ورود غزة وعيد الحب
عندما زرت أوروبا لأول مرة عام 1995، فوجئت بأن هناك ما يسمى "بورصة الورد" في مدينة أمستردام الهولندية، ولكم أن تتخيلوا مكاناً تجتمع فيه كل ورود العالم، وكان هناك مكان لورود "إسرائيل"، فأحسست بالغيظ الشديد، وبعد أن مشيت قليلاً وأنا أشاهد ورداً من الصين إلى أمريكا اللاتينية، فوجئت مرة أخرى بأن هناك وروداً من غزة.
لا يتوقع أحد، من لا يعرف طبعاً، بأن غزة، المدينة التي لا يسمع بها أحد إلا عبر شهدائها ومبانيها المدمرة، يمكن أن تصدر الورد إلى العالم، وإلى أوروبا تحديداً ملكة الورود على سطح الأرض.
لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة، بل أخبرني رجل يعمل هناك أن الورود التي تأتي من غزة تتمتع بجودة عالية، ومطلوبة من الزبائن الذين يزورون البورصة.
وكعادة الاحتلال الإسرائيلي في مقاومة كل ما يمكن أن يثبت إنسانية الفلسطيني، فقد شمل الحصار على قطاع غزة حصاراً على الورود كذلك، وأذكر أن مزارعي الورد في فترة من فترات الحصار الشديد اضطروا أن يطعموه للأغنام.
منذ خمس سنوات لم تخرج وردة من غزة إلى أوروبا في عيد الحب، غزة التي كانت تصدر سنوياً خمسين مليون وردة، لم يعد لها الآن غير سوقها الداخلي.
كانت غزة تزرع الورد بأصناف عديدة، على الأخص في مناطق الجنوب ـ رفح ـ ومناطق الشمال ـ بيت لاهيا ـ، وتقلصت المساحة الزراعية الخاصة بالورد من 600 دونم إلى 37 دونماً، ليس هذا فقط، بل إن تجار الورود في غزة أصبحوا يستوردون الورد من الداخل الفلسطيني بعد أن تقلصت مساحة زراعته بسبب إجراءات الاحتلال ووقوفه في وجه تصديره إلى أوروبا، وقد توقفت زراعة الزهور تفادياً للخسائر الاقتصادية.
في فيلمه الوثائقي "قوس قزح" الحائز على عدة جوائز، قدم المخرج الفلسطيني عبد السلام شحادة مشهداً حقيقياً لعدد من الجثث المكفنة بالأبيض داخل إحدى ثلاجات الورد في مدينة رفح، بعد أن حاصر الجيش الإسرائيلي منطقة تل السلطان غرب رفح، ولم يعد بالإمكان إخراج جثث الشهداء إلى ثلاجات المستشفيات، كانت حوالي عشر جثث، ومزارع يمسك بالورود الذابلة التي اضطروا لإخراجها من الثلاجة كي يضعوا جثث الشهداء مكانها، ويقول: هذا ما نصدره للعالم، وهذا ما تصدره لنا إسرائيل، لقد كان مشهداً مؤثراً ومعبراً، حين يأتي الموت، على الورد أن يذبل، هكذا قرأت المشهد، وهكذا هو المشهد على حقيقته.
قلت كثيراً إن هناك ما لا يرى في مشهد الحرب والحصار في غزة، ولعل ما يحدث من توقف زراعة الورد وتصديره بسبب الحصار، لهو أبلغ دليل على ذلك، فغزة الآن بلا ورود، وربما هذا آخر ما يفكر فيه من ينظر إلى غزة بمبانيها المهدمة، ومقابرها الممتلئة بطبقات من الشهداء.
بقلم المبدع خالد جمعة