📁 آخر الأخبار

بصقة في الوجه

مجلة أضواء - بصقة في الوجه
كان الجو ماطرا عندما تناثرنا في مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي في شارع "الهَوَجة" وسط مخيم جباليا، وهو الشارع الذي انطلقت منه انتفاضة كانون أول 1987، ويقطن فيه صديقي شهيد الانتفاضة الأول حاتم أبو سيسي.
الأمطار تنهمل على الشوارع الترابية والأسقف الأسبستية للأكواخ التي تسمى بيوتا، تسيل المياه من أخاديد الألواح الأسبستية في الشوارع والأزقة لتتحول الشوارع إلى مستنقعات صغيرة، نمشي بينها قفزا ونحن نفتش بعيوننا عن جزء فوق الماء كي لا تبلل أحذيتنا (معظمها forza) و"الجرابين المخزوقة".
وصلنا طرف الشارع من الجهة الشرقية، يقابلنا جنود "جفعاتي" الذين ارتبط اسمهم ارتباطا شرطيا بتكسير عظام الفلسطينيين وفقا لأوامر وزير الدفاع آنذاك إسحق رابين.
كان الجنود يغطون رؤوسهم بخوذ حديدية يهبط منها جدار بلاستيكي شفاف مضاد للحجارة، يحملون بنادق "ام 16" أو "جاليليو" وبنادق قنابل الغاز والهراوات والكراهية.
كنت أحاول التمركز بجانب أحد الأزقة كي أفِل عند حدوث أي طارئ، يلقي الشبان الحجارة والشتائم التي أفهم بعضا منها، "يا سمارتوت/ ممسحة"، "ليخ لعزازيل/ إذهب للجحيم"، "يابن زونا/ يا إبن العاهرة"، "ايما أتا غيفر تِزروك هنيشك و بو/ إذا أنت رجل ألق بسلاحك وتعال"، "يا خرا" ... من أشهر الشتائم كانت "إيما أتا غيفر ليخ تشمور بكريات شمونة يا منيك"، أي، إذا كنت رجلا فاذهب للحراسة في "كريات شمونة" (في إشارة لعملية الطائرة الشراعية بقيادة الشهيد خالد عكر قُتل فيها جنود 8 إسرائيليون وهرب الحراس في نوفمبر 1987).
لم يطلق الجنود قنابل الغاز لأن اتجاه الريح لم يكن في صالحهم، ألقينا بعض الحجارة والشتائم، وكنا ننتقي الحجارة وفقا للمسافة الفاصلة، فكلما ابتعدت المسافة كلما صغر الحجر، تناولت حجرا مدببا عبارة عن قطعة بلاط، قبل أن أرفع يدي لقذفه أطلق الجنود دستات من الرصاص "المطاطي" أدرت ظهري متوجها نحو الزقاق (بين دار الأشقر ودار عنبر) للهروب، فتدفق زهاء عشرة جنود من الزقاق اصطدمت بأول من خرج منهم ووقعنا على الوحل، وقال أحدهم "إينو"/ أي "ها هُو"، شعرت بأنني wanted رقم 1 في العالم.
هجم المفترسون على القصعة، في الثواني الأولى كنت قد تلقيت عشرات الضربات بالهراوات قبل أن أتنفس. وضعت يداي على رأسي وضممت ركبتيّ إلى بطني وأتدحرج في الوحل ما استطعت يمينا ويسارا والجنود يتزاحمون ويتسابقون من سينال مني أكثر، عشرات الضربات تلقيتها على مختلف أنحاء جسدي، التزاحم ساعدني في اختزال عدد الضربات، فكانت بعض الهراوات تنزل على زميلاتها، إنكسرت واحدة، وربما أكثر، لا أعلم بسبب ارتطامها ببعض أم لأن "عظمي قاسي"، استمر الضرب عدة دقائق كانت أطول من عدة قرون، تواصل الضرب وأنا أتفعفل في الوحل، تمرغ وجهي وشعري بكوكتيل ماء مجاري مع ماء مطر مع رمل وما يفلت من بساطير الجنود، فمن لم يحظ بفرصة الضرب بالهراوة كان يضرب شلوتا في الوجه أوالبطن أو المؤخرة.
لملم الشبان أنفسهم وعادوا يرمون الحجارة على الجنود للتخفيف عني، وليتهم ما فعلوا، قسَم الجنود أنفسهم قسمين، قسم يتعامل مع الشبان فيطلق عليهم الغاز والرصاص المطاطي، الحجارة تنزل قربا مني، والضرب متواصل، بت أخشي أن يهوى حجر على رأسي، صرت أتمنى أن ينقلعوا. انفرد 4 جنود ضربوني حتى أُنهكوا، يمسك جندي براحة يدي يفرد ذراعي وينهال الآخر بالهراوة مع تركيز على الكوع، يمسك آخر قدمي يمد ساقي وينهال اثنان بالهراوات بتركيز على الركبة، وهكذا، وأنا أصرخ، ضربوني حتى لم أعد أشعر بالألم، حتى خارت قواي ولم أعد أستطيع أن أصرخ.
جاءت امرأة تدفع الجنود تحاول جرّي من بين أيدي الجنود والوحل، دفعها جنود الاحتلال بعيدا لكنها لم تستسلم، انضم اليها أخريات، ازداد قذف الجارة باتجاههم (واتجاهي)، أطلقوا النار في الهواء، ورصاص المطاط باتجاه الشبان، جاء جنديان آخران، أحدهم إنهال عليّ بعقب بندقيته، اللعنة، إنها مؤلمة أكثر من الهراوة... ثم جاء أحدهم، انحنى قرب وجهي، رفع الغطاء البلاستيكي عن وجهه فانكشف وجه أبيض محمر يقطر كرها، القاطعان الأماميان في أسنانه طويلتان، عيناه عسليتان، ضعيف الوجه، شعر وجهه خفيف، أمسك بشعري من خلف الرأس عقد حاجبيه وكشف عن أسنان غير نظيفة ورَطَن بالعبرية كلاما لم أفهمه، ثم بصق في وجهي.
نسيت الضرب، والوحل والهراوات وأعقاب البنادق والحجارة ونسيت فلسطين، تألمت من البصقة أكثر من كل ما سبق، للوهلة الأولى شعرت وكأنه اغتصبني، شعرت أن كومة نجاسة سرمدية التصقت بوجهي. كومة من الخراء الأزلي الذي لا يزول بكل مساحيق التنظيف في العالم... اللعنة، ما هذا العقاب... بعد أن تحولت إلى خرقة هامدة صامتة بين الوحل، وصلت مركبتان عسكريتان كبيرتان "البَوَر" أمامهما جيب عسكري صغير نسميه "صرصور" وغادر الجنود.
جاءت سيارة اسعاف تابعة للأونروا نقلتني إلى المستشفى، خضعت للعلاج وهناك كل ما تسنح لي الفرصة أطلب من أخي عادل أن يمسح وجهي بالكحول فيضحك بألم. عدت للبيت، أدعك وجهي بالصابون عدة مرات في كل مرة أغتسل فيها، ويهزأ بي عادل "غسّلت وجهك"؟