من سمات العلاقات الدولية- منير شفيق
الأربعاء، 28 ديسمبر 2016 03:31 م
لعل من أهم السمات العالمية والإقليمية الجديدة تتمثل ببروز نمط جديد من المحاور التي لا تشبه نمط المحاور التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية أو قبلها. ولا يجفو الحقيقة من لا يوافق على اعتبارها محاور. فالعلاقات بين الأطراف التي يضمها هذا المحور أو ذاك أقرب إلى التقاطعات منها إلى التحالف بالمعنى التقليدي. ولكنها، في الوقت نفسه، قد تقترب أحياناً إلى شبه التحالف القوي ما بين طرفين في المحور، أو تقترب إلى ما يشبه التضاد ما بين طرفين في المحور نفسه وفي الآن نفسه.
لعل التوصيف الدقيق لعلاقات روسيا بوتين خلال الثلاث سنوات الماضية بالدول المختلفة، بما فيها الدول التي قد تعتبر في حالة محور معها، يعطي نموذجاً للسمة العالمية والإقليمية الجديدة المشار إليها.
فعلى سبيل المثال، يتشكل "محور" شنغهاي، واسمه الرسمي منظمة "تعاون شنغهاي"، من الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وأربعة مراقبين: إيران وباكستان ومنغوليا والهند. وهو ما لا ينطبق عليه ما كان ينطبق على محور (حلف وارسو) أو محور الأطلسي (حلف الناتو). فهو من جهة لا رأس قائداً له يتحكم بالمحور فروسيا والصين تعتبران، وبمستوى ندّين، على رأس المحور فيما علاقة كل منهما متراوحة بين التحالف والتضاد بالنسبة إلى الأعضاء الآخرين. فمثلاً علاقة الصين بالهند لا يمكن أن توصف بالجيدة أو حتى بالعادية، فيما الهند تقيم، في الآن نفسه، علاقات استراتيجية مع أمريكا، كما أُعلِن بعد زيارة الرئيس الأمريكي أوباما لها. وكذلك علاقة إيران مثلاً بكلٍ من روسيا والصين تفترض النديّة والتقاطع أكثر مما تفترض التحالف، وإن كانت في بعض القضايا ترتفع إلى مستوى التعاون الاستراتيجي في الآن نفسه. ناهيك أيضاً عن سوء علاقات الهند بباكستان.
على أن روسيا، في الآن، تفتح الباب على مصراعيه لحوار ثنائي مع أمريكا. كما أوروبا وتقيم علاقات تعاون عالية المستوى مع الكيان الصهيوني. وكذلك تفعل الصين مع الكيان الصهيوني فيما تذهب علاقاتها بأمريكا نحو التأزم.
هذا وتعمل روسيا على إقامة علاقات استراتيجية على مستوى عالٍ مع تركيا في مجالات الاقتصاد والغاز والتعاون عموماً. وتسعى إلى التنسيق مع تركيا وتطويره في سورية، فيما إيران تقيم علاقات قويّة مع تركيا في مجال الاقتصاد والعلاقات بعامة وهي في تناقض شديد معها في كلٍ من العراق وسورية. ولكن بالرغم من ذلك فقد يشكل لقاء روسيا – تركيا – إيران في موسكو مرحلة جديدة إذا نفذ ما جرى من اتفاق على رعاية حوار سوري- سوري في آستانا عاصمة كازاخستان. فقد اعتبرت هذه الخطوة بديلاً للتعاون الروسي- الأمريكي وبديلاً عن جنيف في رعاية الحوار السوري- السوري. ولكن روسيا أعلنت في الوقت نفسه أن جنيف والرعاية الأمريكية- الروسية لحوار سوري - سوري ما زالا قائميْن.
هنا تتبدى صورة للعلاقات الدولية وللمحاور لا تشبه في شيء ما قام من علاقات دولية ومحاور وأحلاف في المراحل السابقة، لا سيما في مرحلة الحرب الباردة.
وبعد أن صدر بيان اللقاء الثلاثي الروسي – الإيراني- التركي دعا الناطق الرسمي الروسي وهو جادّ، إلى انضمام السعودية إليه للمشاركة في إيجاد حلّ في سورية. وذلك بالرغم مما بين الموقف الإيراني وحتى الروسي نفسه من تناقض مع الموقف السعودي في سورية أو اليمن. وهي دعوة جادّة تستند إلى ما بين كلٍ من إيران والسعودية من علاقات إيجابية وقويّة مع روسيا. كما يستند إلى ما اتسّع من خرق في العلاقات الأمريكية- السعودية.
الظاهرة الجديدة هنا أن روسيا تستطيع أن تبني أقوى العلاقات مع دول بينها صراعات قد تصل إلى حالة الحرب. وذلك في آن واحد. أما المكمّل لهذه الظاهرة فهو قبول الطرفيْن المتحاربيْن، ولو على مضض، أن تقيم روسيا علاقات مع كلٍ منهما.
الأمر نفسه يتكرر في علاقات كلٍ من روسيا والصين بالكيان الصهيوني وبإيران، في الآن نفسه فيما يقبل الطرفان العدوان (إيران والكيان الصهيوني)، عملياً، ولو عن غير رضا من روسيا والصين أن تفعل ذلك.
إن أمريكا وبسبب فقدانها لاستراتيجية دولية محدّدة المعالم ومتماسكة فيجري كل ذلك أمام عينيها، وعلى حساب تحالفاتها التاريخية، ولا تفعل شيئاً ولا تنبس ببنت شفة، ولا سيما فيما يتعلق بعلاقات روسيا بكلٍ من تركيا والسعودية، بما في ذلك تعظيم فلاديمير بوتين لدور روسيا في سورية والبحر المتوسط وأوروبا وشرق أسيا وصولاً إلى أمريكا اللاتينية.
وهذا الوضع بدوره لا يشبه في شيء ما كانت عليه أمريكا ومواقفها من المحاور والعلاقات الدولية في مرحلة الحرب الباردة.
ففي مرحلة الحرب الباردة كانت أمريكا وكان الاتحاد السوفياتي يقيمان المحاور تحت قيادتهما وهيمنتهما. أما المحاور التي تتشكل اليوم فلا تقوم على أساس دولة تقود وتهيمن. فالعلاقات الاستراتيجية، أو علاقات التعاون والتنسيق بين دول حلف، أو منظومة، أو محور، تقوم على أساس التقاطع والاختلاف والتصارع الظاهر أو الخفيّ.
فالدول الإقليمية وحتى الدول الصغيرة أصبحت أكثر استقلالية ويمكنها أن تتحرك بسياسات وتحالفات خارج الحلف، أو المنظومة، أو المحور الذي قد تنتمي إليه. بل ويمكنها أن تشارك في أكثر من محور. وتستطيع أن تعدّد علاقاتها بشكل قد لا يُسّر حليفها أكان روسيا، أم كان أمريكا، أم الصين، أم كان حليفاً إقليمياً.
هذه السمات للعلاقات الدولية تفسح مجالات أوسع من ذي قبل لقوى المقاومة والحركات الشبابية وللتجمعات الاجتماعية، كما للحركات المتطرفة والتخريبية والإجرامية أن تتحرك مستفيدة من هذه المعادلة التي تتسّم، إلى جانب ما تتسّم به، بالفوضى ونشوء الفراغات وكثرة الشقوق، كما الوقوف على رمال متحركة.
من هنا عندما سيتسلم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية سيواجه هذا الوضع العالمي الجديد الذي لم يسبق له مثيل خلال المائة سنة الماضية، والذي وعد أن يستعيد فيه دور أمريكا وعظمتها، أي قيادتها للعلاقات الدولية.
إنه سيبدأ من ميزان قوى ورياح غير مؤاتيين. فهل يكفي أن يطلق سباقاً مسعوراً باتجاه التسلح، كما أعلن أخيراً، وهو يشرف على تسلم مهام الرئاسة. وهذا بالطبع أول محصلة لحواراته التمهيدية التي تلت فوزه بالانتخابات الرئاسية وبعد اختياره للطاقم الذي سيتعاون معه. ولكن الأهم، بالنسبة إلى أمريكا، سيظل تحديد أولويات الاستراتيجية العالمية، وعلى التحديد، مَنْ العدوّ رقم 1؟ ولكن منذ الآن يمكن أن نقول أن الدخول في حرب سباق تسلح يلقي القفاز أولّ ما يلقيه في وجه بوتين كما في وجه الصين.