سوريا التي في خاطري 3
كنا نتجمع مع بقية أفراد اسر الجيران في حوش دار العم ابو وليد والواقعة في زقاق يتفرع من شارع شامل بمدينة الزرقاء، أمام تلفزيون ياباني من ماركة توشيبا، كان هذا التلفزيون الاسود والابيض بشاشته الصغيرة والمحدبة جدا، يكاد يكون الوحيد في الحي.
كنا نتمسمر امام التلفزيون لمتابعة الحلقة الأسبوعية من مسلسل صح النوم لغوار الطوشة (دريد لحام) وصديقه ابو عنتر (ناجي جبر) وغريمهما اللدود حسني البورزان (نهاد قلعي) ومعشوقتهما فطومة ( نجاح حفيظ) وخالها القصاب ابو رياح (محمد الشماط) وخادمها ياسين بقوش (الممثل السوري من اصل ليبي والذي حمل اسمه الحقيقي داخل المسلسل) وصديقهما بياع الخيار ابو قاسم (محمد العقاد) وذلك الواقف بالمرصاد للجميع بأنفه وحاسته السادسة بدري بيك ابو كلبشة (عبد اللطيف فتحي)>
وكان معهم حمار ابيض جميل اسمه ابو صابر.
كنا نغفو قبل نهاية الحلقة ونصحو فإذا بالسهرة قد انفضت واستعد الجميع للرحيل فنبدأ بالبكاء مطالبين بإعادة العرض، يحاولون اقناعنا دون طائل فنظل نبكي حتى ننام مرة أخرى.
وفي اليوم التالي نتجمع في الحارة ومعظمنا ينكر انه قد نام، ويستشهد على ذلك برواية أحداث مفترضة من هذا المسلسل الذي كرس سوريا في خاطري وأنا صغير حتى اعتبرتها بلد السعادة المطلقة.
ما زالت موسيقى مقدمة هذا المسلسل حاضرة في عقلي وما زالت أغنية فطم فطوم فطومة ترن في أذني:
فطوم فطوم فطومة / خبيني بيت المونة
لما بكرا بيجي البرد / مالك غير كانونة
شو حبيتي بنص نصيص هل بورزان
راسو من دك البستان موعرفان
فتاحي قلبي وخدي منو شي نارة
مهما فتلتي ما في متلي بالحارة
فطومة كيف حبيتا اهل الحارة سالوني
بعيونكن لا تشوفوها / لك شوفوها بعيوني
في رجال بيتجوز مو مجنون
خديني قبل ما اعقل يا فطوم
لا تقضي عمرك بالخطاب محتارة
برمشة عين بيمضى العمر يا خسارة
غمضي عين وفتحي عين / بتصيري عل عكازة
طقم سنان وحدربة / وبتبقي بدون جوازة
وقارن قارن قارونة سيرن سيرون سيرونة
فطوم اشلبدش / فطوم يا مو / فطوم تيني سيفيرو
فطوم يضرب الحب شو بذل
اذن لم يكن كاظم الساهر هو اول من كتب هذه العبارة (يضرب الحب شو بذل) او قالها او لحنها وغناها، لقد إقتنصها من الاغنية وقبلها من فم الممثل ناجي جبر (ابو عنتر) الصديق الصدوق لغوار الطوشة.
كان غوار قد طرد من وظيفته في نزل السعادة الذي تملكه فطوم، فبدأ يعمل كماسح احذية، لأنه حسب اقواله لا يستطيع العمل كماسح جوخ، جلس ابو عنتر الى جواره مواسيا وقال له عبارته الشهيرة: باطل ابو الغور!!! يضرب الحب شو بيذل!!!
فعلا يضرب الحب شو بيذل!!! ففطوم التي رفضت حب غوار لم تحظ بحبيبها حسني، وتزوجت في النهاية من اجيرها الساذج ياسين بقوش، والذي ظلت تهدده طوال حلقات المسلسل بأن تمصع رقبته وان تحل وبره. فانطبق عليها المثل العراقي القائل: "لا حظيت برجلها ولا أخذت سيد علي" .
لحن اغنية فطومة مأخوذٌ بحذافيره، عن أغنية أرمينية قديمة (كارون كارون كاروني، سيرون سيرون سيروني)، وقد اعاد توزيعها الفنان عبد الفتاح سكّر.
الحقيقة أن عملية الاقتباس هذه قدّمت خدمة جليلة للأغنية الأصلية، حتى ان الفنانة نانسي عجرم غنتها في مقابلة مع نيشان على تلفزيون الجديد.
المدن والحكومات ايضا عندما تعاند قدرها ونصيبها، وترفس كل ضرورات التحديث والتطور والتجاوب مع الراهن، يصيبها ما اصاب فطوم، فكما يقول المثل: "اللي بيعاند مؤخرته بيعملها في لباسه"، عاند الرئيس التونسي زين العابدين بن علي كثيرا وفي خطابه الاخير قال: الآن فهمتكم. كان الاوان قد فات.
في ذلك الصباح كانت كاميرا الجزيرة ترصد انفعالات التوانسة، المسن احمد الحفناوي كان قد بات ليلته في مقهاه الواقع بشارع الحبيب بورقيبة قبالة وزارة الداخلية، خرج من باب المقهى وصل الى الجزيرة الوسطية المظللة بالأشجار ، فاجأته الكاميرا فقال بكل عفوية وتأثر، وبفرح تشوبه الحسرة، وهو يمسح بيده اليمنى على شعره الاشيب بالكامل: .... هرمنا ! لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية...
قالها مقطعة على نحو مؤثر، وسرعان ما اصبحت العبارة الاكثر تداولا، وسرعان ما اصبح صاحبها الاكثر شهرة.
يقول صاحب العبارة الشهيرة في مقابلة اجريت بعد 7 سنوات على ذلك اليوم الواعد، انه ليس نادما، ولا زال مؤمنا بالثورة، وان تلك اللحظة كانت من اجمل لحظات حياته، ولكنه يعيش الآن اتعس ايام حياته، لقد كان لديه مقهى ايام الزين، واما بعد الثورة فقد اضطر الى بيعه بأبخس الاثمان.
بعضهم علق على المقابلة قائلا: لقد ندمنا. يبدو انه كما يقول المثل: "فسّا غلب 100 عطار".
يا رب ان حكامنا فسائين فلا تجعلهم معاندين ايضا، ولا تجعلنا من النادمين.