📁 آخر الأخبار

*كلو لعيونك يا "عِجّة"..*

الان فقط وبعد ثلاثين سنة، ولأني اصبحت أباً راكزاً، بات بمقدوري ان افهم سر تلك النظرة المتوجمة الغامضة، التي كنت المحها على وجه ابآء اصدقاء الطفولة الثلاث (نصر وناصر وعادل) الذين يجمعهم امرٌ واحدٌ مشترك، هو ان آباءهم كانو يمتلكون متاجر، واروح انا اسلي اولادهم خلال اوقات قيلولة الاباء ومناوبة الأبناء، فيما كان والدي طوبرجيا ودائم التعطل صيفا شتاء..فاجد نفسي "فالتا" طوال العام.

يدخل والد احد اصدقائي متجره، ويكون وجهه متجعلكا سلفا من النوم، فما ان يراني حتى يزداد جعلكة..ابادره بالتحية، وانا الجالس ادخن سيجارتي فاطفئها خجلا على عجل، فيجعل نفسه لم يسمع تحيتي..ويقول لابنه قوم ناولني هالغرض هظاك من جنبك وهات الغلّة تا نشوف..فأشرع بدوري في لملمة ادواتي بهدوء..قداحتي..مسبحتي..مقليعتي..حفايتي.. ثم انسحب بأدب جمّ مثل الذي عامله عمله..دون ان اسمع يوما احد الاباء يقول لي ..جيرة الله ما بتروح، او خليك قاعد يا ولد..او حتى مع السلامة..

مش عارف ليش كانو كلهم الاباء يتخيلوني اني جاي أهمّل ولادهم..مع أنو عليم الله ولادهم كانو يهملو بلد.. ف (ناصر) هذا هو من علمني ترك الصلاة ولعب الفطبول، و (نصر) هو من أشار علي بالهرب من المنزل وترك المدرسة والهجرة من المفرق الى جرش، لنجرب حظنا في الحياة، ولم نبلغ بعد سن الرابعة عشر..وصلنا جرش العصريات ورحنا نحوم بين هالاثارات، ونتنسم عبير الحرية، بفرح وزهو بالغين، الى ان وذّن المغرب فصرنا نعيط ونقول وين بدنا ننام.. رجعنا نجر اذيال الخيبة من مهجرنا الذي دام لأكثر من 5 ساعات.. وما كان من والده الا ان قال له (اذا بشوف وجه صاحبك النجس بالحارة بدي اكسر راسك وراسو..) وانا بصراحة خفت على راسي وبطلت امر من شارعهم الا ركضا).

اما صديقي عادل.. الله يعدلو .. وارجوكم هنا لاحظو اسماءهم كيف تدل على الاخلاق الحميدة (عادل، نصر، ناصر) في الوقت الذي كان يلقبني فيه الجميع (ابو تكيلا) ولا اظنه لقب يروق لمعظم الآباء. هذا عادل الله يسلمو بعرفش كيف اقنعني ذات مساء، ان ننفذ عملية سطو مسلح (بشاكوش وأزميل) على المقبرة ليلا، لاستخراج الذهب.. قلتلو ولك شو ذهب وما ذهب، وبعدين ليش المقبرة بالذات ( وكان الشيء الوحيد الذي يرعبني في الحياة هو سيرة الموت و الاموات) فقال لي ولك يا هبيلة ما هم الاموات الختيارية بكون في بسنانهم ذهب، بنخلع السن وبنخلع وجعو..انا صدقت والله وقلتلو بس متاكد انت انو هالشغلة فيهاش مخاطر او شبهة حرام..قالي ولا أسهل منها وانو هو ياما بالزمنات عاملها..طبعا طلع كذاب بس بدو يشجعني، وراح ينفخ بي ويخبرني كم انا شجاع وجريء وقوي..وانا صدقتو..بل و وثقت به ايضا، خصوصا لمن طلع من جيبتو ورقة وقلم وراح يرسم لي خطة التسلل والاقتحام والهرب.. ولقيت عندو جواب لكل سؤال ساذج رحت اطرحه عليه من شاكلة ( شو بدنا نسوي بسنانهم..وهو يجيب بنبيعهم وبنشتري كل اشي بنفسنا، وبنقعد بالمطعم ونطلب صحنين بطاطا وبيض مع طبق عجة زائد ببسي)، طبعا هو ملعون حرسي، وضرب على الوتر الحساس عندي، لانه كان يعلم ان أكلة " العجة" بالذات هي نقطة ضعفي..حتى انني كنت اجعل نفسي مريضا لتسألني امي شو حابب اطبخلك اليوم يمّا..؟ اقول مباشرة (عجة)..

خيم الظلام، وهو يهمس باذني قائلا:

_اقفز عن سور المقبرة وخش عليهم بالازميل يا شجاع..عجة.. قصدي عجل..
_طيب خلينا انُّط مع بعض يا عادل..
_لا انت نط وانا براقب شوي وبلحقك..عجة

.. انا نطيت ولبدت انتظرو تا ينط وراي..ما نطش..لبدت لحالي جنب هالقبر بهالعتمة، وصرت احسس و ارتجف.. بدأت اتخيل انهم رح يطلعولي ويقولولي ..(ولك انت العرص الي سرقت سنانا..هاتهن جاي..) سناني صارو يصطكو في بعض.. وبدأت اتخيل اشياء و اسمع صوتا يهمس من احد القبور يقول لي (اجيت والله جابك..)، فيرد عليه صوت اخر (طولو بالكم وخذو هالكماشة معاكم..) يعني حسيت انهم الجماعة قاعدين بتفلتوو علي.. شوي ويفعطلكم (بس) اسود، كاين نايم وراء احد القبور خلف ظهري، وما هي الا دقيقة حتى وجدت نفسي من الهلع، جالس بالبيت ومتوضي وبصلي العشا بعرفش كيف..وفعلا صدق عادل لاني وانا بركض ما شفت وراي غير العجة.

اليوم انا اب راشد وقد علمتني الحياة الكثير، فمجرد ان ارى طفلا ماشي مع حد من اولادي، انصح ابوه قائلا..عمي ديرو بالكم عولادكم، لكن ما يقلقني من تجارب الماضي هو امر واحد فقط، وهو عندما تقوم القيامة، وادخل انا الجنة (طبعا ان دخلتها) وارى وجوه اباء اصدقائي الثلاثة متكئين على الارائك، ويكون احد اولادهم في النار بنشوى مثل صحن العجة، هات اقنع ابوه انو انا ماليش خص بالموضوع يا حجة!!