متى يتوقف بعض الحكام العرب عن لعب دور السمسار لواشنطن وإسرائيل...!؟
*مصطفى قطبي
لم يعد سراً الحديث عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية غير الطبيعية بإسرائيل، وبات القاصي قبل الداني يتحدث عن خدمات تبادلية بين إسرائيل وبين من صنعوه وفرضوه على الفلسطينيين والعرب والمنظمة الدولية والعالم أجمع. وإذا كان المحللون والمتابعون قد خلصوا إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل تفرض سياساتها ورؤاها واستراتيجياتها منذ عدة عقود على صانع القرار الأميركي عبر مراكز النفوذ واللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة وذراعها الأقوى الايباك...
فالولايات المتحدة هي عبر تاريخها العصا الغليظة العمياء في يد اليهودية الصهيونية العالمية، وعلى قواعد فكرها التوراتي الحاقد. والولايات المتحدة هي الدولة التي سخرت إنتاج شعوبها وعرقهم ودماءهم لمصلحة الخطط الصهيونية التاريخية المتحجرة الهادفة إلى إقامة ''إسرائيل'' من النيل إلى الفرات وإفناء شعب هذه الأرض والتحكم بالعالم انطلاقاً من هذا الموقع الذي هو وسط العالم ومفتاحه، ولا نظن أن أحداً اليوم يماحك أو يجادل في هدف الصهيونية العالمية بهذا الشأن، بعد تجارب ما لا يعد ويحصى من المجازر... والولايات المتحدة هي الدولة التي سحبت أحقادها المعبأة والمستعبدة بالفكر التوراتي على جميع علاقاتها ومواقفها من جميع دول العالم، فقد تمكنت من أن يكون لها موقع قدم أو مربط علاقة، فدول أمريكا الجنوبية والوسطى عانت منذ عشرينيات القرن الماضي من همجية الولايات المتحدة تجاه حكوماتها وشعوبها لتعزل من لا يحلو لها وتحكّم من ينساب في مشيئتها.
والولايات المتحدة سنّت وشرعت في الداخل سلة من القوانين التي تجعل من اليهودي سيداً فيها وتجعل جميع الآخرين عبيداً له، ومن هذه القوانين: الضرائب والخدمة العسكرية وقوانين التنظيمات النقابية والاتحادات التي أصبح اليهود متحكمين بها ما بين أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين. والولايات المتحدة كانت الدولة الأكثر حماساً لإنشاء عصبة الأمم التي كانت في أبرز مشاهدها حضناً للمطالب اليهودية في بلادنا العربية ولإنشاء الكيان العبري المصنّع بالقوة والقهر.
وفي نظرة سريعة ولكن معمّقة لأحداث اليوم ومحاور حرب ''الربيع العربي'' التي تشنها إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها وبتمويل بعض دول النفط الخليجية... نقرأ ونسمع من كل الدول العربية الحديث عن أيد خفية تطول هذا البلد وذاك وعن مخططات تستهدف هذه الحكومة أو تلك وحقيقة الأمر هي أن هذه التفاصيل هي جزئية من خطة أعم وأشمل تستهدف الجميع وما يجري في بلد دون آخر وتوقيت دون آخر ما هي إلا تفاصيل مدروسة لاستكمال الخطة الأكبر والتي سوف تبدو جليّة للعيان حين ينضج الوضع على الساحة العربية. وبهذا فإن احتلال فلسطين كان نقطة الانطلاق فقط ونقطة الارتكاز وإجراء التجارب لمعرفة أفضل السبل للانقضاض على سورية ولبنان ومصر والعراق وليبيا بل على الأمة بأسرها.
واليوم وبعد كل الجهود التي بذلت لقضم أرض فلسطين كلها وتهجير أهلها العرب جميعاً وبعد تقسيم السودان واستنزاف العراق وخلق مشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر وتحطيم ليبيا وتدمير اليمن وشل مصر منذ سيناء2 وترهيب الخليج واستنزافه ليقع في أحضان إسرائيل ويمول حربها، أولم يصبح واضحاً أن ''صفقة القرن'' لا تستهدف فلسطين وحدها بل تستهدف العرب برمتهم ونحن لا نتحدث عن الغد المباشر بل عن العقد أو العقدين القادمين.
فإسرائيل تشكل حلقة ثابتة في الموقف الأمريكي من قضايا السياسة الخارجية، وهذا ينطبق على السياسات المتبعة إزاء دول وأحزاب وقضايا دولية، وباستثناء المصالح الاقتصادية مثل مصادر الطاقة والأسواق والصراع على مناطق النفوذ في روسيا والصين وغيرها من الدول الصاعدة، لا نجد سوى ''إسرائيل'' محركاً للسياسات والقرارات الأمريكية. وفي كثير من الأحيان تتكلف الولايات المتحدة أثماناً باهظة من دماء مواطنيها وأبنائها وخزينتها وسمعتها ومكانتها في العالم من أجل إسرائيل، بحيث تبقى إسرائيل دائماً هي ''الرابح الأول'' في السياسات الأمريكية، أما تنافس الحزبين فلا يخرج عن سياق القضايا الداخلية المختلفة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية وأغلبها اجتماعي. وفي جميع الحالات الداخلية تبقى إسرائيل هي الأساس والمنطلق، ويلعب الصوت الإسرائيلي دوراً فاعلاً ومؤثراً إلى أبعد الحدود في هذه الحالات جميعاً.
الولايات المتحدة تعلن ـ في مناسبة وبغير مناسبة ـ أنها إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، وأنها مع الاستيطان والتوسع، وكذلك مع الاستئصال الكامل لجذور الفلسطينيين. وهي هنا لا تجد نفسها تخالف القوانين الدولية، أو تعتدي على حقوق الشعوب صاحبة الحق في الأرض. وما يدفع الولايات المتحدة لفعل هذا، هو قوتها الغاشمة، ومصالحها في الشرق الأوسط. وهذا ما دفع القادة الإسرائيليين لأن يتباهوا بقوة اللوبي الإسرائيلي في صياغة وتشكيل سياسة الولايات المتحدة، حيث سمحت لهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بارتكاب المجازر والاغتيالات وهدم البيوت والعقوبات الجماعية وممارسات الإبادة الأخرى التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، حتى إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ''أرييل شارون'' تباهى مرة بتأثيره في الرئيس الأمريكي جورج بوش قائلاً: ''إن الولايات المتحدة تحت سيطرتنا''.
لقد أخذت الولايات المتحدة ـ حكومة كل العالم ـ تسعى علناً لتصفية حساباتها مع كل من كان يقف في وجه مشاريعها ومؤامراتها، ومن يعارض خططها لتصفية قضية فلسطين، وإلحاق الوطن العربي كلياً بالقرار الأميركي، وإخضاعه لهيمنة الشركاء العنصريين، ولصالح الإدارة الأميركية وإسرائيل، اللتين أعلنتا بوضوح، على لسان الرئيس السابق ''بيل كلنتون'' في لقائه مع رابين 15 مارس 1993 إذ قال: ''لقد بدأنا حواراً يهدف إلى رفع علاقاتنا إلى مستوى جديد من الشراكة الاستراتيجية: لنكون شركاء في السعي إلى السلام وشركاء في السعي إلى الأمن''. وأخذ ''الإرهاب'' يشكل سلاحاً من الأسلحة التي تشهر على العرب الذين يقاومون الاحتلال، والهيمنة الأميركية، والوجود الاستيطاني ـ العنصري الصهيوني، ويُشهَر على المسلمين والإسلام ذاته، في سياق إعلان الولايات المتحدة الأميركية ـ بعد انتهاء حرب الخليج الثانية ـ عن غزو مفتوح للآخرين، ولا سيما العرب والمسلمين، حيث قال الرئيس بوش: ''إن القرن القادم ـ أي القرن الواحد والعشرين ـ سيكون قرن انتشار وهيمنة القيم الأميركية، والسلوك الأميركي، والثقافة الأميركية''. وعزز مفسرون ومتطرفون غربيون ذلك ووضحوه بالقول: ''إنه كما شهد القرن الحالي ـ أي القرن العشرين ـ انهيار الشيوعية والماركسية، سيشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام''.
وهكذا بدأ استخدام ''الإرهاب'' سلاحاً عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ونفسياً ضدنا، لتدميرنا من الداخل، لتبرير عمليات التدمير والإبادة البطيئة التي تتم ضدنا، باسم ''مكافحته'' وتمرير كل فعل إجرامي يرتكب بحقنا، من خلال التزييف والتشويه والقفز فوق الحقائق والوقائع. فبعد العمليات الفدائية الموجهة ضد العدو الإسرائيلي داخل الأرض المحتلة وخارجها، وازدياد المواجهات حدة بين أجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية من جهة، والمنظمات الفلسطينية العاملة في مجال المقاومة من جهة أخرى، تنامت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، الجهود الرامية إلى تحديد أسباب ''الإرهاب'' ومقاومته، وازدادت معها حملات الإعلام والسياسة والتهديد، التي جعلت مفهوم الإرهاب يكاد يلتصق بالفلسطيني، والعربي، ليصبح من صفاتهما، ثم ينسحب على المسلمين فالإسلام.
وللأسف، مازال الرؤساء والملوك العرب الذين يعتبرون الولايات المتحدة دولة حليفة أو صديقة تحافظ على صلاتها ودعمها لهم، يرتكبون خطأً كبيراً ثبتت مخاطره منذ بداية القرن الماضي حتى الآن أي منذ (الشريف حسين) والحرب العالمية الأولى والدور البريطاني ـ الفرنسي في تجزئة واقتسام الوطن العربي. ومن لا يريد الاقتناع بهذه الحقيقة فلينظر إلى الدور الإسرائيلي الذي تستند الاستراتيجية الأميركية إليه ولقواعدها العسكرية في المنطقة. وحول هذا الموضوع يعترف المحلل الإسرائيلي ''لازار بيرمان'' في تحليل سابق نشره في الموقع الإلكتروني (ذي تايمز أوف إسرائيل) أن السياسة الإسرائيلية تريد من الولايات المتحدة إنجاز تقسيم وتجزئة دول كثيرة عن طريق إنشاء دول ودويلات على أساس طائفي أو إثني وخصوصاً في العراق وإيران وتركيا وسورية ومصر، ويرى ''بيرمان'' أن واشنطن قد لا تتشجع لفرض هذه السياسة في تركيا لكن التطورات المتلاحقة وظهور لاعبين صغار جدد في هذه الدول وتعزيز قدراتهم سيحمل معه النجاح لمشروع من هذا القبيل.
ويستشهد محللون إسرائيليون آخرون بحالة (الفوضى) غير المسبوقة في تاريخ دول كثيرة في المنطقة من مصر إلى سورية إلى العراق إلى اليمن إلى لبنان إلى ليبيا وتونس... ويعتبرونها الفرصة غير المسبوقة أيضاً لإعادة تشكيل الكيانات السياسية بطريقة أكثر تجزئة من أي مرحلة تاريخية ماضية. ولا أحد يشك أن إسرائيل وحدها وبقدراتها وحدودها الحالية لا يمكن أن تتولى إدارة أو تنفيذ مشروع كهذا إلا إذا ما وضعت خطته وأدارته الولايات المتحدة الأميركية.
ففي دراسة أعدها أحد الخبراء الإسرائيليين ''رالي أهاروني'' جاء أن مصر يمكن تقسيمها إلى أربع دول، واحدة منها في سيناء وأخرى مستقلة قرب قناة السويس والجهة الأخرى وثالثة تمتد حتى الصحراء على حدود ليبيا، ورابعة في الشمال، واعتمد ''أهاروني'' في دراسته على مبدأ جيوسياسي يوفر لإسرائيل تحالفاً مع (دويلة سيناء) ودويلة (منطقة قناة السويس) لأنهما ستشكلان حاجزاً جغرافياً وبشرياً ومائياً تستند إليه إسرائيل في حماية مشروعها الصهيوني. فمنذ عام 1982 نشر الصحفي الإسرائيلي ''عود يدينون'' المقرب من وزارة الخارجية الإسرائيلية، دراسة بعنوان (إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات) كشف فيها عن دعوة إسرائيلية بتحويل الجبهة الشمالية والشرقية إلى دويلات صغيرة تنشأ على خلفية طائفية واثنية تمتد من العراق إلى الأردن إلى سورية ولبنان، فتتخلص إسرائيل من هاتين الجبهتين بعد أن جمدت جبهة الجنوب التي كانت تشكلها مصر قبل كامب ديفيد، وتمكنت إسرائيل من فرض تقسيم بعد عام 2006 بين الضفة الغربية وقطاع غزة واعتبرته مثالاً يجب تطبيقه على الدول المحيطة بها بما في ذلك مصر.
وتشكل المصالح الإسرائيلية ضمن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير وتحقيق المجال الحيوي لدولة إسرائيل البعد الثاني لمرتكزات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. واللافت في تاريخ مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من الدعم الأميركي لإسرائيل، أن الجمهوريين والديمقراطيين لم يختلفوا يوماً إزاء هذا الدعم بالغاً ما بلغت خلافاتهم على مواضيع أخرى. فالإدارات الأميركية المتعاقبة التي تتشدق بحماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة في العالم، تكذب على شعبها أولاً ثم على الشعوب والأمم الأخرى بتصدير مثل هذه الشعارات الجوفاء ومن ثم هي تؤكد عبر دعمها المستمر والمتصاعد لإسرائيل على أنها الداعم الرئيسي للإرهاب العالمي، ولاحتلال أراضي الغير ونهب خيراتها وطرد شعبها منها، وعلى تأجيج سباق التسلح في المنطقة، وهذا كله يؤدي حتماً إلى قتل السلام والاستقرار في العالم، فالسلام والاحتلال ضدان لا يلتقيان أبداً.
واللافت في تاريخ المساعدات الأميركية لإسرائيل والتي بدأت رسمياً عام 1949 أن هذه المساعدات ترتفع تباعاً في زمن الحرب وفي زمن البحث عما يسمى السلام أو معاهداته، وترتفع كذلك في زمن مكافحة الإرهاب. وعنوانا المساعدات الأوحدان هما ضمان أمن إسرائيل و''حدودها'' من حروب قد يشنها عليه العرب، وكذلك تعويض مفاعيل السلام المزعوم الذي وقعت اتفاقياته في كامب ديفيد مع النظام المصري ''أنور السادات'' وفي أوسلو مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ''ياسر عرفات'' وفي وادي عربة مع النظام الأردني ''الملك حسين''.
والحقيقة المؤكدة لدينا ولدى كل شرفاء هذا العالم، أنّ التاريخ أثبتَ عبر عصوره المتواليات أن ما يخالف سنن الكون لا ديمومة له، وإسرائيل خالفت قوانين الأرض وشرائع السماء والسنن الكونية في كل ما أقدمت عليه. بل إن وجودها نفسه على أرض اغتصبتها، وشعب شردته وقتلت ما لا يحصيه عدد من أبنائه، فضلاً عما أحاقت به من مآس وويلات لا حصر لها، سوف يفضي في نهاية المطاف إلى زوالها شأنها شأن غزوات كثيرة عرفها التاريخ على هذه الديار المقدسة. فالعد التنازلي لأمريكا وإسرائيل بدأ، وإن غداً لناظريه قريب. ونعرِّج على الحالة الإسرائيلية في وقتنا الراهن، فما تعانيه هذه ليس أقل مما تعانيه أميركا، إن لم يكن أشد سوءاً، حيث إنها هي نفسها باتت تدرك أنها بدأت عدها التنازلي المفضي، في نهاية المطاف، إلى زوالها كياناً ووجوداً، من هذه المنطقة التي فرضت نفسها عليها بدعم من قوى معادية لأمتنا، لحقبة من الزمن، أشاعت فيها الموت والدمار لشعب مسالم يعيش على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، فإسرائيل تعتمد في وجودها نفسه على أميركا، وما يصيب أميركا سينعكس عليها بالقطع.
لقد تغيرت الأوضاع كلها اليوم، فها هي إسرائيل تلحق بها سلسلة من الهزائم المتلاحقة بدءاً من عام 1973، في حربها مع مصر وسورية، ثم تتلقى بعد ذلك هزيمة أخرى عام 1982 في لبنان، ثم تخرج في عام 2000 من جنوب لبنان صاغرة تحت ضربات المقاومة اللبنانية، أعقب ذلك هزيمة منكرة لها عام 2006 في جنوب لبنان، كما حدث الشيء نفسه في غزة عامي 2008/2009، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض التي لا تزيد مساحتها عن 260 كم2، المفتوحة ميدانياً وتضاريسياً، حيث لا جبال ولا غابات تقيها ضربات الطيران الإسرائيلي وقصف دباباته ومدفعيته وأسلحتها المحرمة دولياً على شعب أعزل، ولا ننسى هنا ما بدا من ضعفها المزري أمام الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، حتى أمام حجارة أطفالها ومقاليعهم.
من هنا نرى أن المستقبل ينبئ بأن هاتين الدولتين المتغطرستين تواجهان مستقبلاً مشتركاً واحداً، سوف يحيل البيت الأبيض إلى بيت أسود، كما يحيل إسرائيل إلى خبر كان، الظواهر المشهودة اليوم والمتغيرات المتسارعة على الصعيد العالمي تؤكد هذه الحقيقة. لقد تنبأ الفيلسوف العالمي الشهير ''أرنولد توينبي'' بانهيار الإمبراطورية الأمريكية، وأكد أن الأمم القوية تظل في حالة صعود مستمر إلى أن تتحول إلى أمم مستبدة طاغية، ثم تتوقف عن الصعود ويبدأ نجمها بالأفول وذلك بفعل ظهور قوى أخرى تعمل على إسقاطها عن عرش الزعامات، وهذا ما سيحصل للإمبراطورية الأمريكية مما سيجبرها على الإسراع في التقوقع داخل حدودها ويسرع من انهيارها.
لهذا فالمطلوب من بعض الحكام العرب التوقف عن لعب دور السمسار لواشنطن لبيع فلسطين والجولان وجنوب لبنان...، لاسيما وأن مواقف الرؤساء الأمريكان وبخاصة ''ترامب'' تجاه عروبة فلسطين والقدس تشكل سابقة خطيرة جداً في العلاقات الدولية، وعلى حساب العرب والمسلمين ومبادىء القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. ويجسد الانحياز الأمريكي المطلق لـ ''إسرائيل''، والذي لا مثيل له في العلاقات الدولية على الإطلاق، ذروة الاستهتار الأمريكي بحقوق ومصالح الشعوب والحكومات العربية والإسلامية...
نحن في مرحلة إعادة تكوين المنطقة لتكون على حساب العرب وبشكل تتحول دويلاتها ضمن ''الولايات المتحدة الإسرائيلية'' وتدور في فلكها، وما لم يفهم العرب العلاقة الأميركية الإسرائيلية على حقيقتها وما لم يستجمع العرب عناصر القوّة خارج إطار هذه العلاقة لن نفهم سرّ كلّ ما يجري في منطقتنا وما يتمّ تخطيطه لنا وتنفيذه ضد مستقبل أجيالنا وشعوبنا. لقد كان يقال بشأن التاريخ القديم إن سلام روما في حروبها كان سلام القبور... أما ''روما الحديثة'' فحروبها قبور ولا سلام... وما لم يعي العرب هذه الحقيقة ويتخذوا الإجراءات الضرورية كي يكونوا هم أسياد هذه المنطقة فإن العدو المتربص بهم جميعاً يهدف إلى التحكم بالمنطقة علمياً وتقنياً ومعلوماتياً وتاريخياً وجغرافياً حيث لا يكون لوجود الملايين من العرب صدى أو دور في تشكيل هويتها ومستقبلها، ناهيك عن أي دور إقليمي أو دولي يحسب له حساباً.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.
*مصطفى قطبي
لم يعد سراً الحديث عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية غير الطبيعية بإسرائيل، وبات القاصي قبل الداني يتحدث عن خدمات تبادلية بين إسرائيل وبين من صنعوه وفرضوه على الفلسطينيين والعرب والمنظمة الدولية والعالم أجمع. وإذا كان المحللون والمتابعون قد خلصوا إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل تفرض سياساتها ورؤاها واستراتيجياتها منذ عدة عقود على صانع القرار الأميركي عبر مراكز النفوذ واللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة وذراعها الأقوى الايباك...
فالولايات المتحدة هي عبر تاريخها العصا الغليظة العمياء في يد اليهودية الصهيونية العالمية، وعلى قواعد فكرها التوراتي الحاقد. والولايات المتحدة هي الدولة التي سخرت إنتاج شعوبها وعرقهم ودماءهم لمصلحة الخطط الصهيونية التاريخية المتحجرة الهادفة إلى إقامة ''إسرائيل'' من النيل إلى الفرات وإفناء شعب هذه الأرض والتحكم بالعالم انطلاقاً من هذا الموقع الذي هو وسط العالم ومفتاحه، ولا نظن أن أحداً اليوم يماحك أو يجادل في هدف الصهيونية العالمية بهذا الشأن، بعد تجارب ما لا يعد ويحصى من المجازر... والولايات المتحدة هي الدولة التي سحبت أحقادها المعبأة والمستعبدة بالفكر التوراتي على جميع علاقاتها ومواقفها من جميع دول العالم، فقد تمكنت من أن يكون لها موقع قدم أو مربط علاقة، فدول أمريكا الجنوبية والوسطى عانت منذ عشرينيات القرن الماضي من همجية الولايات المتحدة تجاه حكوماتها وشعوبها لتعزل من لا يحلو لها وتحكّم من ينساب في مشيئتها.
والولايات المتحدة سنّت وشرعت في الداخل سلة من القوانين التي تجعل من اليهودي سيداً فيها وتجعل جميع الآخرين عبيداً له، ومن هذه القوانين: الضرائب والخدمة العسكرية وقوانين التنظيمات النقابية والاتحادات التي أصبح اليهود متحكمين بها ما بين أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين. والولايات المتحدة كانت الدولة الأكثر حماساً لإنشاء عصبة الأمم التي كانت في أبرز مشاهدها حضناً للمطالب اليهودية في بلادنا العربية ولإنشاء الكيان العبري المصنّع بالقوة والقهر.
وفي نظرة سريعة ولكن معمّقة لأحداث اليوم ومحاور حرب ''الربيع العربي'' التي تشنها إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها وبتمويل بعض دول النفط الخليجية... نقرأ ونسمع من كل الدول العربية الحديث عن أيد خفية تطول هذا البلد وذاك وعن مخططات تستهدف هذه الحكومة أو تلك وحقيقة الأمر هي أن هذه التفاصيل هي جزئية من خطة أعم وأشمل تستهدف الجميع وما يجري في بلد دون آخر وتوقيت دون آخر ما هي إلا تفاصيل مدروسة لاستكمال الخطة الأكبر والتي سوف تبدو جليّة للعيان حين ينضج الوضع على الساحة العربية. وبهذا فإن احتلال فلسطين كان نقطة الانطلاق فقط ونقطة الارتكاز وإجراء التجارب لمعرفة أفضل السبل للانقضاض على سورية ولبنان ومصر والعراق وليبيا بل على الأمة بأسرها.
واليوم وبعد كل الجهود التي بذلت لقضم أرض فلسطين كلها وتهجير أهلها العرب جميعاً وبعد تقسيم السودان واستنزاف العراق وخلق مشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر وتحطيم ليبيا وتدمير اليمن وشل مصر منذ سيناء2 وترهيب الخليج واستنزافه ليقع في أحضان إسرائيل ويمول حربها، أولم يصبح واضحاً أن ''صفقة القرن'' لا تستهدف فلسطين وحدها بل تستهدف العرب برمتهم ونحن لا نتحدث عن الغد المباشر بل عن العقد أو العقدين القادمين.
فإسرائيل تشكل حلقة ثابتة في الموقف الأمريكي من قضايا السياسة الخارجية، وهذا ينطبق على السياسات المتبعة إزاء دول وأحزاب وقضايا دولية، وباستثناء المصالح الاقتصادية مثل مصادر الطاقة والأسواق والصراع على مناطق النفوذ في روسيا والصين وغيرها من الدول الصاعدة، لا نجد سوى ''إسرائيل'' محركاً للسياسات والقرارات الأمريكية. وفي كثير من الأحيان تتكلف الولايات المتحدة أثماناً باهظة من دماء مواطنيها وأبنائها وخزينتها وسمعتها ومكانتها في العالم من أجل إسرائيل، بحيث تبقى إسرائيل دائماً هي ''الرابح الأول'' في السياسات الأمريكية، أما تنافس الحزبين فلا يخرج عن سياق القضايا الداخلية المختلفة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية وأغلبها اجتماعي. وفي جميع الحالات الداخلية تبقى إسرائيل هي الأساس والمنطلق، ويلعب الصوت الإسرائيلي دوراً فاعلاً ومؤثراً إلى أبعد الحدود في هذه الحالات جميعاً.
الولايات المتحدة تعلن ـ في مناسبة وبغير مناسبة ـ أنها إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، وأنها مع الاستيطان والتوسع، وكذلك مع الاستئصال الكامل لجذور الفلسطينيين. وهي هنا لا تجد نفسها تخالف القوانين الدولية، أو تعتدي على حقوق الشعوب صاحبة الحق في الأرض. وما يدفع الولايات المتحدة لفعل هذا، هو قوتها الغاشمة، ومصالحها في الشرق الأوسط. وهذا ما دفع القادة الإسرائيليين لأن يتباهوا بقوة اللوبي الإسرائيلي في صياغة وتشكيل سياسة الولايات المتحدة، حيث سمحت لهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بارتكاب المجازر والاغتيالات وهدم البيوت والعقوبات الجماعية وممارسات الإبادة الأخرى التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، حتى إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ''أرييل شارون'' تباهى مرة بتأثيره في الرئيس الأمريكي جورج بوش قائلاً: ''إن الولايات المتحدة تحت سيطرتنا''.
لقد أخذت الولايات المتحدة ـ حكومة كل العالم ـ تسعى علناً لتصفية حساباتها مع كل من كان يقف في وجه مشاريعها ومؤامراتها، ومن يعارض خططها لتصفية قضية فلسطين، وإلحاق الوطن العربي كلياً بالقرار الأميركي، وإخضاعه لهيمنة الشركاء العنصريين، ولصالح الإدارة الأميركية وإسرائيل، اللتين أعلنتا بوضوح، على لسان الرئيس السابق ''بيل كلنتون'' في لقائه مع رابين 15 مارس 1993 إذ قال: ''لقد بدأنا حواراً يهدف إلى رفع علاقاتنا إلى مستوى جديد من الشراكة الاستراتيجية: لنكون شركاء في السعي إلى السلام وشركاء في السعي إلى الأمن''. وأخذ ''الإرهاب'' يشكل سلاحاً من الأسلحة التي تشهر على العرب الذين يقاومون الاحتلال، والهيمنة الأميركية، والوجود الاستيطاني ـ العنصري الصهيوني، ويُشهَر على المسلمين والإسلام ذاته، في سياق إعلان الولايات المتحدة الأميركية ـ بعد انتهاء حرب الخليج الثانية ـ عن غزو مفتوح للآخرين، ولا سيما العرب والمسلمين، حيث قال الرئيس بوش: ''إن القرن القادم ـ أي القرن الواحد والعشرين ـ سيكون قرن انتشار وهيمنة القيم الأميركية، والسلوك الأميركي، والثقافة الأميركية''. وعزز مفسرون ومتطرفون غربيون ذلك ووضحوه بالقول: ''إنه كما شهد القرن الحالي ـ أي القرن العشرين ـ انهيار الشيوعية والماركسية، سيشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام''.
وهكذا بدأ استخدام ''الإرهاب'' سلاحاً عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ونفسياً ضدنا، لتدميرنا من الداخل، لتبرير عمليات التدمير والإبادة البطيئة التي تتم ضدنا، باسم ''مكافحته'' وتمرير كل فعل إجرامي يرتكب بحقنا، من خلال التزييف والتشويه والقفز فوق الحقائق والوقائع. فبعد العمليات الفدائية الموجهة ضد العدو الإسرائيلي داخل الأرض المحتلة وخارجها، وازدياد المواجهات حدة بين أجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية من جهة، والمنظمات الفلسطينية العاملة في مجال المقاومة من جهة أخرى، تنامت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، الجهود الرامية إلى تحديد أسباب ''الإرهاب'' ومقاومته، وازدادت معها حملات الإعلام والسياسة والتهديد، التي جعلت مفهوم الإرهاب يكاد يلتصق بالفلسطيني، والعربي، ليصبح من صفاتهما، ثم ينسحب على المسلمين فالإسلام.
وللأسف، مازال الرؤساء والملوك العرب الذين يعتبرون الولايات المتحدة دولة حليفة أو صديقة تحافظ على صلاتها ودعمها لهم، يرتكبون خطأً كبيراً ثبتت مخاطره منذ بداية القرن الماضي حتى الآن أي منذ (الشريف حسين) والحرب العالمية الأولى والدور البريطاني ـ الفرنسي في تجزئة واقتسام الوطن العربي. ومن لا يريد الاقتناع بهذه الحقيقة فلينظر إلى الدور الإسرائيلي الذي تستند الاستراتيجية الأميركية إليه ولقواعدها العسكرية في المنطقة. وحول هذا الموضوع يعترف المحلل الإسرائيلي ''لازار بيرمان'' في تحليل سابق نشره في الموقع الإلكتروني (ذي تايمز أوف إسرائيل) أن السياسة الإسرائيلية تريد من الولايات المتحدة إنجاز تقسيم وتجزئة دول كثيرة عن طريق إنشاء دول ودويلات على أساس طائفي أو إثني وخصوصاً في العراق وإيران وتركيا وسورية ومصر، ويرى ''بيرمان'' أن واشنطن قد لا تتشجع لفرض هذه السياسة في تركيا لكن التطورات المتلاحقة وظهور لاعبين صغار جدد في هذه الدول وتعزيز قدراتهم سيحمل معه النجاح لمشروع من هذا القبيل.
ويستشهد محللون إسرائيليون آخرون بحالة (الفوضى) غير المسبوقة في تاريخ دول كثيرة في المنطقة من مصر إلى سورية إلى العراق إلى اليمن إلى لبنان إلى ليبيا وتونس... ويعتبرونها الفرصة غير المسبوقة أيضاً لإعادة تشكيل الكيانات السياسية بطريقة أكثر تجزئة من أي مرحلة تاريخية ماضية. ولا أحد يشك أن إسرائيل وحدها وبقدراتها وحدودها الحالية لا يمكن أن تتولى إدارة أو تنفيذ مشروع كهذا إلا إذا ما وضعت خطته وأدارته الولايات المتحدة الأميركية.
ففي دراسة أعدها أحد الخبراء الإسرائيليين ''رالي أهاروني'' جاء أن مصر يمكن تقسيمها إلى أربع دول، واحدة منها في سيناء وأخرى مستقلة قرب قناة السويس والجهة الأخرى وثالثة تمتد حتى الصحراء على حدود ليبيا، ورابعة في الشمال، واعتمد ''أهاروني'' في دراسته على مبدأ جيوسياسي يوفر لإسرائيل تحالفاً مع (دويلة سيناء) ودويلة (منطقة قناة السويس) لأنهما ستشكلان حاجزاً جغرافياً وبشرياً ومائياً تستند إليه إسرائيل في حماية مشروعها الصهيوني. فمنذ عام 1982 نشر الصحفي الإسرائيلي ''عود يدينون'' المقرب من وزارة الخارجية الإسرائيلية، دراسة بعنوان (إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات) كشف فيها عن دعوة إسرائيلية بتحويل الجبهة الشمالية والشرقية إلى دويلات صغيرة تنشأ على خلفية طائفية واثنية تمتد من العراق إلى الأردن إلى سورية ولبنان، فتتخلص إسرائيل من هاتين الجبهتين بعد أن جمدت جبهة الجنوب التي كانت تشكلها مصر قبل كامب ديفيد، وتمكنت إسرائيل من فرض تقسيم بعد عام 2006 بين الضفة الغربية وقطاع غزة واعتبرته مثالاً يجب تطبيقه على الدول المحيطة بها بما في ذلك مصر.
وتشكل المصالح الإسرائيلية ضمن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير وتحقيق المجال الحيوي لدولة إسرائيل البعد الثاني لمرتكزات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. واللافت في تاريخ مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من الدعم الأميركي لإسرائيل، أن الجمهوريين والديمقراطيين لم يختلفوا يوماً إزاء هذا الدعم بالغاً ما بلغت خلافاتهم على مواضيع أخرى. فالإدارات الأميركية المتعاقبة التي تتشدق بحماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة في العالم، تكذب على شعبها أولاً ثم على الشعوب والأمم الأخرى بتصدير مثل هذه الشعارات الجوفاء ومن ثم هي تؤكد عبر دعمها المستمر والمتصاعد لإسرائيل على أنها الداعم الرئيسي للإرهاب العالمي، ولاحتلال أراضي الغير ونهب خيراتها وطرد شعبها منها، وعلى تأجيج سباق التسلح في المنطقة، وهذا كله يؤدي حتماً إلى قتل السلام والاستقرار في العالم، فالسلام والاحتلال ضدان لا يلتقيان أبداً.
واللافت في تاريخ المساعدات الأميركية لإسرائيل والتي بدأت رسمياً عام 1949 أن هذه المساعدات ترتفع تباعاً في زمن الحرب وفي زمن البحث عما يسمى السلام أو معاهداته، وترتفع كذلك في زمن مكافحة الإرهاب. وعنوانا المساعدات الأوحدان هما ضمان أمن إسرائيل و''حدودها'' من حروب قد يشنها عليه العرب، وكذلك تعويض مفاعيل السلام المزعوم الذي وقعت اتفاقياته في كامب ديفيد مع النظام المصري ''أنور السادات'' وفي أوسلو مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ''ياسر عرفات'' وفي وادي عربة مع النظام الأردني ''الملك حسين''.
والحقيقة المؤكدة لدينا ولدى كل شرفاء هذا العالم، أنّ التاريخ أثبتَ عبر عصوره المتواليات أن ما يخالف سنن الكون لا ديمومة له، وإسرائيل خالفت قوانين الأرض وشرائع السماء والسنن الكونية في كل ما أقدمت عليه. بل إن وجودها نفسه على أرض اغتصبتها، وشعب شردته وقتلت ما لا يحصيه عدد من أبنائه، فضلاً عما أحاقت به من مآس وويلات لا حصر لها، سوف يفضي في نهاية المطاف إلى زوالها شأنها شأن غزوات كثيرة عرفها التاريخ على هذه الديار المقدسة. فالعد التنازلي لأمريكا وإسرائيل بدأ، وإن غداً لناظريه قريب. ونعرِّج على الحالة الإسرائيلية في وقتنا الراهن، فما تعانيه هذه ليس أقل مما تعانيه أميركا، إن لم يكن أشد سوءاً، حيث إنها هي نفسها باتت تدرك أنها بدأت عدها التنازلي المفضي، في نهاية المطاف، إلى زوالها كياناً ووجوداً، من هذه المنطقة التي فرضت نفسها عليها بدعم من قوى معادية لأمتنا، لحقبة من الزمن، أشاعت فيها الموت والدمار لشعب مسالم يعيش على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، فإسرائيل تعتمد في وجودها نفسه على أميركا، وما يصيب أميركا سينعكس عليها بالقطع.
لقد تغيرت الأوضاع كلها اليوم، فها هي إسرائيل تلحق بها سلسلة من الهزائم المتلاحقة بدءاً من عام 1973، في حربها مع مصر وسورية، ثم تتلقى بعد ذلك هزيمة أخرى عام 1982 في لبنان، ثم تخرج في عام 2000 من جنوب لبنان صاغرة تحت ضربات المقاومة اللبنانية، أعقب ذلك هزيمة منكرة لها عام 2006 في جنوب لبنان، كما حدث الشيء نفسه في غزة عامي 2008/2009، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض التي لا تزيد مساحتها عن 260 كم2، المفتوحة ميدانياً وتضاريسياً، حيث لا جبال ولا غابات تقيها ضربات الطيران الإسرائيلي وقصف دباباته ومدفعيته وأسلحتها المحرمة دولياً على شعب أعزل، ولا ننسى هنا ما بدا من ضعفها المزري أمام الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، حتى أمام حجارة أطفالها ومقاليعهم.
من هنا نرى أن المستقبل ينبئ بأن هاتين الدولتين المتغطرستين تواجهان مستقبلاً مشتركاً واحداً، سوف يحيل البيت الأبيض إلى بيت أسود، كما يحيل إسرائيل إلى خبر كان، الظواهر المشهودة اليوم والمتغيرات المتسارعة على الصعيد العالمي تؤكد هذه الحقيقة. لقد تنبأ الفيلسوف العالمي الشهير ''أرنولد توينبي'' بانهيار الإمبراطورية الأمريكية، وأكد أن الأمم القوية تظل في حالة صعود مستمر إلى أن تتحول إلى أمم مستبدة طاغية، ثم تتوقف عن الصعود ويبدأ نجمها بالأفول وذلك بفعل ظهور قوى أخرى تعمل على إسقاطها عن عرش الزعامات، وهذا ما سيحصل للإمبراطورية الأمريكية مما سيجبرها على الإسراع في التقوقع داخل حدودها ويسرع من انهيارها.
لهذا فالمطلوب من بعض الحكام العرب التوقف عن لعب دور السمسار لواشنطن لبيع فلسطين والجولان وجنوب لبنان...، لاسيما وأن مواقف الرؤساء الأمريكان وبخاصة ''ترامب'' تجاه عروبة فلسطين والقدس تشكل سابقة خطيرة جداً في العلاقات الدولية، وعلى حساب العرب والمسلمين ومبادىء القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. ويجسد الانحياز الأمريكي المطلق لـ ''إسرائيل''، والذي لا مثيل له في العلاقات الدولية على الإطلاق، ذروة الاستهتار الأمريكي بحقوق ومصالح الشعوب والحكومات العربية والإسلامية...
نحن في مرحلة إعادة تكوين المنطقة لتكون على حساب العرب وبشكل تتحول دويلاتها ضمن ''الولايات المتحدة الإسرائيلية'' وتدور في فلكها، وما لم يفهم العرب العلاقة الأميركية الإسرائيلية على حقيقتها وما لم يستجمع العرب عناصر القوّة خارج إطار هذه العلاقة لن نفهم سرّ كلّ ما يجري في منطقتنا وما يتمّ تخطيطه لنا وتنفيذه ضد مستقبل أجيالنا وشعوبنا. لقد كان يقال بشأن التاريخ القديم إن سلام روما في حروبها كان سلام القبور... أما ''روما الحديثة'' فحروبها قبور ولا سلام... وما لم يعي العرب هذه الحقيقة ويتخذوا الإجراءات الضرورية كي يكونوا هم أسياد هذه المنطقة فإن العدو المتربص بهم جميعاً يهدف إلى التحكم بالمنطقة علمياً وتقنياً ومعلوماتياً وتاريخياً وجغرافياً حيث لا يكون لوجود الملايين من العرب صدى أو دور في تشكيل هويتها ومستقبلها، ناهيك عن أي دور إقليمي أو دولي يحسب له حساباً.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.