس، تجلس الى مقاهيه وباراته الغافية على حافة دجلة، ترقب قوارب الصيادين متهادية بحملها الذي سيصبح سمكا مسكوفا يصحبه طرشي النجف، يتلوه شاي بالاستكانة.
سيصيح سندباد:
ان باعدتنا حدود بحب الوطن نلتم / ان فرقتنا حدود وحدتنا وحدة دم
جيناك يا بغداد والله الهوى نسم / فجرك علينا عاد حتى الوطن يسلم
وتظلي ديما فوق منصورة يا بغداد / ونشوفك بعز دوم منصورة يا بغداد
منصورة يا بغداد منصورة يا بغداد
منصورة يا بغداد منصورة يا بغداد
ربما يتذكر البعض ذلك اليوم من اواسط ثمانينيات القرن الماضي حين كتب الشاعر زهير الدجيلي هذه الاغنية وطاف مع ملحنها طالب القرة غولي على مقرات اتحادات الطلبة العرب في حي الوزيرية، (فلسطين والاردن ولبنان والسودان واليمن وتونس وغيرها) طالبا من كل اتحاد انتداب مجاميع من طلبته ليرتدوا ازيائهم الشعبية ويشاركوا في تسجيل هذه الاغنية على المسرح، كان نشيدا عظيما في يوم عظيم.