سوريا التي في خاطري 2
كنت طالبا في الصف الأول الابتدائي، بمدرسة الرازي الابتدائية للبنين في مدينة الزرقاء الاردنية، كنا نداوم شهرا في الفترة الصباحية، والشهر الذي يليه في الفترة المسائية، كان اسم آذن مدرستنا ابو طالب، لم تكن المدرسة بعيدة، كنا نذهب ونعود مشيا، انا وابن عمتي هايل، لا اتذكر ابعد من ذلك.
زمن طويل انقضى على يومي الدراسي الاول في تلك المدرسة، كان يوما عاديا لأسرة انا رابع ابنائها الذاهبين للمدرسة، ولكنه كان يوما مميزا مشوبا بالحذر والتوجس والرهبة لمن لم يسبق له الذهاب الى أي روضة او حضانة مثلي.
اغلب الظن ان ذلك اليوم كان في مطلع خريف العام 1971، كانت الفصول ايامها اكثر حدة وصراحة، وكانت مناديل القماش والحقائب والقرطاسية متماثلة جدا بشكل يثير الملل، ويقضي على كافة ادلة الملكية المتنازع عليها دوما بين التلاميذ الثلاثة الجالسين على مقعد واحد، مقعد طويل نسبيا يقضي على الخصوصية ويدمر الشخصية ويؤسس لصراعات باهتة الاسباب.
كنت قد استعددت لذلك اليوم بحلاقة شعري الذي كان ايامها كثيفا، لكن سؤالا بسيطا وجهه الحلاق لي فور جلوسي على كرسيه العالي، جعلني اكره الاسئلة منذ ذلك اليوم المتناهي في البعد وحتى يومنا الحالي، ولا شك انني سأظل اكره الاسئلة فقد فات الاوان على التغيير. سألني يومها: على الزيرو؟ ولم اكن اعرف ما هو الزيرو، ربما هززت رأسي لاستفهم ربما حاولت النظر اليه لاستفسر، لكنه كان متعجلا واعتبر انني وافقت.
لم يزعجني منظر رأسي الخالي من الشعر، لا ايامها ولا ايام الشباب عندما فقدت شعري مبكرا جدا، ولكن فكرة ان يكون هناك سؤال يخصني ويتعلق بي ولا اعرف الاجابة عليه ما زالت تؤرقني، ومن يومها الى اليوم وانا افكر بالأسئلة التي تتعلق بي ولشدة تفكيري بها فأنها تتراكم وتتراكم واما الاجابات والخيارات فإنها تذوب في سوائل الاحتمالات شديدة الاذابة.
لم يكن في منهجنا سوى سمير وسميرة وباسم ورباب وراس روس، والتي اكتشفنا انها غير متبوعة بحمير تيوس كما كان يردد من سبقنا الى المدرسة.
بعد ربع قرن على ذلك اليوم، سكنت ذات عطلة صيفية في شقة جديدة بحي ام الشرايط في مدينة البيرة، وأطل الخريف برأسه لاستيقظ ذات صباح على بكاء وعويل عدد كبير من الاطفال، نظرت من النافذة فإذا بالآباء والامهات يقومون بتسليم اولادهم للروضة الواقعة بجوار عمارتنا.
كان بكاءً مرا وطويلا، وكان الآباء والامهات والمربيات يتحايلون على الاطفال بشتى الطرق لترك اولياء امورهم والدخول الى المبنى دون طائل، الاولاد يبكون بحرقة واولياء الامور ينسحبون تدريجيا بعيون دامعة، استمر الامر ساعتين، قبل ان يخبو العويل ويخفت، اغلب الظن ان الله استجاب لدعائي وجعل الاطفال ينامون.
بدأت جولات العويل والبكاء تتناقص يوميا، وانتهت بعد اسبوع، لتحل محلها اصوات من انواع اخرى، اجملها تلك المنطلقة من حناجر الاطفال عند انتهاء الدوام وملاقاة الوالدين.
الحمد لله أنني انهيت المدرسة، وأنني لا اعمل في التدريس. ما زال مشهد الخروج من المدرسة في نهاية الدوام هو الاكثر بعثا للسرور في نفسي. يذهبون للمدرسة كالسلحفاة الكسلى ويخرجون منها كالنمور متحفزين.
راقبت خروج النمور من عدة مدارس، تعمدت ذلك احيانا في بغداد، ومر امامي مصادفة في بكين، وللآن كلما مررت بخروج التلاميذ من المدرسة توقفت لأردع تلاميذ اشقياء يتنمرون على زميل ضعيف.
ببالي الآن قصيدة كتبها الشاعر العراقي مظفر النواب في واحدة من ايام منفاه الدمشقي عندما مر بباب مدرسة دار السلام في دمشق فابتلى بالجمال المندفع من تلك المدرسة على شكل ارغفة خبز تنور حار:
يا عمر الورود و نثّات المطر
حالاّت الشعر ....غزوة شام
و النفنوف هلهولة بحر
حارات من المدارس چن خبز تنور
يفسدنك يا گلبي لو حجر
ضبية عمي تگلي ، ضبية تگلي خالي
ضبية بي تبحّرت ، ركبتلي جني
طوال و محزمات ... و ريّانات
يا الله دخيلك
أنا بسنين البرد و الثلج منهن عطّبيت
يساعد الله التوه خط الزغب فوق شفافه المورمات شهوة
و خالي جيبه و ماله بيت
إيــــــــــــــــه يا إنتِ تذكريتچ
كلهن أنتِ
شگد ضگت بقلاوة شغل الشام
مثلچ يا شغل بغداد أبداً ما لگيت
اجمل الطرق هي طريق العودة من المدرسة الى البيت، واكثر المشاهد اثارة للشجن هي مشهد اندفاع التلاميذ من فوهة المدرسة، نحو الشارع نحو العالم نحو احضان والديهم نحو المائدة نحو البيت وبعدها نحو الحارة ثم الجلوس امام التلفزيون مساء.
التلفزيون، من هنا تحديدا عرف ابن الصف الاول الابتدائي في مدرسة الرازي بوجود دولة جميلة وسعيدة تسمى سوريا، ذاكرتنا ثنائية القطب لم تكن تتسع لاستضافة ثالث بين السعادة والحزن او الجمال والقبح.
في بياض هذه الذاكرة كان غوار الطوشة ومسلسل صح النوم، وفي سوادها كل ما عداه.
الصورة مدرسة دار السلام ( الفرنسيسكان) بحي الشعلان في دمشق تأسست سنة 1925، وطالبات الثانوية ايام نظام الفتوة