بغداديات 69
لم يكن هناك توك توك في بغداد ايام معيشتي فيها، هذا أول ما خطر ببالي عندما اصبحت احد الركاب المداومين يوميا على استخدام هذه المركبات في الخرطوم، للانتقال من شارع العمارات الى صحيفة الايام السودانية التي يرأس تحريرها الصحفي المخضرم محجوب محمد صالح. ذات الخاطر طرأ ببالي بعدها وانا اتحين الفرص لاستخدام هذه الوسيلة الرائعة للتنقل في كمبوديا واندونيسيا.
لم تكن بغداد الغنية والمنظمة ذات الشوارع الواسعة ووسائل النقل العام المشهورة بباصات ابو الطابقين بحاجة الى توك توك في ذلك الزمان، ولكنها كانت ستكون اجمل لو كان هناك الكثير من مرابط ومحطات هذا التوك توك في بغداد الواسعة والحافلة بكل شيء.
اشاهد صور التكاتك واصحابها فاقول هذه ليست بغداد، أمعن النظر في جنبات الصورة فأرى أحد معلمين اما ساحة التحرير او المطعم التركي.
لهذين المعلمين رف قديم وآخر حديث في مكتبة الذاكرة: ساحة التحرير بنصب حريتها الذي يحكي تاريخ العراق حضارة وثورة وجمهورية، والمطعم التركي بما شهد من احداث كان اصحابها يريدون ترميم الجمهورية باستعادة سيادتها وتخليصها من الفساد والطائفية.
يقول العراقيون ان في حياتهم ملحمتان: الاولى جلجامش التي لم يشاهدوها، والثانية نصب التحرير الذي يشاهدونه صبح مساء.
ويقول الفنان ان آخر ما يدور بخلده ان لا يتمكن من تنفيذ فكرة تستوطن عقله وقلبه، او ان لا يشاهدها، لكن للأقدار تصاريف اخرى، وهذا ما حصل مع النحات العراقي جواد سليم صاحب هذا النصب البديع الذي نسجه من تاريخ العراق الضارب في القدم، حكاية مصورة تجند رموز الحضارات الماضية لتصور الحاضر وتشير الى المستقبل.
14 قطعة فنية تستلهم رموز حضارات بابل واشور وسومر، حصان جامح أسقط الملك، وطفل ذو نبوءة يشير الى درب الخلاص الذي يسير فيه الثوار، يستشهد احدهم فتضمه الام الى صدرها، ويكسر رفيقه قضبان الزنزانة، تستقبله عراقية تبحث عن الحبيب بمشعل حرية، واخرى حامل وفي يدها سعف النخيل، فلاح يجسد دجلة والاخر فرات، الاول عربي والثاني كردي، والى جانبهما عامل شديد البأس مفعم بالطاقة والحيوية والثقة.
انهى جواد سليم تصميماته وذهب للإشراف على سكبها، وكان سعيدا جدا لأنه تمكن من رفض تجسيد شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم في وجه السجين السياسي الذي يحطم القضبان في منتصف النصب.
وقبل وضع المجسمات على النصب الواقع في وسط بغداد بأشهر اصيب بجلطة قلبية ورحل عن 42 عاما. يموت الفنان ولكن الروح تدب في منحوتاته.
ولقد دبت روحه الحالمة وروح مجسماته الطموحة في سائقي التكاتك وفي عراقيين وعراقيات من مختلف الطوائف والديانات والقوميات فنزلوا الى ساحة التحرير وصنعوا من بناية مطعمها التركي قلعة.
فما هو هذا المطعم التركي الذي دخل التاريخ من بوابة التقارير الاخبارية؟
بعلو شاهق ورمزية لا تخفى على احد، اقام صدام حسين في اواخر ثمانينيات القرن الماضي هذه البناية وسط بغداد، لتطل من احدى جهتيها على الشعب في ساحة التحرير من الرصافة ومن الجهة الاخرى على منطقة قصوره في الكرخ والتي اصبحت فيما بعد (المنطقة الخضراء).
ازدهر المطعم التركي فيها باطاييبه وبما يقدمه من مشروبات روحية وظل كذلك الى ان عقد صدام العزم ذات فلتة من فلتاته الكثيرة على إطلاق حملة ايمانية اواسط التسعينيات، فخرب المطعم ومن بعده البناية.
اطلقت القوات الامريكية الغازية قذيفتي دبابة على هذا المبنى، ليصير رمزا اضافيا لثنائية العمار والدمار. وما تلاها من إزهاق للارواح وتشريد للكفاءات وفساد اغرق البلاد والعباد.
تسلقها طالب كلية الفنون الجميلة فرسم على الواجهة المطلة على المنطقة الخضراء عينا غاضبة مترصدة وكتب حولها اقدر اشوفك، ازعجتهم العبارة التحذيرية بل اخافتهم فهرعوا لمسحها.
رموز جواد سليم الموغلة في التاريخ، صارت عينا تنظر للمستقبل، زال طلاء رسمة العين ولكنها بقيت تراقب، فبعد سنوات اعتلى الشابات والشباب طوابق البناية، وسيطروا عليها ليمنعوا الامن من احتلالها ومهاجمة المتظاهرين منها، وليطلوا على فضاء الشعب المنتفض والسلطة المذعورة، كان اسمها بناية المطعم التركي واصبح اسمها جبل احد.
التوك توك يزدهر في العراق واصحابه يصبحون ابطالا اسطوريين، انهم مهندسو الاستراتيجيات ومنفذو التكتيكات التي يعتمدها الثوار في ساحة التحرير ، يوصلون الناس غير عابئين بالأجرة، ويتدخلون لإيصال الطعام الى اطراف الحشودات الجماهيرية، ويخلون الجرحى من ساحات الاشتباك الى الاطراف الآمنة، وقد يُجبرون على نقلهم الى المشافي، ويتدخلون لإسعاف من اصابهم الغاز المدمع، يوزعون الطعام والماء البارد والمشروبات والكمامات على المتظاهرين، يقوم احدهم بعمل جولة لمبعوثة امين عام الامم المتحدة في ساحة التحرير بين المتظاهرين، يزفون الشهداء في مواكب مهيبة، يُسيرون القوافل لكسر قرارات منع التجول، يتعرضون للإصابة، وتتعرض مركباتهم ومصادر ارزاقهم للعطب، فيتحولون الى متظاهرين عاديين.
شباب ثوري متحمس، لا تزيد اعمارهم على اواسط العشرينيات، يُسيرهم احساسهم بالظلم، وحبهم للمظلومين، وتدفعهم نخوتهم الى إغاثة كل ذي حاجة، وتشحذ همتهم غيرتهم العراقية الاصيلة، وتوقهم العالي لان يكونوا ابطالا في زمن عزت فيه البطولة.
اعرف هؤلاء الشباب حق المعرفة، يمكنني ان افهمهم، يمكنني التنبؤ بردود افعالهم غير المتوقعة لدى الكثيرين، يرقصون كمايكل جاكسون، ويحفظون مواويل رياض احمد، يتيهون غراما بأية شقراء، ويؤلفون لها القصائد، يبالغون في تقدير تقدم اليابان والغرب ثم يلعنون الذي اخترع اكياس شاي ليبتون، يبكون في الحسينيات، ويشعلون الشموع في الكنائس، يدبكون الجوبي بذات الاخلاص الذي يهزون فيه اكتافهم على لحن كردي، يرتدون ملابسهم على الموضة صباحا، ويقصون شعرهم وكأنهم في سان فرانسيسكو، ثم يرتدون دشاديشهم، وتراهم يشربون الشاي العراقي من صحن الاستكانة ويلعبون الطاولة ويتشاجرون، سيجمعهم دارمي لطيف يردون عليه بدارمي ألطف، ستُحرك اجسادهم اية هلهولة، ستوقظ كل حواسهم اية هوسة عراقية، ستجعلهم ينتشون نخوة، يندفعون للميدان، يتسلقون جدران صماء للوصول الى المحاصرين في اعالي بناية المطعم التركي التي اصبحت جبل أُحدهم.
ولأنهم من طين العراق ولان العراق لا ينسى طينه، فان الحب الذي ناله سائقو التوك توك هو حب عراقي خالص، يستحقونه عن جدارة، يقف شاعر بحضرتهم لإهدائهم قصيدة، يغني مطرب شهير اغنية خاصة لهم، تسير حاجة بينهم وتوزع عليهم بعض المال والكثير من البركات، تقف صبية بينهم وتقول انها لا تريد زوجا إلا من اصحاب التكاتك، تتبرع سيدة بكامل ثمن توك كوك لشاب تعرضت مركبته للدمار، تصر احدى الامهات على صاحب التوك توك ان يتناول وجبة من وجبات الطعام التي توزعها على المتظاهرين، تقول فتاة عراقية انها لم تكن تشعر بالأمان خلال سيرها في شوارع الا في هذه الايام حيث يسيطر قادة التكاتك على الميدان، ويغرد عراقي قائلا: انقذنا التوك توك حين خذلتنا الدبابة.
قادة التكاتك يؤلفون مجتمعا ثوريا جديدا، يشبه القوة الضاربة والفتوة الطيبة والشقاوة الوطنية، مجتمع اهم ما يميزه البعد عن الفذلكة الثورية، والسير على الفطرة والسجية الوطنية الشعبية، وهي فطرة سليمة لا يشوهها الا السياسيون والطائفيون.