📁 آخر الأخبار

رواية العنقاء كاملة : الجزء الأخير 31 : رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي.

رواية العنقاء كاملة : الجزء الأخير 31 :  رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942  المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------

استيقظت فاطمة مبكرة على غير عادتها .. أخذت تعيد ترتيب غرفتها كيــوم تركهــا
يونس .. سألت مرجانة أن تجهز لها الحمام .. استحمت .. أخذت في ترجيل ما تبقــى مــن
شعرها الطويل .. ثم تكحلت وتطيبت .. أخرجت علبة بها قطع من القماش الحمر فركت بها
وجنتيها كما كانت تفعل وهي عروس .
كل ذلك ومرجانة مشدوهة تنظر إليها في فزع .. ظنت أن بسيدتها مسا" أو عارضــا"
من الجنون .. جلست فاطمة على الريكة .. قالت لمرجانة :
- خسارة أنك ل تعرفين أغاني الفرح .. لو كانت أمي حية لغنت لي .. لمــاذا ل تســتدعين
سكينة ؟ إن لها صوتا" جميل" .. ل بأس سأغني أنا ..
طلع القمر عالكــوادي قالوا البـلد نهبوها
هادي العروسة يا عيني طالعة تمسي عابوها
أجهشت مرجانة بالبكاء .. احتضنت فاطمة:
- لست مجنونة يا مرجانة .. الليلة جاءني يونس على ظهر جواده الشعل .. التأمت جراحه
وجراح جواده .. وإن كانت آثارها باقية تفوح منها رائحة كرائحــة المســك .. حينمــا رأى
دهشتي قال لي : 
- الشهداء ل يموتون .. لقد عرض ال عليj الحور العين .. قلت له يا رب لقد جاء في محكم
كتابك ( ول تنس نصيبك من الدنيا ) فكيف أنسى فاطمة وهي نصيبي ؟
قال ال:
- اذهب يا يونس وأحضرها .. لتكن لها مراتب الشهداء بما صبرت واحتسبت .. لتحيا معك
هنا في ظل العرش ..
 وقد جئت لخذك .
مد يده ليردفني على ظهر الشعل كما كان يفعل وأنا عروس .. هممت بــالنهوض فــأثقلني
الحمل .. قال لي :
- سأعود غدا" .. ستكونين خفيفة كالفراشة .. وستتركين أهل الدنيا للدنيا .
لوح بيده ولكز جواده .. طار به إلى الفق البعيد .. ناشرا" عرفه البيض كالسحابة .
خيم الصمت برهة .. كانت مرجانة تحاول التقاط أنفاسـها المبهـورة حيـن تـابعت
فاطمة :
- مرجانة ! سيكون المولود أمانة في عنقك .. كوني له أما يا مرجانة .. فوال لو كـان لـي
أخت شقيقة لما زادت عما فعلته من أجلي شيئا" .. أنت ومبارك وجوهر كنتم لي نعم الهل ..
فكونوا للمولود أيضا" .
رفعت يديها الناحلتين إلى السماء وهي تدعو :
- اللهم احفظ من حفظني .
حلت السكينة على قلب مرجانة فابتسمت والدموع في عينيها .
حينما أخبرت جوهر ومبارك في اليوم التالي .. رق جوهر حــتى أشــرقت عينــاه
بالدمع .. أما مبارك فأخذ ينكث الرض بعود في يده .. وهمس في أسى :
- حتى أنت يا فاطمـة .. ستلحقين بالراحلين من الهل .. كيف ســتطيب لنــا
الحياة بعد كل ذلك .
مع الفجر أخذ جوهر ومبارك يعدان السلح للرجال في البايكة .. حان الرحيل إلــى
عكا .. سمعا جلبة وأصواتا" تقترب .. حمل كل منهما غدارته واتجها إلى الخارج .. أبصــرا
رضوان البطش ومعه عدد من الرجال الذين أوفدهم مبارك لنصب الكمائن للفرنســيس فــي
طريق عكا .
- الفرنسيون ؟
- ما بالهم ؟ 
- انكسروا .. إنهم ينهزمون عن أسوار عكا ويعودون أدراجهم إلى مصر .. الهالي وعــدد
من رجالنا يتابعون الجيش المنهزم .. ينهبون ما تصل إليه أيديهم مـن السـلح .. والثيـاب
والمؤن .. ويوقعون به كثيرا" من الخسائر .
ركع جوهر على الرض رافعا راحتيه إلى السماء :
- الحمد ل المنتقم الجبار .. الن تقر عظام يونس في التراب .. ما أعظم هذا اليوم .
نهض يعانق مبارك ورجاله .. دعاهم لدخول المضافة .
- سأسقيكم قهوة النصر .
أشعل جوهر النار ووضع البكارج عليها .. التف حوله رجال مبــارك كــأنهم أســد
الشرى .. ألقم جوهر بكرج القهوة .. أخذ يراقب البن حتى ل يفور .. فجأة سمع صراخ طفل
وليد يشق هدأة الليل .. ثم صوت مرجانة تهتف :
- إنه ولد .
فاحت رائحة المسك .. سمع حفيف كحفيف أجنحة الملئكة .. صهل حصان عرفــه
جوهر :
- هذه صهلة الشعل .
ابتسمت فاطمة .. شـخصت ببصرها إلى الباب .. همست بصوت واهن :
- يونس ؟
مدت ذراعا" بيضاء نحيلة .. مثل شمعة على حائط السيد هاشم .
- هل تأخرت عليك ؟
سقط ذراعها إلى جانبها .. صرخت مرجانة بصوت وحشـي يحطم القلب :
- سيدتي ..
 جوهر ترك القهوة تفور على النار .. خرج إلى الساحة مجيل" بصره في الفضاء ..
لم يتبين في زرقة الفجر .. سوى سحابة فضية دنت حتى لمست أكتاف شجيرات الليمون ..
تأملها جوهر وهتف :
- يونس .. أنت هنا ؟ خذني أنا أيضا" .. أنا أخوك .
مد ذراعيه باتجاه السحابة .. لكنها أخذت ترتفع شيئا" فشيئا" حتى غابت في الفــق ..
مخلفة سماء صافية تلتمع فيها الكواكب .
- في جيرة ال .. سلمولي عالنجاشي .
تهالك على الرض وهو ينشج .
هزه مبارك برفق :
- وحد ال يا جوهر . 
- ل إله إل ال .. إنا ل وإنا إليه راجعون .
التفت .. رأى مرجانة تقف بالباب مذهولة تحدق فيه :
- إليj بالطفل يا مرجانة .. إليj بالطفل .
لفته مرجانة بخرقة وناولته لجوهر .. قبله جوهر بين عينيه .. ضمه إلى صدره .
- سنسميه عبد الوهاب .. سبحان الذي وهبه لنا من الموت .
أعولت مرجانة :
- ل أصدق أن سيدتي ماتت .
- بل ماتت منذ استشهد أخي .. أل تدركين ذلك أيتها الحمقاء .
أشار إلى مبارك :
- أرسل في طلب سكينة .. لكي تجهز عروس يونس .
???
انجلى الطاعون عن غزة شيئا" فشيئا" .. توقفت عربات دفن الموتى عن الطواف فــي
شوارع المدينه .. غسل المطر آثار الطاعون وآثار الفرنســيين أيضــا" .. ابتعلــت الرض
الموحولة جثثهم على طول الطريق من عكا إلى القاهرة .. بدأ الناجون بحياتهم طريق العودة
إلى حاراتهم وبيوتهم
رحب جوهر بالعائدين من الفلحين على أرض يونس .. وهنأهم بالسلمة .. وعزاهم
في من فقدوا من الهل والعشيرة .. أقامهم على نفس الشروط التي أقرها يونس .. لم يغيــر
ولم يبدل .. أما الذين أخذهم الطاعون فقد أحل منهم البناء مكان الباء .. والزوجات مكــان
الزواج إذا كان البناء قصرا" .. وظل بارا" بهم بر يونس .. أقرضــهم القمــح والشــعير ..
سامحهم في الديون المتخلفة عليهم .
أسبغ عليهم حماية سيفه حين حاول قطاع الطرق التحرش بهم .. أكبروا له ذلك.. ودانوا لــه
وللسيد الطفل بالولء .
ثم ما لبث أن خطب مرجانة :
- أتقبلينني زوجا" .. نشدتك ال أن توافقي .. ليس من أجلي أو من أجلك .. ولكن مـن أجـل
عبد الوهاب .. يجب أن ينشأ الطفل في عائلة .. وبين أبوين كباقي الطفال .
هجمت مرجانة على يديه تقبلهما .. فقال لها : 
- هل تعاهدينني على الوفاء لسيدي وسيدك يونس حتى الموت ؟
هزت راسها والدموع في عينيها :
- مبارك صار شيخا" لحارة التفاح مكان أبيه .. تزوج ليلى بنت سالم .. ورعى من بقى حيــا
من أولده .
حين زار جوهر حارة التفاح استقبله مبارك في المضافة .. كان مهموما" وعلى وجهه
سحابة من الحزن .
أراد جوهر أن يستوضحه جلية المر .. لكن المضافة كانت تضيق بالحاضــرين ..
أجلسه مبارك حيث كان يجلس يونس .. قدم له فنجان القهوة .
- ليست كقهوة وادي الزيت .. لكنها جهد المقل .
ارتشف جوهر القهوة :
- سلمت يداك .. صدق من قال قهوة شيوخ .
قال فرج السويسي لبي غوش :
- من رآك تبكي نساءك وأولدك الذين أخذهم الطاعون حسب أنك ســتحزن عليهــم مــدى
الحياة .. لكنك قبل الربعين تزوجت زينب البتير .. أرملة ابن عمي جواد .
- يشهد ال أنني حزنت عليهم في السبوع الول .. حزنا" تمنيت معه أن أموت والحق بهم ..
وفي السبوع الثاني قلت في نفسي : ما الفائدة ؟ ل حزنك ول موتك أيضا" سيعيدهم إليــك ..
في السبوع الثالث فكرت أنني في الستين .. لم يعد أمامي طويل وقـت إذا كنـت أنـوي أن
أخلف من جديد .. وأطلب العوض من ال .. ثم رأيت زينب على حوض الجماقية .. قـررت
أن أخطبها قبل أن يسبقني إليها الطاعون أو يسبقها إلي .
سأله رضوان البطش وكان يحب مداعبته :
- وكيف وجدتها يا عماه ؟
ابتسم ابوغوش للمداعبة .
- أحلى كنافة صنعها مراد البتير طوال حياته .
- تابع رضوان مازحا" :
- أهي معمرة بالجوز ؟
شخر أبو غوش شخرة عصماء اضطربت لها عبس وذبيان .
- ولك إللي بل جوز أنا جوزها .
دخل نظمي أفندي الكلغاصي مهرول" .. ألقى التحية وجلس يلهث .
تلفت حواليه بحذر قبل أن يهمس :
- فيكم من يكتم السر ؟ 
- سرك في بير يا نظمي أفندي .
- الجزار ضبط مراسلت بين بونابرته وبين أمين خزينة الولية المعلم فارحي .. فقطع أنفه
وأذنيه وسمل إحدى عينيه .
- ولماذا لم يجهز على الخائن ؟
- وعده بالجهاز عليه .. حين يجد من يرضى باستلم الخزينة مكانه .
- لماذا لم ترشح نفسك لها وأنت صاحب قلم يا نظمي أفندي ؟
- أعوذ بال .. ما تولى أحد خزينة الجزار وبقي حيا" .. حين يذكرها الناس في عكا يقولون (
كل من عليها فان ) .
رشف نظمي أفندي قهوته .. ثم تابع :
- هل تعلمون من عاد إلى غزة اليوم ؟
- من يا نظمي أفندي ؟
- رشيد عليان .. الذي هرب إلى الشام بعد سقوط غزة .. أخبرني أن تيمور الضرغام وجــد
مقتول" في أحد الخانات .. اختفى غلمه يلماز واختفت معه صرة الذهب التي كــان تيمــور
يلفها حول وسطه .
تثاءب الحاضرون .. لحظ نظمي أفندي أن مبارك كان ساهما" .. ولــم يبــادله الحــديث ..
استأذن وانصرف .
شيعه جوهر بنظراته حتى اختفى :
- حسبت أنه سيلقي مصير القاضي معروف .
رد مبارك :
- نظمي أفندي اتخذ الحيطة .. راسل الجزار سرا" بأخبار الفرنسيين فنجا برأسه .
دخل عطية ابن شهوان المضافة وسلم على جوهر .. احتضنه جوهر وقبله .. اتجــه
إلى حيث يجلس جده الشيخ محمود .. تربع إلى جواره .. ربت جده على كتفه :
- عطيه هو الطفل الوحيد الذي يسمح له مبارك بدخول المضافة .. إنه وشقيقه قــرة عينــي
وتسليتي في وحدتي بعد رحيل جدتهما .
ثم قال كمن يحدث نفسه:
- لقد رفضت أمهما الزواج بعد استشهاد شهوان .. تظن أنني كنت أكرهه .. وال لقد أحببته
طوال الوقت .. لكن شوفة النفس منعتني من إظهار ذلك .
رق رضوان لحزن الشيخ محمود .. أراد أن يغير الحديث .. قال لجوهر :
- كنت في السوق اليوم .. كيف رأيت غزة ؟
قبل أشهر كنا ننظر باتجاه غزة من تلة الوادي فل نرى بصيصا" واحدا" من النور .. أمــا الن
فقد عادت هذه المدينة العتيقة تتوهج وتنبض بالحياة .. تلتمع أضــواؤها فــي ظلمــة الليــل
كالثريات .. أما الزحام الذي رأيته في السوق اليوم فشئ ل يصدق .
أين كان كل هؤلء الناس؟! .
قال رضوان الذي فقد جده وأعمامه :
- حسبت أن الطاعون لم يترك أحدا" .
ابتسم جوهر :
- وأنا لو لم أعرف اسماء الذين أخذهم الطاعون .. لقلت أنه لم يأخذ أحدا"
نهض أبو غوش وهو يفرك كفيه :
- عليكي وحشة يا بنت البتير .
نهض الحاج محمود وهو يستند إلى عطيـة .. ألقيا التحية وانصرفا .. تبعهما فــرج
السويسي .. همس جوهر في أذن مبارك :
- أراك مهموما" هذه الليلة .
هم رضوان بالمغادرة حين سمع تهامسهما .. أشار إليه مبارك :
- لست غريبا" يا رضوان .. اقترب منا فل أسرار عليك .
اقترب رضوان .. ناول مبارك فنجان قهوة لكل منهما .. ارتشفا قهوتهما في انتظــار
حديث مبارك .
- أرسل الجزار متصرفا" جديدا" لغزة .. معه بالضافة إلى أمر تعيينه أمرأً بإلقاء القبض على
تاج الدين وإيداعه السجن :
رقصت شوارب رضوان وصاح جوهر :
- سنمنعه بسيوفنا .. ألم تكن هذه رغبة يونس ؟
- إهدأ يا جوهر .. تاج الدين يرى أن الـوقت ليـس ملئمـا" للعصـيان وأن البلد تحفهـا
المخاطر .. الفرنسيون مازالو في بر مصر .. والنجليز على سواحل الشام .
- كيف يسـجنون رجـل" طاعنـا" في السـن مثله .. أخاف وال أن يموت في السجن .
- يقول تاج الدين أن العمر سيمتد به حتى يشهد نهاية كل الطغاة .
- ونحن يا مبارك .. هل نسند رؤوسنا على أيدينا في انتظار ذلك اليوم ؟
لشدما تغير تاج الدين .
- تاج الدين أعطى كل ما عنده .. أدى رسالته كاملة .. وليس من العدل أن نطلب منه المزيد
.. لقد وضع أقدامنا على الطريق .. علينا أن نعتمد على أنفسنا في إكمـال مـا بـدأه .. وأن
نواصل المسيرة حتى نبلغ الغاية أو نهلك دونها .
- وما الغاية يا مبارك ؟ 
- الحرية والعدل .. لقد حكمنا التراك بإسم الدين ثلثمائة سنة .. لم يفتحوا خللها مدرسة ..
ولم يعبدوا شارعا" .. ولم ينهضوا بصناعة أو زراعة أو تجارة .. أو علم .. أو فن أو أدب ..
أخضعونا لسلطانهم بدعوى أنهم حماتنا من الكفار .. أما وقد عجزوا حتى عن هذه .. فما عاد
لسلطانهم في أعناقنا بيعة ول ذمة .. هذه أرض العرب .. ولن يحميها غيرهم .. لقد انتزعنـا
أرضنا من أنياب بونابرته .. ولن نسلمها لي طاغية آخر .
???


 رواية العنقاء كاملة :الجزء 30: