رواية العنقاء كاملة :الجزء الثاني: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942 المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------
في اليوم التالي اصطحب يونس جوهر في جولة داخل المدينة التي يزورها للمرة
الثانية .. طاف بالشوارع المعبدة المسقوفة أحيانا" بالسوباطات .. تأمل القواس الحجرية
والشرفات العالية المشغولة بالخشب المزخرف ..
تنسم رائحة الياسمين تتضوع من أبواب البيوت .. مد بصره أحيانا" من فرجات
البواب .. إلى عرائش الورد حول الفسقيات الجميلة التي تتوسط باحات البيوت المترفة .
تأمل أهل المدينة بثيابهم النظيفة المرتبة نساء\ ورجال" .. تفقد أسواق المدينة العامرة .. وجد
لكل حرفة سوقا" خاصة بها ولها شيخ حرفة يحتكم إليه أصحاب الحرفة وزبائنهم .. هذا سوق
العطارين يغص بالذرة والبذور والطيوب والتوابل .
وهذا سوق الحدادين قائم قاعد .. وهم بين نافخ كير أو ضارب على الحديد المحمي حتى
يلين لبن آدم .. يتشكل مناجل ومحاريثا وسيوفا" وسكاكينا" تلقمط الحصى .. وقد تربع شيخهم
الدريملي على مصطبة السوق وحوله عدد من أبناء الكار .. ثم سوق النحاسين فالصباغين
فالحلوجية فالسروجية .
أودعا حصانيهما عند أحد البياطرة ودلفا إلى القيسرية .. فالقيسرية وحدها غير مسموح لحد
أن يدخلها على ظهر حصانه .. بعد أن تعرضت لنهب البدو أكثر من مرة .. في القيسرية ما
خف حمله وزاد ثمنه .. فيها سوق الصاغة حيث أفخر الحلى المصنوعة بالذهب أو الفضة ..
وفيها حرائر الهند ولطائف مصر والشام .
وبينما هما في القيسرية أذن لصلة الجمعة فهبطا الدرج الموصل بين القيسرية وبين المسجد
العمري الكبير .. حبس يونس أنفاسه وهو يتأمل القباب العالية .. والبراج التي تبرقش
رؤوس العمدة الضخمة الشاهقة .. خلبت لبه ألوان الزجاج في النوافذ العالية التي تشتعل
بضوء الشمس كالثريات .. وترسم على الجدران ألوان قوس قزح .. داخله الزهو .. همس
لنفسه :
- ما أظن أحدا" من قبيلتي رأى في حياته بناء كهذا .. كان الشيخ يقرأ من سورة الكهف ..
استمع خاشعا" ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم
ذات الشمال وهم في فجوة منه .. ذلك من آيات ال ومن يهد ال فهو المهتد .. ومن يضلل
فلن تجد له وليا" مرشدا" .. وتحسبهم إيقاظا" وهم رقود .. ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال
وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد .. لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا".. ولملئت منهم رعبا" ) .
بعد الصلة جلس في الفناء الخارجي للمسجد .. أسند ظهره إلى أحد العمدة .. أخذ يتأمل
السماء الزرقاء الصافية التي تغطي القواس والقباب .. أحس بالسكينة كأنما يصادف صديقا"
طال شوقه إليه .. قال لجوهر :
- هذه هي السماء ..نفس سمائنا في البادية .. انظر .. أليس رائعا" أن تصحبك قطعة من
الوطن حيثما ذهبت .. ضحك جوهر :
- أي وطن يا سيدي .. العبيد من أمثالي ل وطن لهم .
ضربه يونس على كتفه :
- كف عن هذا أيها الحمق .
ثم ما لبث أن همس في أذن جوهر .. غدا" يا جوهر سأشتري وادي الزيت .. سنحاصر
الدبوية غدا" .. فإذا أراد الباشا أو الملتزم أن يسخرا مني أو يرفضا بيعي .. فسوف أعلق
جثتيهما على باب الدبوية .. وسوف ألحقهما بجثة أخرى على باب الحمام .. حتى تكتمل
فرحة هذه المدينة .. أظن أن لدى الدولة كثيرا" من هذه البضاعة ولن تعدم أن تجد متصرفا"
وشيخا" آخر للمشايخ
هز جوهر رأسه وضحك حتى لمعت أسنانه .