📁 آخر الأخبار

هل تراثنا فقير أم نحن لا نجيد الاختيار؟ خالد جمعة

شغلتُ منصب عضو هيئة إدارية في فرقة للدبكة الشعبية أطلقنا عليها اسم "فرقة الجنوب للفنون الشعبية"، ولم تكن فرقة عادية، ليس بمعنى أنها فرقة ليس لها مثيل، ولكن بمعنى أنها فرقة تم تثقيف أفرادها بشكل تميز عن معظم فرق الدبكة، فكان كل فرد فيها يعرف ما تعني كل حركة، وكل غرزة في ثوب، وكانت لدينا مكتبة تراثية نجبر أعضاء الفرقة على قراءة الكتب فيها، لكننا مع ذلك، كنا نقدم ما تقدمه بقية الفرق، والذي انحصر في دبكات الدلعونة وظريف الطول وجفرا والطيارة وبقية الدبكات الفلسطينية المعروفة.

في أحد عروضنا على مسرح من مسارح غزة "قبل أن يتم إحراقه في موجة غضب جماهيري ضد الفن"، حضر مجموعة من الألمان مع المخرج رشيد المشهراوي، وشاهدوا العرض كاملاً، وقالوا لي بعد انتهاء العرض: نحن نحب التراث الفلسطيني ونتابعه من دولة إلى دولة حين نستطيع ذلك، ولكن على قدر ما شاهدنا من عروض، فإننا دائما نشاهد نفس نوع الدبكة ونفس الموسيقى، دلعونة، جفرا، ظريف الطول...إلخ، فهل هذه هي الموسيقى الوحيدة في تراثكم الفلسطيني؟

استوقفني السؤال، بل استفزني، فهل هذا الرجل لديه حق فيما يقول؟
بدأت بعدها رحلة البحث عن موضوع لكتابة عرض جديد للفرقة، فتوصلت إلى فكرة البحر، وكنت متخوفاً من شيء واحد، أنه من المؤكد أن كثيرين عملوا عن البحر، فماذا سأضيف؟

رحت أبحث في الكتب، وفي أشرطة الموسيقى، في الصحف، أسأل الفرق المعنية بالدبكة، وفوجئت بأنه لم يقم أحد بإعداد شيء عن البحر، فنيا أقصد، كان هذا محزنا ومفرحا في ذات الوقت، محزناً لأنني لم أجد ما أستند عليه، ومفرحاً لأن العرض سيكون جديداً من نوعه.

حسب اتفاقي مع إدارة الفرقة، صرنا نتوجه إلى الصيادين كل جمعة تقريباً لمدة عام ونصف، نتحدث معهم ونراقب حياتهم ونسجل أغنياتهم ومشاعرهم وطريقتهم اليومية في الحياة، فاكتشفنا كنزاً هائلاً لم يلتفت إليه أحد تقريباً، وقد ساعدنا ذلك كثيراً في إعداد العرض لاحقاً، وقد حمل اسم "بحرك غزة"، وقد قمت بكتابته ووضع له الموسيقى الفنان ياسر عمر وصمم حركاته محمد شاهين.

بعدها بسنوات أقوم بإعداد بحث عن الأغاني الشعبية الفلسطينية في قطاع غزة وأغاني الصيادين، ونشرته في كتاب يحمل نفس الاسم، تمت طباعته مرتين، لأكتشف من خلاله كمّاً هائلاً من التراث الفلسطيني الغائب، الذاهب إلى الجمال بثقة الملوك، ولكن لماذا لم يتم الالتفات إلى هذا التراث، لماذا تمسكنا بالدلعونة وظريف الطول وجفرا ويا غزيل يا بن عمي؟

بالطبع، أستطيع الآن أن أجيب سؤال الوفد الألماني بكل ثقة، أن تراثنا الفلسطيني ليس فقيراً، لكن المسألة تتعلق بمن لا يجيدون الاختيار، أولئك الذين يذهبون إلى الفن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الوقوف لحظة للبحث عن جذورهم، على الأقل تلك الأغاني التي تحفظها الأمهات والآباء، ففرقة الدبكة لديهم هي عبارة عن مجموعة تقف على المسرح لتؤدي حركات راقصة، دون الوعي بما تحمله هذه الحركات من رسائل وإشارات، وبالطبع أستثني بعض الفرق التي ذهبت إلى هذا التأريخ منذ انطلاقها، لكن هذه الفرق قليلة، ويمكن تعدادها على أصابع يد واحدة.

من المستحيل تخيل حضارة عمرها عشرة آلاف عام، أن ينحصر تراثها في عشر أغانٍ أو أقل، فقد غنت على هذه الأرض جميع الحضارات التي مرت وأنشأت واقعها، فقد غنى فيها ولها الجليليون والأنباط والسامريون والإيدوميون والأخمينيون والفينيقيون والرفائيون والأراميون والجرجاشيون والمِدْيَنيون والفلسطيون واليبوسيون والمؤابيون والحوريون والحثيّون والفرزيون والكنعانيون والخابيرو والعموريون وغيرهم، وجميع هؤلاء كان لهم دور في بناء التاريخ الفلسطيني المتراكم منذ أول مدينة عرفها التاريخ، ومع ما أنتجته هذه الحضارات، فمن المؤكد أن الارتباط الشعبي بالفنون قد قام بتطويرها والزيادة عليها والاستفادة منها مما جعلها تتضاعف إلى حدود لا نهائية، إنما المشكلة تكمن بشكل أساسي في البحث عن هذا التراث وإخراجه من تابوته وتلميعه وتقديمه من جديد.

لا يمكن لشعب من الشعوب أن يعلن تمسكه بوطنه دون أن يتم تغذية صغاره بحقهم في هذا الوطن، بدون أن يغرس في أبنائه أن حقهم في هذه البقعة من الجغرافيا ليس قادماً فقط من ملكية أبيه وجده لقطعة أرض هنا أو هناك، بل من امتداد جذوره إلى مئات وآلاف السنوات داخل كل ذرة رمل وكل حبة قمح وكل ورقة شجرة وكل صخرة وكل جبل وكل نقطة ماء في بحر أو نهر، وكل نَفَسِ هواءٍ يمرُّ منها، هذا الغرس لا يمكن إتمامه إذا لم يعِ الغارس نفسه تراثه، هذا التراث الذي تشكَّلَ تراكمياً عبر طبقات الوقت الكثيفة فوق أرض فلسطين، مما جعلها أرضاً بطعمٍ مختلف رَغِبَ فيها الغزاة منذ فجر التاريخ، فلماذا إذن نتخلى عن كلِّ هذا التراث الذي لا يشاركنا فيه أحد؟