بغداديات 67
تجايل في العراق اربعة نحاتين اضافوا لهذا البلد المشهور بتماثيله نصبا وجداريات عزّ نظيرها في دول اخرى، لقد عاش هؤلاء على طريقتهم في بلد لا يمكن فيه للفنان ان يعيش بحريته، ولكنهم امتلكوا هذه الحرية، وفرضوها فرضا على السياسيين القادمين بسلاح الانقلاب.
كنت تسير في بغداد براس مرفوع فحيثما اتجهت هناك نصب او جدارية او تمثال عملاق ينبغي ان تشخص ببصرك الى الاعلى كثيرا لتراه كاملا، قبة نصب الشهيد، ملتقى السيوف في ساحة الاحتفالات، نصب الجندي المجهول، نصب الحرية، جدارية الثورة، تمثال المتنبي، تمثال المنصور، تمثال الام، تمثال ابو النواس، نصب كهرمانة والاربعين حرامي، تمثال الطيار، نصب المسيرة تمثال شهرزاد وشهريار، حماة المسلة تمثال الرصافي وغيرها كثير .
سيحسب لهذه القيادات انها اقامت تماثيل ونصبا وجداريات، وسيحسب على من جاء بعدها انها دمرت بعضها ليس بالإهمال فقط وانما بقرارات ازالة مدروسة.
النحاتون: فائق حسن، جواد سليم، خالد الرحال، ومحمد غني حكمت، ولدوا جميعا بفارق بسيط في السنوات بحدود العقد الثاني من القرن الماضي. ولكل مدرسته واسلوبه ليس في الرسم والنحت فقط بل في الحياة ايضا.
كان جواد سليم فنانا بالفطرة، فاز وهو في الحادية عشرة فقط بجائزة النحت في اول معرض للفنون ببغداد عام 1931، وفاز نحته "السجين السياسي المجهول" بجائزة عالمية، واحتفظت الامم المتحدة بنسخة مصغرة عنه، تعلم الانكليزية والإيطالية والفرنسية والتركية إضافة إلى لغته العربية، وكان نصب الحرية الضخم في وسط بغداد آخر عمل يشارك فيه، يومها رفض قاطعا ان يجعل وجه الثائر الذي يحطم قضبان السجن كوجه الزعيم عبد الكريم قاسم، ظل على رفضه الى ان رضخوا لمطلبه.
يوم وفاته وتماما كما يحدث في افلام الآكشن، كان احدهم يقود دراجته الايطالية بسرعة، وصل الى موكب التشييع، افسح له المشيعون الطريق، استخرج معجونة من حقيبته السوداء وضعها بكل رفق على وجه زميله الراحل جواد سليم، ضغطها برفق على جنبات وجهه الذي اصبح باردا، ثم نزعها وهو يبكي.
كان خالد الرحال يستخدم دراجته في كل المناسبات عازفا عن شراء او استخدام السيارة، كان يعيش من اجل الفن، وكان يقول كل ما يخطر بباله دون تحفظ، انجز نصب الجندي المجهول وقوس النصر، وتمثال ابو جعفر المنصور وتمثال الام وعشرات الاعمال الاخرى، كان يرسم وينحت كل الوجوه التي يرى فيها حضورا مميزا، ويهدي اعماله لأصحاب هذه الوجوه ويمضي، نحت تمثالا نصفيا بديعا للحاج مهدي الصفار صاحب الحمام الشعبي واهداه اياه.
خالد الرحال اشترط على القيادة العراقية مقابل تصميمه لنصب الجندي المجهول ان يدفن بداخله بعد وفاته، فوافقت مرغمة، وكان له ما اراد بعد وفاته.
فائق حسن لم يكن يريد لجثته ان تدفن في أي مكان لقد اوصى بحرقها ونثر الرماد فوق البحر، يقال ان وصيته نفذت وان رماده وضع في 3 قوارير، بقيت واحدة عند زوجته في فرنسا، واخرى تم نثرها فوق البحر، وثالثة ارسلت بصعوبة الى بغداد بسبب خضوعه للحصار واعتبار اجواءه مغلقة امام حركة الطيران.
استقرت القارورة الثالثة في مكتب الفنانة ليلى العطار في وزارة الثقافة العراقية وتدحرجت بين اللوحات، واختفت، لم يعرف القوم ماذا يصنعون بها هل يسلمونها لمن تبقى من عائلته، التي لم توافق اصلا على مبدأ الحرق، هل يعرضونها في متحف امام جمهور لا يقر بمسالة الحرق ويرى فيها اثما كبيرا، نقاش طوته الاحداث الكبرى التي عصفت بهذا البلد. وهي احداث ادت الى اهمال وخراب وتدمير الكثير من التماثيل.
استشهدت ليلى مع افراد من اسرتها خلال قصف بصواريخ امريكية اصابت بيتها الواقع قرب مبنى المخابرات العراقية في المنصور، قالوا انها كانت مستهدفة لشخصها بعد ان رسمت صورة للرئيس الامريكي جورج بوش في مدخل فندق الرشيد كي تدوسها اقدام المفتشين الدوليين عن اسلحة العراق.
كانت ليلى العطار "سيدة الهدوء في الشرق الاوسط" و "اميرة الصمت" والى جانب ابداعها في الفن التشكيلي، واحدة من اجمل جميلات بغداد واكثرهن اناقة ملبسا وحضورا، كان وجهها يغري كافة الفنانين لرسمها.
فائق حسن كان يهتم باللون كثيرا، مختلفا بذلك عن زميله جواد سليم الذي ظل يهتم بالشكل والحركة على حساب اللون. رسم الكثير من الخيل العربية خلال اقامته بباريس، عاش زاهدا، حتى انه ظل يرتدي ذات الجاكيت ل 30 عاما، كان يجيد الرسم والبستنة والنجارة والخياطة والطبخ وتصليح الكهرباء وتسلّق النخيل. ولما أراد رفيق عمره جواد سليم أن ينحت له تمثالاً، اختار أن ينحت كفّيه المباركتين، لا وجهه.
حديقة الملك غازي بدلت اسمها بعد الثورة وصارت حديقة الامة وكانت تمتد من ساحة التحرير حيث وضع جواد نصب التحرير بلون البرونز وتنتهي في ساحة الطيران حيث وضع فائق جدارية الثورة، ووضع فيها الآف قطع السيراميك الصغيرة الملونة ليجسد كافة فئات الشعب الثائر بما في ذلك الفلاحين العمال والجنود وتتوسطهم امرأة تطلق حمامات بيضاء، عن هذه الحمامات كتب الشاعر سعدي يوسف قصيدته "تحت جدارية فائق حسن":
تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها,
وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم.
يقول المقاول جئنا لنبقى , تقول الحمامة هل قال حقا
يقول النقابي ان السواعد ابقى
وتبعه الشاعر المغربي علال الحجام فكتب قصيدة عن ذات المكان بعنوان "في ساحة التحرير امام جدارية فائق حسن" ، فتحول اسمها من جدارية الثورة الى جدارية فائق حسن بقوة القصيدة وشعبية الشاعر التي غلبت شعبية قائد الثورة الذي تم اعدامه في ثورة لاحقة.
محمد غني حكمت والذي تتلمذ على يد جواد سليم كان ايضا صاحب موهبة فطرية، لقد ظل يراقب قباب المساجد في الكاظمية والمآذن، ويذهب الى شط دجلة فيصنع مثيلا لها من الطين، كانت عائلته تحرم النحت لأسباب دينية ولكن ذلك لم يمنعه من السير على جمر موهبته، حتى صار شيخ النحاتين. اهتم كثيرا بحكايا التراث فصنع تماثيل شهريار وشهرزاد ونصب كهرمانة (علي بابا والاربعين حرامي) ونصب الفانوس السحري، ونصب بغداد، وبساط الريح، والجنية والصياد وتماثيل عشتار وحمورابي وابي الطيب المتنبي. وله الكثير من الاعمال الاخرى خارج العراق كعمان والبحرين وباريس وروما.
تم الاستيلاء على الكثير من اعماله الاصغر حجما من البرونز والخشب والحجر ، كنتيجة للغزو الامريكي لبغداد، وكان آخر اعماله نصب انقاذ الثقافة، وكأنه كان يتوقع هذا الاستهداف للثقافة العراقية.
عاش ايامه الاخيرة في الاردن برفقة زوجته غاية الرحال (شقيقة النحات خالد الرحال) وتوفي هناك عام 2011، وكان آخر ما صرح به خلال فترة مرضه: "ما زلت احلم بالعودة الى بغداد يوما لإنجاز ثلاثة اعمال برونزية: الاول تمثال للسندباد البحري عائماً وسط نهر دجلة، والثاني نافورة مصباح علاء الدين السحري في ساحة الخلاني (وسط بغداد)، والثالث لحرامي بغداد، تلك الشخصية التي اشتهرت في العصر العباسي، عندما كان يتلثم بالليل ليسرق اغنياء بغداد ويوزع بعد ذلك المال على الفقراء".