لا تدهشني هذه الحفنة المنتفعة من (الوسطاء الوطنيين) التي تعرض خدماتها على كل الأطراف.
لا تثير استغرابي هذه الكوادر السابقة في أحزاب فقدت أهميتها بالنسبة إليهم.
لا أتفاجأ من كل هذا، فلقد أعلم أن الخبرةَ بضاعةٌ تبحث عن مشترين.
ثمة وطنيون سابقون، يكتشفون أنهم كانوا مخدوعين. وليست منظمات الـ(N.G.O,s) وحدها هي المستعدة للاستفادة من خدماتهم، والمعلومات التي بحوزتهم، والتأثير المتوقع لماضيهم في عيون البسطاء.
ليست منظمات الـ(N.G.O,s) فقط هي المستعدة لتشغيلهم، بل السلطات الوطنية أحياناً.
السلطة الوطنية في هذا الجزء المتخلف من العالم، بنية تحمل في داخلها ميكروبات الماضي. فلأنها غير واثقة من خطواتها، تراها تستعين بكل رجال العصر القديم، الذين ارتبطت مصالحهم بالاحتلال: ليس فقط رجال الإدارة المدنية السابقين، بل كذلك المناضلين السابقين.
إن عدداً من المناضلين السابقين، قد ارتبطوا مع الاحتلال ارتباطاً متعاكساً: إنهم لا يملكون سوى ذكريات صراعهم مع الاحتلال، الذكريات القديمة التي لم تعد صالحة لغير الحكي وتسلية المستمعين..
لقد خرجوا الآن من سجونهم، ورأوا البحبوحة التي يتمتع بها الجواسيس السابقون، فصاروا يحسدون الجواسيس السابقين، ويلومون أنفسهم على أنهم لم يكتشفوا قوانين الواقع، إلا متأخراًّ! إن لديهم خبرات يمكن بيعها، كما باع الجواسيس خبراتهم. من هنا يشتغل بعضهم في أجهزة الأمن، ويستغلون مواقعهم الجديدة ومعلوماتهم القديمة، لابتزاز الجواسيس السابقين، ليدفعوا.
هذا بعض من أسرار اغتناء بعضهم المفاجئ.
لكن يجب ألا ننسى أن الشريحة (المناضلة) الأذكى، تفضل أسلوباً أكثر براغماتية ورقياً؛ والبراغماتية عند هؤلاء، إضافة إلى كونها ديناً حديثاً، زينةٌ كلامية في المجالس.
إن هؤلاء البراغماتيين الجدد، المنحدرين من أوساط فقيرة في الأصل، يفضلون أن يبيعوا المعلومات لجهاتها الأصيلة. إذ يرون أن الجهات الأصيلة ما تزال موجودة في منظمات الـ(N.G.O,s).
لقد رأيت ذات مرة (مناضلاً عريقاً) اشتغل في منظمة من هذه المنظمات الدولية، يقف في معبر رفح، ويخاطب الضباط المصريين باحتقار، معلناً لهم أنه لا يتشرف بالرغبة في زيارة مصر، وإنما هو ذاهب إلى أوروبا، وأن مصر لم تكن سوى شيء صادف أنه وقف في طريقه...
كما رأيت نغلاً وطنياً ــ مَنحه الشيطان جنسية دولة أوروبية ــ يتحدث باستعلاء البغل على أبيه الحمار، متأسفاً لكونه ولد فلسطينياً بالصدفة!..
وفي كلتا الحالتين، كان المناضل العريق والنَّغِل المستولَد يتحدثان كشخصين يمتلكان مفاتيح الجنة.
من أين جاءت كل هذه القوة، إن لم تكن من الجهة التي يستند عليها المناضل والنَّغِل؟
في مراحل الأزمة، ترى هؤلاء يعرضون بضاعتهم كذلك. إنهم موهوبون في تصدير الخراء!.. انظر إليهم الآن وهم يراقبون المحادثات بين فتح وحماس. لقد أخذوا أهبتهم لهذا منذ زمن. إنهم ليسوا فتح ولا حماس، لكن لديهم ما يعرضونه: استقلالية مزعومة غير منحازة، وسمعة نضالية سابقة، وعلاقات مع الدول التي شغلتهم.
انظر! إنهم يعرضون أنفسهم وزراء نموذجيين لحكومة توافقية متوقعة.
هكذا يفكرون. وهكذا لا يخجلون.
إنهم يعلمون أننا نراهم، ولكن ماذا يهم إن كنا نراهم؟ إنهم مشغولون بما يمكن أن يحصلوا عليه، لا بمحاولة تقديم أنفسهم لنا. فنحن لسنا السادة. نحن مجرد شعب لا حيلة له. وحتى النَّغِل السابق ــ الذي يشعر بالعار من فلسطينيته ــ يرى أن من حقه أن ينتهز الفرصة، ويهمس بألم: بأنه مستعد لدفع رأسه ثمناً لعودة الوحدة!
هكذا نرى البهلوانيين في طليعة المستفيدين من الأزمة، لا لشيء، إلا لأنهم حرصوا دائماً على أن تبقى الصلة قائمة بينهم وبين الاحتلال.