رواية العنقاء كاملة : الجزء 26: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942 المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------
استيقظ أهل غزة على قرع الطبول .. طبول كبيرة وزعت على مآذن المساجد منــذ
الصباح الباكر .. وظلت تقرع حتى صلة الجمعة .
الجامع اليبكي ليس له مئذنة .. صعد قارع الطبل على سطح المسجد .. تحلق الناس
حوله واجمين .. أول الواصلين كان كبير البطوش .. ثم تله الريفـي فالسويســي .. فشـيخ
الحارة .. ثم سالم .. والكلغاصي .. وشهوان ومبارك .. وآخرهم كــان الزهــار .. تــردد
طويل" قبل أن يغلق دكانه ويهرع إلى حيث تجمعت الحارة .
قال شيخ الحارة :
- هذا طبل الرجوف .. آخر مرة قرع فيها حين أعلن السلطان الحرب على المسكوب .
هز كبير البطوش رأسه :
- هي الحرب إذن .
ردد الحاضرون :
- يا خفي اللطاف نجنا مما نخاف .
بدأ بعضهم في قراءة آية الكرسي آخذا" بالتحويط حتى يبعد عنــه الشــر .. النســاء
احتشدن في اقرب البيوت إلى المسجد .. تركن طواحين القمح ومغازل الصــوف .. أخــذن
يولولن ويندبن الحظ العاثر الذي جعل الحرب تقع على أيامهن .. ضربت زوجة شيخ الحارة
صدرها .. وهي تدعو والدموع في عينيها :
- يا رب حن على هالشباب وهالطفال .
دخلت سكينة فاصطدمت برقية زوجة سالم وهي خارجة تزمجر فصاحت بها :
- روحي عالحرب يا رقية .. بس القوم يشوفوكي برجعوا .. ويمكن يطقوا ويموتوا والسلطان
بعطيكي الحلوان .
ردت رقية بلؤم :
- أحسن ما يشوفوا مياصتك ويطمعوا في بنات المسلمين .
تضاحكت النساء .. قالت زوجة شيخ الحارة :
- ال يجازيكي يا سكينة .. ضحكتينا والدموع في عينينا .
قبل آذان الجمعة توقف قرع الطبل .. صعد الشيخ محمود وحبوش العمى الى سطح
المسجد .. قرأ الشيخ محمود بصوت جهوري الفرمان السلطاني ..
- من أمير المؤمنين وخليفة المسلمين .. السلطان سليم خان .. حامي حمى الحرمين الشريفين
وخاقان البرين والبحرين .. وظل ال في الرضين .
أما بعد :
يا جماعة الموحدين .. وملة المسلمين ..اعلموا أن الطائفــة الفرنســية .. جعــل ال
ديارهم دارسة .. وأعلمهم ناكسة .
سكت الشيخ محمود حتى يؤمن أهل الحارة على دعاء السلطان .. فأمنوا بأصوات متفرقـة ..
وبدون حماس .. فتابع الشيخ القراءة :
لنهم الكفرة الطغاة .. والفجرة البغاة .. ل يؤمنون بوحدانيــة رب الســماء والرض .. ول
برسالة الشفيع يوم الفرض .. بل تركوا الديان كلها .. ونكروا الخرة .. ول يعتقدون بيــوم
الحشر والنشر .. ويزعمون أن ل يهلكنا إل الدهر .
مال سالم على نظمي أفندي :
- أليس هذا اعتقادك أيضا" .. لعلك تقرأ أنت والفرنسيس على شيخ واحد .
أشار له الكلغاصي بالسكوت فسكت .. تابع الشيخ محمود :
- حتى أنهم نهبوا أموال كنائسهم .. وحملة صلبانهم .. وأغاروا على قسوسهم ورهبــانهم ..
وزعموا أن الكتب التي جاء بها النبياء هي كذب صريح .. وليس القرآن والتوراة والنجيــل
إل زورا" وأقاويل .
تحسبن الريفي بصوت جهير .. وأخرج علبة نشوقه .. تنشــق وعطــس .. ســرت
همهمة في الجمع الحاشد .. اهتزت العمائم البالية وتماوجت القنابيز المرقعة .. تحسبن الناس
وحوقلوا وهو يستشرفون خطرا" ل يدركون كنهه .
تابع الشيخ محمود :
- ويقولون أن الناس كلهم متساوون في النسانية .. متشاركون في البشرية .. ليس لحد على
أحد فضل أو مزية .. وعلى هذا العتقاد الباطل .. والرأي الهازل .. بنوا قواعـد جديـدة ..
وقوانين أكيدة .. وشبوا على ما وسوس لهم الشيطان .. وهدموا قواعد اليمــان .. وحللــوا
لنفسهم المحرمات .. وأباحوا لنفسهم ما تميل إليه الشهوات .
وقد افتنوا بين الملل .. وألقوا الفساد في الملوك والدول .
بعد أن انتهى الشيخ محمود من القراءة .. لكز حبوش كي يرفع الذان .. رفع حبوش
آذان الجهاد .
- حي على الجهاد .. حي على الجهاد .. ال أكبر .. ال أكبر .. ل إله إل ال .
دخل الرجال المسجد لداء الصلة .. وتفرقت النساء إلـى بيـوتهن .. أمـا طبـوع
أبوالرواكي فقد وجدها فرصة ليفر من معلمه ( السي ) السقاء حل قربة الماء عن ظهره ..
رمى بها إلى جدار الساقية .. ركب جريدة نخل وحمل سيفا" من الخشب ..سار يتبعه صــبية
الحارة وهم
يهتفون :
الســلطان حامينا .. ويلك ياللي تعادينا
إللـــي معـانـــا ال معــــاه
وإللــي علينـــا ال عليـــــه
بعد الصلة لم ينس حبوش أن يدعو الناس إلى الكثار من قراءة الموالــد .. وعمــل
الختمات .. وترديد الوراد والدعية .. حتى يكشف ال الغمة عن المسلمين .
قال له شهوان :
- في الحرب تروج صنعتك يا حبوش وتبور صنعتي .. سوف تكون قبور كثيرة تشبع فيهــا
لطما" وقراءة وصرف ختمات .. أما الشبابة فهي طائر الفرح .. ل أظن لها مكانا" فــي هــذا
السواد القادم.
هز حبوش رأسه يمنة ويسرة .. وهو يعوذ نفسه بال من عين شهوان الــتي تفلـــق
الحجـر .. ومضى أدراجه وصوته يهـدر على الطـريق .. ( من شر غاسق إذا وقب ومن
شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ).
مبارك لم ينتظر حتى يصلى السنة .. حمل نسخة من الفرمان السلطاني .. طار بهــا
إلى تاج الدين .. قرأ له نص الفرمان .. وانتظـر تعليقه .. ظل تاج الدين صامتا" متشــاغل"
بحبات المسبحة يحركها بين أصابعه .. سأله مبارك :
- ماذا تقول في ذلك يا مولنا ؟
- أقول يا مبارك قوله تعالى : (( ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع .. ونقص من المــوال
والنفس والثمرات .. وبشر الصابرين )) .
حين وصل الخبر إلى وادي الزيت .. قال المقدم صقر :
- هذا كله جاء في الجفر .
التفت إليه الحاضرون فتابع حديثه :
- حينما أدركت التبع اليماني الوفاة .. بعد أن طعنه كليب وائل .. أمرهم بأن يكتبوا عنه مــا
علمه من الجان .. حول مصير الدنيا وما سيقع فيها بعد وفاته .. وقد ســمي هــذا الكتــاب
الجفر .
سأل جوهر :
- وما علقة الجفر بما نحن فيه .
- تنبأ التبع بخراب غزة واللد والرمله .. فقد جاء في الجفر .
وتخرب غزة وأطرف يبنا .. ويعلى الضيم لد والرمال
ويصير الوبش ما يحمي عجوز .. ويصير العز في ظهور الجبال
نظر الحاضرون إلى يونس لسماع تعليقه .. لم يعلق بشئ
سأل جوهر :
- أتؤمن بهذه الخرافات وأنت المقدم صقر ؟!
نظر المقدم صقر الى يونس مستنجدا" .
قال يونس وهو يربت على ظهره :
- يا صقر قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا .. هو مولنا فنعم المولى ونعم النصير .
¯¯¯
دخل جوهر خان الزاوية .. لم يكن الرواق الخارجي للخان مكتظا" .. رغـم أن هـذه
هي الليلة الرابعة من ليالي رمضان .. ورغم أن الشاعر الماوردي كان يتصدر المكان علــى
دكته العالية .. يصول ويجول :
( صرخ إبراهيم الحوراني بعالي الصوت ) :
- نجاب وحامل كتاب .
انهزت دروندات الجبال من عزم صوته .. مال ملك الفرنج مرعوب علـى جيـوان
المتلعب بالديان .
- يا جيوان إيش هالرعد القاصف وإحنا في تموز العنب والتين .
قال جيوان :
- يا مولنا هادا مش رعد .. هادا صوت نجاب المسلمين .. جايب لك مكتوب من الظــاهر
بيبرس.
اصفر وجه الملك :
- إذا كان هادا صوت المسلمين .. كيف أفعالهم يا جيوان .
قال جيوان :
- ل تنغر يا مولنا .. هدول المسلمين حس من غير أريه .. بس تمطــر الــدنيا بفشفشــوا
وبموتوا زي الجعارين .. وبنعمل الجوامع صوامـع .. والمدارس كنايس .. وبنصير أفخــر
ملوك الرض .. من طولها والعرض .
اتخذ جوهر مجلسه إلى جانب شهوان .. طلب له شهوان كأسا" من السحلب :
- أين ذهب الناس ؟ أمس لم تكن تجد مكانا" من كثرة الزحام .
ناوله الصبي الكأس .. ارتشف رشفة من الشراب الساخن :
- يبدو أنك لم تسمع النبأ ؟
- أي نبأ يا شهوان ؟
- احتل الفرنسيس قلعة العريش .. وهم يعدون العدة للزحف على غزة .
غص جوهر بشرابه :
- هيا بنا نلحق بيونس .
في مضافة شيخ التفاح كان الخبر قد سبقهم .. جلسا بين أهل الحارة واجمين .. تــابع
شيخ الحارة :
- أرسل بونابرته رسول" إلى أحمد باشا الجزار يعلمه بقدومه ويطلب إليـه المسـالمة .. لـم
يتنازل الجزار بالرد عليه .. أرسل رسول" آخر .. أمر الجزار بقتله وصلبه على سور عكــا
وأمر عماله وقادة جنده بالستعداد لقتال الفرنسيس .
قال يونس :
- زارني درويش باشا أمس وقال لي ( أنت فارس عظيم .. وحولك المغاوير من رجالــك ..
لو حاربت معنا فلن تنسى الدولة معروفك ) .
لو رأيته يا عمي .. ذلك الديك التركي .. تحول إلى دجاجة هزيلة ترتعد من الخوف.
- بم أجبته ؟
- قلت له تمنيت لو أن هؤلء الغزاة مسلمين مثلنا .. إذا لقاتلناكم معهم جنبا" إلى جنب حــتى
نخلص الرض من ظلمكم وفسادكم .. أما وهم كفار فأغلب الظن أننــا ســنلتزم الحيــدة ..
ولينصرن ال من يشاء .
دخل سالم المضافة مهرول" .. ألقى التحية وجلس يلهث .. التفت إليه شيخ الحارة :
- هات ما عندك يا ابن أخي .
- نصارى المدينة المائة .. تركوا بيوتهم في عهدة خوري الطائفة ورحلوا إلــى الجليــل ..
خافوا أن يتهمهم الباشا بالموالسة مع الفرنسيس لنهم مثلهم على ديـن المسـيح .. ويتخـذها
ذريعة لنهب أموالهم .
- ثم ماذا يا بشير الخير ؟
- التراك أيضا" بعثوا عوائلهم إلى اسطمبول مع حريم الباشا .
قال شهوان :
- هكذا يخص الباشا سارة بكل وقته .
دخل نظمي افندي يتبختر في مشيته كالطاووس .. يحمل البشرى لهل الحارة ..
- صارت غزة أمنع من عقاب الجو .. إمدادات تصل تباعا" .. أطواب وعدة حرب .. قبيقول
وانكشارية ومماليك ( لحظ نظمي أنهم لم يتحمسوا لحديثه فأراد أن يفاجئهم بخبر لم يتــوقعه
أحد ) .
درويش باشا أبطل السخرة والمظالم ونهب الرزاق .. وأعلن أن كل إنسان من دون
حقه.
قال شيخ الحارة :
- وفيم العجلة .. كان أجدر به أن ينتظر حتى يدخل الفرنسيون غزة ثــم يفــاجئهم بــإعلنه
العظيم .
تجاهل نظمي أفندي ملحظة شيخ الحارة التي لم تكن وديــة علــى الطلق وتــابع
الحديث :
- لقد عدت لتوي من معسكر المماليك.. رأيت إبراهيم باشا وهــو يشــرف علــى تــدريب
عسكره .. اال ال كيف يحسن هؤلء المماليك ألعاب الفروسية .. وأبواب الحرب مـن كـر
وفر ومجالدة بالسيف .. لو رأيتم خيلهم الصيلة أين منها خضرة دياب ابن غانم .
قال يونس :
- ألم يرسل إبراهيم باشا زوجاته وأمواله إلى نابلس في القافلة الخيرة ؟
رد عليه شيخ الحارة :
- ذلك لشدة ايمانه بالنصر .. لو كان جحا بفلح لفلح أرضه .. لماذا لم يحاربهم في مصر بدل"
من الهروب بمماليكه كل هذه المسافة .
نهض يونس مهموما" وذهب إلى بيته في الحارة .. كانت فاطمة مريضة .. جاءهــا
الوحم شديدا" هذه المرة .. وإنه ليخشى أن تتفاقم حالتها رغم عناية أمها ومرجانة وسكينة وكل
جاراتها .
حين دخل البيت فوجئ بمبارك يجلس حزينا" وقد وضع رأسه في راحتيه :
- أنا رسول تاج الدين إليك .
- السمع والطاعة .. هيا بنا .
- ل يريد تاج الدين أن تذهب إليه .. بل يريد أن تصدق النية على الجهاد .. أن تعد لهــؤلء
الفرنسيين ما تستطيع من قوة ومن رباط الخيل .. وأن ل تستنكف من القتال بقيادة الجزار أو
أي من رجاله .. فجهاد الكفار تحت راية حاكم فاسق جائز في السلم ول ينقص في الثـواب
عن الجهاد خلف المام العادل .. مادام ذلك دفاعا" عن ديار السلم .
وقد أرسل تاج الدين فتواه تلك لكل تلميذه وأنصاره ومن توسم فيهـم الغيـرة علـى الـدين
والوطن .
- عجبت لتاج الدين .. يفتي بالخروج على سلطان الحاكم الظالم ونقض البيعة له في عكا ثـم
ل يلبث أن يدعو الناس إلى الجهاد خلفه في غزة .
- لقد اراد تاج الدين أن يخرج بنفسه لمجاهدة الفرنسيس .. وكتب إلى الجزار يستأذنه في ذلك
ويحثه على الصمود في وجه الكفار صابرا" محتسبا" ويبين له ما للجهاد من فضل على ســائر
العبادات .
- وبماذا أجاب الجزار ؟
- أمر بتشديد الحراسة عليه في السجن وعين للسجن آمرا" جديدا" ل يتهاون أبدا" وله عيـون ل
تغفل ول تنام .
- ولماذا لم يخرج عنوة وتحت ظلل السيوف كما أردنا له ؟
- ل يريد أن تساور الجزار الشكوك حول مقاصده فيثبط ذلك من عزمــه وتصــميمه علــى
مقاومة الفرنسيس أو يشتت جهوده بين مقارعة الغزو وملحقة الشيخ وأتباعه .
- وأنت يا مبارك ما الذي تراه ؟
- سألني شيخي مرة .. هل تدري يا بني لم خلقنا ال ؟ أجبت بقوله تعالى ( وما خلقت الجــن
والنس إل ليعبدون ) قال أوتدري ما هي العبادة : قلت الصلة والصوم والزكاة والحج .. قال
يا بني كل ذلك مدخل إلى العبادة فقط .. لقد استخلفنا ال في أرضه ول تصح العبادة إل بحسن
الستخلف في الرض .. إن علينا أن نسمو بأنفسنا عن الدنايا .. وأن ننحاز إلى جانب الخير
في صراعه مع الشر .. وإلى جانب الحق في صراعه مع الباطل .. وإلى جانب الجمال فــي
صراعه مع القبح والدمامة .. عندها ينظر ال إلينا فنجمل في عينيه ويباهى بنا الخلئق .
ربت يونس على كتف مبارك بحنو وهو يصاحبه إلى الباب :
- لم يضع وقتك سدى مع تاج الدين يا مبارك .
¯¯¯
اصطحب يونس جوهر واثنين من العبيد إلى سوق السروجية .. أصدر يونس تعليماته
لشيخ السروجية بما يلزم لخيله من إعداد وعدة .. إنحدر إلى سوق الحدادين اشترى ما طــاب
له من السيوف والدروع .. لم ينس وصية المقدم صقر .. اشترى لــه طــبرا" مــن البــولد
المسقي .. عرج إلى الجباخانة حيث تباع الغدارات والبنادق والطبنجات .. كانت كل البنــادق
الدك بماسورة واحدة ولكن حسن حظه أوقعه في بندقية حسب أل مثيل لها في العالم .. بندقية
بماسورتين .. قال له البائع :
- هذه ألمانية .. تدك الماسورتين بالبارود والخرق .. ثم تطلق أول مرة وثاني مرة طلقــتين
متواليتين .
قلبها بيديه في إعجاب :
- هذا هو السلح .
اشتراها دون أن يفاصل في السعر .
في طريق العودة مر يونس بخان الزيت .. أكبر خانـات غـزة .. كـان البيـك آل
رضوان صاحب الخان يجلس على المصطبة .. بجانبه أبو الطايع صــاحب خــان الزاويــة
ورشيد عليان وعدد من وجهاء المدينة وأفنديتها .
حين لح موكب يونس .. همس ابو الطايع في أذن البيك :
- الشيخ يونس صاحب وادي الزيت .. قم بنا لستقباله .
هرعا إلى حصان يونس فأمسكا بلجامه .
قال أبو الطايع :
- هل شرفت أخي وصديقي البيك بالنزول عنده قليل" ؟
أضاف البيك :
- لقد سمعنا عنك كثيرا" يا سيد يونس من تجار الزيت الذين ينزلـون فـي الخـان وتشـوقنا
لملقاتك والتعرف عليك .
ترجل يونس عن جواده .. سلمه لجوهر ومشى مع مضيفيه .. صافح الفندية الواقفين
.. اتخذ مجلسه بين البيك وأبي الطايع .
ابتدره البيك مرحبا" ..
- رمضان كريم .
- ال أكرم .
ثم تابع البيك وهو يشير إلى أحد الجالسين :
- لعلك تعرف صديقنا الدريملي شيخ الحدادين .. استدعاه درويش باشا لكي يدفع لــه أجــرة
الحدادين الذين أعدوا السيوف والحراب والبلطات للجنود .
صديقنا رفض أن يقبل قرشا" واحدا" .. قال للباشا ( إن أجرنا على ال ) .
هنأه يونس :
- بوركت وبورك رجالك وفي الحديث (( من جهز غازيا" فقد غزا )) .
رد الدريملي :
- لست وحدي من فعل ذلك .. أهل حارة الزيتون اشتغلوا في إقامة التحصينات حول المدينة
ليل نهار .. ورغم أن الباشا أبطل السخرة منذ سقطت قلعة العريش .. إل أنهــم رفضــوا أن
يتقاضوا شيئا" مقابل عملهم الدؤوب .
قال شيخ الحارة للباشا حين قدم له المال :
- لن نضن بأرواحنا في الدفاع عن بيوتنا وأهلنا .. فكيف نضن بالمال ؟ ثم أشار إلى عسكر
الباشا من الرناؤوط والشركس وغيرهم .. ادفع لهؤلء يا باشا .. عسى أن يصمدوا في غزة
ول يفعلوا ما فعلوه في العريش .
سأل يونس كمن يدافع خاطرا" كدر عليه صفوه :
- أتظنهم إذا اشتدت بهم الحرب يتركوننا ويفروا ؟
قال أبو الطايع في سخرية :
- إذا اشتدت ؟ وهل سينتظرون حتى تشتد .. لقد بدأوا في الفرار منذ الن
تطوع رشيد عليان بتوضيح ما يقصده أبو الطايع :
- شيخ المشايخ تيمور الضرغام .. اصطحب غلمه يلماز وهرب إلى الشام تاركا" نســاءه
الربعة للدفاع عن المدينة .
تمتم يونس بغيظ :
- الفئران تتراكض خارج السفينة الغارقة .
قال البيك وقد لحظ سيماء يونس :
- لماذا تكدرون ضيفنا بهذه الخبار .. هل تريدون أن يزهد في مجلسنا ؟ ل تعرهم التفاتا" يا
سيد يونس .. هذه المدينة محرمة على الكفار حسب ما يؤكد القاضي معروف .
أمسك البيك هنيهة ثم تابع :
- مولنا القاضي لحظ أن الباشا في الونة الخيرة يوسع النفقة .. فقرر المساهمة في الجهد
الحربي حتى ينوبه من الحب جانب .. صعد إلى الدبوية وقال للباشا ( غزة هذه هــي غــزة
هاشم .. والسيد هاشم جد الرسول هو المسئول عن حمايتها من الكفار .. وقــد علمنــا مــن
أجدادنا .. أن الكفار حين يصلون مشارف المدينة كل مرة .. يخرج لهم السيد هاشم بســيف
من خشب .. فل يكاد يشير بالسيف نحوهم حتى تطير رؤوسهم عن أجسادهم قولوا دستور يا
سيد هاشم .
قال الحضور بصوت واحد :
- دستور .
تابع البيك :
- اقترح مولنا القاضي أن يخرج الدراويش وأهل الطرق بالعدة والصاجات والطبول .. وأن
يطوفوا بالسيد هاشم ويتضرعوا له ويقعوا في عرضه حتى يقوم بحماية مدينته .
أعجب الباشا بالفكرة .. أجزل العطاء للقاضي ولمشـايخ الطـرق .. خـرج بنفسـه
معهم .. شارك في حلقة الذكر التي نصبوها عند المقام .
علق يونس ساخرا" :
- هكذا إذا ضمنا النصر على الفرنسيين .
حمل أهل الحارة نساءهم وأطفالهم إلى وادي الزيت .. ريثمــا تنجلــي المعركــة ..
توزعوا على المغاور والكهوف .. بعضهم اتخذ له خيمة أوبيتا" من الشعر .. حين مــر بهــم
شيخ الحارة يدعوهم إلى الجهاد قالوا له
- الجهاد يا شيخ الحارة في سبيل ال وليس في سبيل تيمور الضرغام وعصابته .
بعضهم كشف له ظهره ليريه أثر سياط الجباة .. حين عجز عن دفع ما على أرضــه
للملتزم .
البعض الخر تخلص بلباقة خشية انتصار التراك .
- يا اختيار إحنا فلحين .. الحرب صنعة العسكر .. إللى بياكلوا خبز السلطان يضربو بسيفو
.
حين عاد إلى يونس لم يكن معه من أهل الحارة سوى مبــارك وصــديقيه رضــوان
البطش وفرج السويسي .. الذين جاءا كرمى لمبارك .. وشهوان والشيخ محمود .
جمع يونس رجاله ..
- كنتم لي نعم العوان .. حاربتم معي ببسالة .. أحسنتم الصحبة .. إني فخور بكم .. معركة
غد ل تشبه أيا من حروبنا الماضية .. الذين أمامنا ليسوا عصابة من قطــاع الطــرق .. ول
قبيلة من القبائل الغازية .. هذا جيش ل مثيل له في عدته وعدده .. من شاركني القتال وأبلى
معي بلء حسنا" فهو حر لوجه ال .. إن شاء مصاحبتي بعدها فلـه مكانة أخي جوهر .. وإن
شاء أن يرحل فله ما يريد ونعينه على ذلك بكيس من المال
قال شيخ التفاح :
- ل درك .. ل درك .
تصايح العبيد :
- نحارب معك .. لقد رضيناك سيدا" .. لن نخذلك مادام فينا رمق .
دخل يونس الدار .. كانت فاطمة تضع له الزوادة في خرج الحصان .. نظرت إليهــا
كأنها تحاول أن تزود عينيها منه .. احتضنته بقوة .. قبلها في رأسها وأشار إلى مرجانــة ..
تساندت على كتف مرجانة وهي على وشك السقوط .
لحظ أن الحمل بدأ يظهر عليها واضحا" .. كان ذلك شهرها الخامس .. سحب حصانه
عند باب الفناء تلفت إليها .. كانت تجاهد الغماء .
هتف بلوعة :
- استودعك من ل تضيع عنده الودائع .
لوح لها بيده .. ومضى .
قاد يونس رجاله إلى المدينة .. كانت رياح شباط تعول في الحقول .. محاولـة اقتلع
كل شئ أمامها .. الشجار السامقة أحنت هاماتها لكي تمر الريح .. عندما وصلوا ضريح أبي
العزم .. هدأت الريح قليل" .. توجهوا صعدا" في الطريق إلى الدبويـة .. اهـتزت الشـرفات
بالهتاف والزغاريد .. لم يملك يونس إل أن يشهر سيفه ويلوح به :
- الروح من دونكم .. الروح تفداكم .
استلم يونس ورجاله مواقعهم خلف التحصينات .. قبل غروب الشمس أشعل الرجــال
النار والتفوا حولها فيما تولى مبارك المراقبة .. هشم المقدم صقر رغيفا" من الخـبز نصـفين
بطبره .. وأدناهما من النار .. انطلق آذان المغرب .. تناول يونس إبريق المـاء وشـرب ..
( اللهم لك صمت .. وعلى رزقك أفطرت .. وغدا" إن شاء ال نويت ) .
احتج شيخ التفاح :
- أتنوي صيام غد وأنت تعلم ما سيكون فيه .
- وال يا عم ما أفطرت يوما" واحدا" من رمضان منذ احتلمت .. ول أنوي أن أفعل .. سوف
أستعين بال على ما سيكون .. والثواب على قدر المشقة
تناول الرجال إفطارهم بصمت وعيونهم تحدق في الظلمة .. خيم صمت ثقيل فادح ..
حتى صوت الريح توقف .. حتى عواء بنات آوى .. همس شهوان للمقدم :
- أشعر بالوحشة يا عماه .. وحشة تنهش القلب .
- أما أنا فأشم رائحة أعرفها جيدا" .
- أية رائحة يا عماه ؟
بدأ شهوان يرتعد وتصطك أسنانه :
- رائحة الموت .
في الفجر كان درويش باشا قد استكمل كل اسـتعداداته لملقـاة الفرنسـيين .. أقـام
التحصينات حول المدينة في الماكن التي تهدمت من أسوارها القديمة .. نصــب الطــواب
داخل التحصينات .. وزع التعزيزات التي أرسلها أحمد باشا الجزار على المواقع المشرفة .
قال التفكجي باشا رئيس القراقول لمساعده لظوغلي أغا :
- ما أظن هذه الطواب صالحة للعمل .. فمنذ تجريده محمد أبو الذهب على بر الشام لم تجر
صيانتها أو فحصها .. طلبت من الباشا تجربتها بعد سقوط العريش لم نجد بــارودا" .. حيــن
وصل البارود كان الفرنسيون قد اجتازوا وادي غزة .. خشي درويش باشا أن يسمع بونابرت
صوتها إذا جربناها فيأخذ حذره .
هز مساعده رأسا كرأسu الملفوف :
- عفارم درويش باشا عفارم .. معلوم لزم مفاجآت .. الحرب خدعة أفندم .
في السهل الذي يمتد من وادي غزة حتى أعمدة الشـهداء .. علـى أطـراف حـارة
الزيتون .. كان كل الجانبين يحضر المسرح للحرب القادمة أربعـة آلف خيـال بغـداراتهم
وسيوفهم اصطفوا في مواجهة عشرة آلف من جنود نابليون .
في القلب اصطف وجاق القبيقول وعلى الميمنة وجاق النكشـارية وعلـى الميسـرة
مماليك ابراهيم الهاربين من مصر .. السبهلية والعيوانية ومتطوعوا الحارات اتخذوا مواقعهم
خلف التحصينات المحيطة بالمدينة .
صهلت مدافع الفرنسيين .. تساقطت القنابــل المحكمــة التصــويب علــى الخيالــة
والتحصينات .. أصدر درويش باشا أوامره بالهجوم .. انطلق الخيالة لللتحام بالجيش الغازي
.. لم يبتعدوا كثيرا" .. كانت طلئعهم قد وصلت مرمى رشاشــات الفرنســيين .. حصــدتهم
النيران .. عادت بعض الخيول المصابة تسحب أشلءها وتصيح مجنونة .. تأكد درويش باشا
أن أحدا" من خيالته لن ينجو إذا واصل هجومه .
اشتد قصف المدافع وعلت سحب الدخان .. لم يستطع فارس واحــد القــتراب مــن
خطوط الغزاة .
وقع في ذهن درويش باشا بأنهم سحرة لهؤلء الكفار .. لن الذي رآه كان أقرب إلى
السحر .. ذلك الخط الذي تساقطت عنده الخيالة ولم ينج أحد .
مرت ساعات لعينة قبل أن يأمر درويش باشا خيالته بالنسحاب إلى داخل التحصينات
.. استدعى درويش باشا رئيس النكشارية ورئيس المماليك إبراهيم باشا للتشاور .. فلم يعثر
لهم على أي أثر .
باقي الخيالة والعسكر لم يتوقفوا طويل" في انتظار تعليمات الباشا .. لم يبق حول التحصـينات
سوى بعض الجند والمتطوعين من الهالي .. قال المقدم صقر لشهوان وهو يراقــب رحيــل
الجنود:
- أل ترى هذا الطوب ؟ لقد استعملنا واحدا" مثله فــي حــرب المســكوب .. وأســتطيع أن
أعالجه .. تعال معي .
تبعه شهوان وهو ذاهل عن نفسه .. ها هي الحرب التي اشتهاها ذات يوم .
ناولني تلك القلة .. هناك .
انفجرت قذيفة للفرنسيين خلفهم .. قطع حصان شيخ الحارة عنانه وفر هاربــا" علــى
وجهه .. حاول مبارك اللحاق به .. لكنه رآهما يعالجان المدفع فهرع إليهما .. يده مــع يــد
شهوان .. حمل القلة والقماها بوز المدفع وضع المقدم صقر بعض البارود في الثقب وأشــار
بيده .. انبطحا على الرض .. أدنى الشعلة من الثقب .. وانبطح هو الخر .. دوى انفجــار
رهيب .. خرجت القلة تصفر باتجاه مواقع الفرنسيين .
- إلي بالثانية .
لكن الثانية رفضت النطلق .. أشار لهم المقدم :
- أهربوا قبل أن تنفجر فينا .. ولو الدبار ..
لمح يونس ثلثة من خيالة الفرنسيين يقتربون من التحصينات .. مد ماسورتي بندقيته
الجديدة باتجاهم .. فعل العبيد مثله .. قال شيخ الحارة
- إنهم يقتربون من أعمدة الشهداء .. هنا خاض صلح الدين معركة فاصلة مـع الصـليبيين
معركة أنقذت غزة من السر .
حبس الجميع أنفاسهم .. اقترب وقع السنابك .. صاروا في مرمى السـلح .. أشـار
يونس للرجال .. انطلق الرصاص .. أطلق يونس الطلقة الثانية على آخر الخيالــة .. هتــف
شيخ التفاح :
- ال أكبر .. لقد سقط الثلثة بين العمدة .. سقطوا على آثار من سبقهم من الغزاة .. أعــاد
يونس ورجاله تعبئة بنادقهم وانتظروا .. لم يظهر أمامهم أحد .. أشار أحد العبيد :
- إنهم يجتازون التحصينات .. هناك انظروا .
هتف يونس :
- إليj بالشعل .
امتطى جواده وصرخ :
- فتحت أبواب الجنة .. لبيك اللهم لبيك .
لكز جواده فطار به إلى حيث الفرنسيس .. لم يكد يبتعد حتى عاجلته قذيفة مــدفع ..
رآه شيخ الحارة يطير بحصانه إلى السماء السابعة ثم يهويان .. كلهما إلى الرض .. القذيفة
الثانية عجنت لحمه بلحم حصانه .
أعول جوهر :
- الحياة بعدك حرام .. وانطلق إلى موقع الفرنسيس .
شيخ التفاح أحس الضربة تقصمه .. ظل ذاهل" خلف التحصــينات إلــى أن اجتــازه
الجيش المهاجم .. هدأ كل شئ حوله .. خيم صمت فادح فداحة الفجيعة والثكل .. لم يعــرف
شيخ الحارة كم مر عليه من الوقت .. قبل أن يعود حصانه الهارب .
مد الحصان رأسه وأخذ يمرغ وجهه في صدر شيخ الحارة .. أمسك شــيخ الحــارة
بلجامه وقاده إلى حيث سقط يونس .. جمع ما استطاع استخلصه من جسد صهره ووضــعه
في خرج الحصان .
انطلق إلى مقام سيدنا هاشم .. فتح باب المغارة تحت المقام وسجى بقايـا صـهره ..
أهال التراب على باب المغارة ووقف يقرأ الفاتحة .. قبل أن يغادر التفت نحو المقام :
- ها هو واحد من أرومتك يرقد إلى جوارك وقد نال الشهادة .. فلنعم الجــوار فــي الــدنيا
والخرة .. لنعم الجوار في الدنيا والخرة .
تذكر فاطمة فانخرط في البكاء .
أحاطت خيول الفرنسيين بجوهر من كل جانب .. صاح قائدهم :
- أريده حيا" .
ألقوا عليه الحبال .. كتفوه وطرحوه أرضا" .
سأله بونابرته :
- لماذا تحارب وقد هرب العسكر وأهل المدينة ولم يبق سواك ؟
أجاب جوهر :
- قتلتم سيدي يونس .. أعيدوه لي حيا" إذا أردتم سلمي .
هز نابليون رأسه بأسى :
- ل نستطيع إحياء الموتي أيها العبد الوفي .
ثم أشار بيده :
- خذوه مع السرى .
التفت ساري عسكر إلى الضباط خلفه :
- تقدم يا شامبليون .. ها هي أول مدن الشام الكبيرة تسقط في أيدينا .. ما أسهل ما أحرزنــا
من نصر .. ماذا تقول كتبك عن هذه المدينة ؟
- سيدي !
- أعرف يا شامبليون أن هذا ابتذال .. لكن نبذة صغيرة لن تضير جلل التاريخ في شــئ ..
كم عمر هذه المدينة ؟
- المدينة موجودة منذ عصر البرونز .. ( كانت الخيل تخب بهم صعدا" إلى غزة ) .. لم تكن
تحمل نفس السم أو الملمح .. لكنها كانت في أوج ازدهارها حين غزاها الهكسوس قبل ستة
آلف سنة .
- أوج ازدهارها .. يا لمبالغاتكم أيها المؤرخون .. هل كانت باريس مثل"
- لم تكن باريس موجودة في ذلك الوقت .. ولم تكن فرنسا أيضـا" موجـودة كـان أجـدادنا
يخوضون عراة في مستنقعات ما حول نهر السين ..
في الوقت الذي بنى فيه أهل هذه المدينة القصور المزودة بغرف الستحمام الرحبــة
ومجاري المياه .. وغرف النوم ذات السرة المصنوعة من الخشب .. والوســائد المحشــوة
بريش النعام .. كانت شوارع هذه المدينة في ذلك الوقت معبدة .. تقطعها العربات التي تجرها
الخيل .. إن أهلها يا سيدي أصحاب حضارة رائدة .
- حضارة ؟! أهذه المسوخ المتخلفة هي وارثة تلك الحضارة .. تبا" للحضارة إذن .
سكت شامبليون ممتعضاv .. لكن القائد استحثه :
- أكمل يا شامبليون .
- حكمها الهكسوس حين حكموا مصر .. فلما انتصر عليهم أحمس أول ملوك مصر وأجلهم
عن بلده .. طارد فلولهم إلى هذه المدينة .. ثم دمروها على رؤوسهم تدميرا" شامل" .
- متى حملت المدينة هذا السم ؟
- حين عمرها الكنعانيون منذ ثلثة الف سنة قبل الميلد .. سموها غزة ومعناها في لغتهم (
العزة والكبرياء ) .. توالت عليها الغزوات طمعا" في مركزها التجاري بيـن مصـر والشـام
وجزيرة العرب .. إضافة إلى خصوبة أرضها وكثرة غللها .
- ماذا سيقول التاريخ عني يا شامبليون ؟
- ما قاله عن الفاتحين العظام قبلك .. هذه المدينة يا سيدي هي سـرة العالم .. كلهم مروا من
هنا .. الذين فتحوا الشرق والذين فتحوا الغرب أيضا" .
أحمس .. نبوخد نصر .. السكندر .. يوليوس قيصر .. منهم من ترك توقيعه علــى
قطعة من النقود أو كسرة من الجر .. ومنهم من لم يفعل .. كلهم جاءوا وذهبوا وبقيت هــذه
المدينة .. ل الزلزل ول الوبئة ول الطوافين استطاعت أن تقتلها .. في كل مرة كانت تولد
من رمادها
كما تولد العنقاء .
- أرى أنك وقعت في حب هذه المدينة يا شامبليون .. هل ستشفيك من حــب وادي الملــوك
وحواضر الفراعنة ؟
- المدن كالنساء يا سيدي .. كل مليحة بمذاق .
- إذا كانت المدن كالنساء كما تزعم فإن غزة ل تبدو لي أكثر من عجوز حيزبون .. أما زلتم
تعملون في كتاب وصف مصر ؟
- نعم يا سيدي .
- ربما توجب على علمائنا إضافة فصل عن وصف سوريا .. أم أنك ترى وضع ذلــك فــي
كتاب مستقل ؟
- المور مرهونة بأوقاتها يا سيدي .
اقترب أحد الفرسان من بونابرت وأدى التحية .
- ما وراءك يا بورين ؟
- وجهنا قوة إلى القدس عن طريق الرملة .. وقوة أخرى لتعقب الجيش المنهزم حتى مشارف
يافا للبدء في حصار المدينة .. ريثما تصل باقي قواتنا .
- يافا أمرها هين يا بورين .. المهم لدي عكا .. لو فتحت عكا فــإنني سـأجد فيهــا كنــوز
الجزار .. وأسلحة تكفي ثلثمائة ألف جندي .. عندها أهيج أهل ســورية الــذين يبغضــون
الجزار لظلمه وأسلح منهم جيشا" عرمرما" أفتح به دمشق وحلــب .. سينضــم لــي الهــالي
كمخلص لهم من المظالم .. أسير بهم إلى الستانة .. وأنشئ في المشرق امبراطورية عظيمة
الشأن .
¯¯¯
رواية العنقاء كاملة :الجزء 27:
رواية العنقاء كاملة :الجزء 25:
----------------
الصباح الباكر .. وظلت تقرع حتى صلة الجمعة .
الجامع اليبكي ليس له مئذنة .. صعد قارع الطبل على سطح المسجد .. تحلق الناس
حوله واجمين .. أول الواصلين كان كبير البطوش .. ثم تله الريفـي فالسويســي .. فشـيخ
الحارة .. ثم سالم .. والكلغاصي .. وشهوان ومبارك .. وآخرهم كــان الزهــار .. تــردد
طويل" قبل أن يغلق دكانه ويهرع إلى حيث تجمعت الحارة .
قال شيخ الحارة :
- هذا طبل الرجوف .. آخر مرة قرع فيها حين أعلن السلطان الحرب على المسكوب .
هز كبير البطوش رأسه :
- هي الحرب إذن .
ردد الحاضرون :
- يا خفي اللطاف نجنا مما نخاف .
بدأ بعضهم في قراءة آية الكرسي آخذا" بالتحويط حتى يبعد عنــه الشــر .. النســاء
احتشدن في اقرب البيوت إلى المسجد .. تركن طواحين القمح ومغازل الصــوف .. أخــذن
يولولن ويندبن الحظ العاثر الذي جعل الحرب تقع على أيامهن .. ضربت زوجة شيخ الحارة
صدرها .. وهي تدعو والدموع في عينيها :
- يا رب حن على هالشباب وهالطفال .
دخلت سكينة فاصطدمت برقية زوجة سالم وهي خارجة تزمجر فصاحت بها :
- روحي عالحرب يا رقية .. بس القوم يشوفوكي برجعوا .. ويمكن يطقوا ويموتوا والسلطان
بعطيكي الحلوان .
ردت رقية بلؤم :
- أحسن ما يشوفوا مياصتك ويطمعوا في بنات المسلمين .
تضاحكت النساء .. قالت زوجة شيخ الحارة :
- ال يجازيكي يا سكينة .. ضحكتينا والدموع في عينينا .
قبل آذان الجمعة توقف قرع الطبل .. صعد الشيخ محمود وحبوش العمى الى سطح
المسجد .. قرأ الشيخ محمود بصوت جهوري الفرمان السلطاني ..
- من أمير المؤمنين وخليفة المسلمين .. السلطان سليم خان .. حامي حمى الحرمين الشريفين
وخاقان البرين والبحرين .. وظل ال في الرضين .
أما بعد :
يا جماعة الموحدين .. وملة المسلمين ..اعلموا أن الطائفــة الفرنســية .. جعــل ال
ديارهم دارسة .. وأعلمهم ناكسة .
سكت الشيخ محمود حتى يؤمن أهل الحارة على دعاء السلطان .. فأمنوا بأصوات متفرقـة ..
وبدون حماس .. فتابع الشيخ القراءة :
لنهم الكفرة الطغاة .. والفجرة البغاة .. ل يؤمنون بوحدانيــة رب الســماء والرض .. ول
برسالة الشفيع يوم الفرض .. بل تركوا الديان كلها .. ونكروا الخرة .. ول يعتقدون بيــوم
الحشر والنشر .. ويزعمون أن ل يهلكنا إل الدهر .
مال سالم على نظمي أفندي :
- أليس هذا اعتقادك أيضا" .. لعلك تقرأ أنت والفرنسيس على شيخ واحد .
أشار له الكلغاصي بالسكوت فسكت .. تابع الشيخ محمود :
- حتى أنهم نهبوا أموال كنائسهم .. وحملة صلبانهم .. وأغاروا على قسوسهم ورهبــانهم ..
وزعموا أن الكتب التي جاء بها النبياء هي كذب صريح .. وليس القرآن والتوراة والنجيــل
إل زورا" وأقاويل .
تحسبن الريفي بصوت جهير .. وأخرج علبة نشوقه .. تنشــق وعطــس .. ســرت
همهمة في الجمع الحاشد .. اهتزت العمائم البالية وتماوجت القنابيز المرقعة .. تحسبن الناس
وحوقلوا وهو يستشرفون خطرا" ل يدركون كنهه .
تابع الشيخ محمود :
- ويقولون أن الناس كلهم متساوون في النسانية .. متشاركون في البشرية .. ليس لحد على
أحد فضل أو مزية .. وعلى هذا العتقاد الباطل .. والرأي الهازل .. بنوا قواعـد جديـدة ..
وقوانين أكيدة .. وشبوا على ما وسوس لهم الشيطان .. وهدموا قواعد اليمــان .. وحللــوا
لنفسهم المحرمات .. وأباحوا لنفسهم ما تميل إليه الشهوات .
وقد افتنوا بين الملل .. وألقوا الفساد في الملوك والدول .
بعد أن انتهى الشيخ محمود من القراءة .. لكز حبوش كي يرفع الذان .. رفع حبوش
آذان الجهاد .
- حي على الجهاد .. حي على الجهاد .. ال أكبر .. ال أكبر .. ل إله إل ال .
دخل الرجال المسجد لداء الصلة .. وتفرقت النساء إلـى بيـوتهن .. أمـا طبـوع
أبوالرواكي فقد وجدها فرصة ليفر من معلمه ( السي ) السقاء حل قربة الماء عن ظهره ..
رمى بها إلى جدار الساقية .. ركب جريدة نخل وحمل سيفا" من الخشب ..سار يتبعه صــبية
الحارة وهم
يهتفون :
الســلطان حامينا .. ويلك ياللي تعادينا
إللـــي معـانـــا ال معــــاه
وإللــي علينـــا ال عليـــــه
بعد الصلة لم ينس حبوش أن يدعو الناس إلى الكثار من قراءة الموالــد .. وعمــل
الختمات .. وترديد الوراد والدعية .. حتى يكشف ال الغمة عن المسلمين .
قال له شهوان :
- في الحرب تروج صنعتك يا حبوش وتبور صنعتي .. سوف تكون قبور كثيرة تشبع فيهــا
لطما" وقراءة وصرف ختمات .. أما الشبابة فهي طائر الفرح .. ل أظن لها مكانا" فــي هــذا
السواد القادم.
هز حبوش رأسه يمنة ويسرة .. وهو يعوذ نفسه بال من عين شهوان الــتي تفلـــق
الحجـر .. ومضى أدراجه وصوته يهـدر على الطـريق .. ( من شر غاسق إذا وقب ومن
شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ).
مبارك لم ينتظر حتى يصلى السنة .. حمل نسخة من الفرمان السلطاني .. طار بهــا
إلى تاج الدين .. قرأ له نص الفرمان .. وانتظـر تعليقه .. ظل تاج الدين صامتا" متشــاغل"
بحبات المسبحة يحركها بين أصابعه .. سأله مبارك :
- ماذا تقول في ذلك يا مولنا ؟
- أقول يا مبارك قوله تعالى : (( ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع .. ونقص من المــوال
والنفس والثمرات .. وبشر الصابرين )) .
حين وصل الخبر إلى وادي الزيت .. قال المقدم صقر :
- هذا كله جاء في الجفر .
التفت إليه الحاضرون فتابع حديثه :
- حينما أدركت التبع اليماني الوفاة .. بعد أن طعنه كليب وائل .. أمرهم بأن يكتبوا عنه مــا
علمه من الجان .. حول مصير الدنيا وما سيقع فيها بعد وفاته .. وقد ســمي هــذا الكتــاب
الجفر .
سأل جوهر :
- وما علقة الجفر بما نحن فيه .
- تنبأ التبع بخراب غزة واللد والرمله .. فقد جاء في الجفر .
وتخرب غزة وأطرف يبنا .. ويعلى الضيم لد والرمال
ويصير الوبش ما يحمي عجوز .. ويصير العز في ظهور الجبال
نظر الحاضرون إلى يونس لسماع تعليقه .. لم يعلق بشئ
سأل جوهر :
- أتؤمن بهذه الخرافات وأنت المقدم صقر ؟!
نظر المقدم صقر الى يونس مستنجدا" .
قال يونس وهو يربت على ظهره :
- يا صقر قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا .. هو مولنا فنعم المولى ونعم النصير .
¯¯¯
دخل جوهر خان الزاوية .. لم يكن الرواق الخارجي للخان مكتظا" .. رغـم أن هـذه
هي الليلة الرابعة من ليالي رمضان .. ورغم أن الشاعر الماوردي كان يتصدر المكان علــى
دكته العالية .. يصول ويجول :
( صرخ إبراهيم الحوراني بعالي الصوت ) :
- نجاب وحامل كتاب .
انهزت دروندات الجبال من عزم صوته .. مال ملك الفرنج مرعوب علـى جيـوان
المتلعب بالديان .
- يا جيوان إيش هالرعد القاصف وإحنا في تموز العنب والتين .
قال جيوان :
- يا مولنا هادا مش رعد .. هادا صوت نجاب المسلمين .. جايب لك مكتوب من الظــاهر
بيبرس.
اصفر وجه الملك :
- إذا كان هادا صوت المسلمين .. كيف أفعالهم يا جيوان .
قال جيوان :
- ل تنغر يا مولنا .. هدول المسلمين حس من غير أريه .. بس تمطــر الــدنيا بفشفشــوا
وبموتوا زي الجعارين .. وبنعمل الجوامع صوامـع .. والمدارس كنايس .. وبنصير أفخــر
ملوك الرض .. من طولها والعرض .
اتخذ جوهر مجلسه إلى جانب شهوان .. طلب له شهوان كأسا" من السحلب :
- أين ذهب الناس ؟ أمس لم تكن تجد مكانا" من كثرة الزحام .
ناوله الصبي الكأس .. ارتشف رشفة من الشراب الساخن :
- يبدو أنك لم تسمع النبأ ؟
- أي نبأ يا شهوان ؟
- احتل الفرنسيس قلعة العريش .. وهم يعدون العدة للزحف على غزة .
غص جوهر بشرابه :
- هيا بنا نلحق بيونس .
في مضافة شيخ التفاح كان الخبر قد سبقهم .. جلسا بين أهل الحارة واجمين .. تــابع
شيخ الحارة :
- أرسل بونابرته رسول" إلى أحمد باشا الجزار يعلمه بقدومه ويطلب إليـه المسـالمة .. لـم
يتنازل الجزار بالرد عليه .. أرسل رسول" آخر .. أمر الجزار بقتله وصلبه على سور عكــا
وأمر عماله وقادة جنده بالستعداد لقتال الفرنسيس .
قال يونس :
- زارني درويش باشا أمس وقال لي ( أنت فارس عظيم .. وحولك المغاوير من رجالــك ..
لو حاربت معنا فلن تنسى الدولة معروفك ) .
لو رأيته يا عمي .. ذلك الديك التركي .. تحول إلى دجاجة هزيلة ترتعد من الخوف.
- بم أجبته ؟
- قلت له تمنيت لو أن هؤلء الغزاة مسلمين مثلنا .. إذا لقاتلناكم معهم جنبا" إلى جنب حــتى
نخلص الرض من ظلمكم وفسادكم .. أما وهم كفار فأغلب الظن أننــا ســنلتزم الحيــدة ..
ولينصرن ال من يشاء .
دخل سالم المضافة مهرول" .. ألقى التحية وجلس يلهث .. التفت إليه شيخ الحارة :
- هات ما عندك يا ابن أخي .
- نصارى المدينة المائة .. تركوا بيوتهم في عهدة خوري الطائفة ورحلوا إلــى الجليــل ..
خافوا أن يتهمهم الباشا بالموالسة مع الفرنسيس لنهم مثلهم على ديـن المسـيح .. ويتخـذها
ذريعة لنهب أموالهم .
- ثم ماذا يا بشير الخير ؟
- التراك أيضا" بعثوا عوائلهم إلى اسطمبول مع حريم الباشا .
قال شهوان :
- هكذا يخص الباشا سارة بكل وقته .
دخل نظمي افندي يتبختر في مشيته كالطاووس .. يحمل البشرى لهل الحارة ..
- صارت غزة أمنع من عقاب الجو .. إمدادات تصل تباعا" .. أطواب وعدة حرب .. قبيقول
وانكشارية ومماليك ( لحظ نظمي أنهم لم يتحمسوا لحديثه فأراد أن يفاجئهم بخبر لم يتــوقعه
أحد ) .
درويش باشا أبطل السخرة والمظالم ونهب الرزاق .. وأعلن أن كل إنسان من دون
حقه.
قال شيخ الحارة :
- وفيم العجلة .. كان أجدر به أن ينتظر حتى يدخل الفرنسيون غزة ثــم يفــاجئهم بــإعلنه
العظيم .
تجاهل نظمي أفندي ملحظة شيخ الحارة التي لم تكن وديــة علــى الطلق وتــابع
الحديث :
- لقد عدت لتوي من معسكر المماليك.. رأيت إبراهيم باشا وهــو يشــرف علــى تــدريب
عسكره .. اال ال كيف يحسن هؤلء المماليك ألعاب الفروسية .. وأبواب الحرب مـن كـر
وفر ومجالدة بالسيف .. لو رأيتم خيلهم الصيلة أين منها خضرة دياب ابن غانم .
قال يونس :
- ألم يرسل إبراهيم باشا زوجاته وأمواله إلى نابلس في القافلة الخيرة ؟
رد عليه شيخ الحارة :
- ذلك لشدة ايمانه بالنصر .. لو كان جحا بفلح لفلح أرضه .. لماذا لم يحاربهم في مصر بدل"
من الهروب بمماليكه كل هذه المسافة .
نهض يونس مهموما" وذهب إلى بيته في الحارة .. كانت فاطمة مريضة .. جاءهــا
الوحم شديدا" هذه المرة .. وإنه ليخشى أن تتفاقم حالتها رغم عناية أمها ومرجانة وسكينة وكل
جاراتها .
حين دخل البيت فوجئ بمبارك يجلس حزينا" وقد وضع رأسه في راحتيه :
- أنا رسول تاج الدين إليك .
- السمع والطاعة .. هيا بنا .
- ل يريد تاج الدين أن تذهب إليه .. بل يريد أن تصدق النية على الجهاد .. أن تعد لهــؤلء
الفرنسيين ما تستطيع من قوة ومن رباط الخيل .. وأن ل تستنكف من القتال بقيادة الجزار أو
أي من رجاله .. فجهاد الكفار تحت راية حاكم فاسق جائز في السلم ول ينقص في الثـواب
عن الجهاد خلف المام العادل .. مادام ذلك دفاعا" عن ديار السلم .
وقد أرسل تاج الدين فتواه تلك لكل تلميذه وأنصاره ومن توسم فيهـم الغيـرة علـى الـدين
والوطن .
- عجبت لتاج الدين .. يفتي بالخروج على سلطان الحاكم الظالم ونقض البيعة له في عكا ثـم
ل يلبث أن يدعو الناس إلى الجهاد خلفه في غزة .
- لقد اراد تاج الدين أن يخرج بنفسه لمجاهدة الفرنسيس .. وكتب إلى الجزار يستأذنه في ذلك
ويحثه على الصمود في وجه الكفار صابرا" محتسبا" ويبين له ما للجهاد من فضل على ســائر
العبادات .
- وبماذا أجاب الجزار ؟
- أمر بتشديد الحراسة عليه في السجن وعين للسجن آمرا" جديدا" ل يتهاون أبدا" وله عيـون ل
تغفل ول تنام .
- ولماذا لم يخرج عنوة وتحت ظلل السيوف كما أردنا له ؟
- ل يريد أن تساور الجزار الشكوك حول مقاصده فيثبط ذلك من عزمــه وتصــميمه علــى
مقاومة الفرنسيس أو يشتت جهوده بين مقارعة الغزو وملحقة الشيخ وأتباعه .
- وأنت يا مبارك ما الذي تراه ؟
- سألني شيخي مرة .. هل تدري يا بني لم خلقنا ال ؟ أجبت بقوله تعالى ( وما خلقت الجــن
والنس إل ليعبدون ) قال أوتدري ما هي العبادة : قلت الصلة والصوم والزكاة والحج .. قال
يا بني كل ذلك مدخل إلى العبادة فقط .. لقد استخلفنا ال في أرضه ول تصح العبادة إل بحسن
الستخلف في الرض .. إن علينا أن نسمو بأنفسنا عن الدنايا .. وأن ننحاز إلى جانب الخير
في صراعه مع الشر .. وإلى جانب الحق في صراعه مع الباطل .. وإلى جانب الجمال فــي
صراعه مع القبح والدمامة .. عندها ينظر ال إلينا فنجمل في عينيه ويباهى بنا الخلئق .
ربت يونس على كتف مبارك بحنو وهو يصاحبه إلى الباب :
- لم يضع وقتك سدى مع تاج الدين يا مبارك .
¯¯¯
اصطحب يونس جوهر واثنين من العبيد إلى سوق السروجية .. أصدر يونس تعليماته
لشيخ السروجية بما يلزم لخيله من إعداد وعدة .. إنحدر إلى سوق الحدادين اشترى ما طــاب
له من السيوف والدروع .. لم ينس وصية المقدم صقر .. اشترى لــه طــبرا" مــن البــولد
المسقي .. عرج إلى الجباخانة حيث تباع الغدارات والبنادق والطبنجات .. كانت كل البنــادق
الدك بماسورة واحدة ولكن حسن حظه أوقعه في بندقية حسب أل مثيل لها في العالم .. بندقية
بماسورتين .. قال له البائع :
- هذه ألمانية .. تدك الماسورتين بالبارود والخرق .. ثم تطلق أول مرة وثاني مرة طلقــتين
متواليتين .
قلبها بيديه في إعجاب :
- هذا هو السلح .
اشتراها دون أن يفاصل في السعر .
في طريق العودة مر يونس بخان الزيت .. أكبر خانـات غـزة .. كـان البيـك آل
رضوان صاحب الخان يجلس على المصطبة .. بجانبه أبو الطايع صــاحب خــان الزاويــة
ورشيد عليان وعدد من وجهاء المدينة وأفنديتها .
حين لح موكب يونس .. همس ابو الطايع في أذن البيك :
- الشيخ يونس صاحب وادي الزيت .. قم بنا لستقباله .
هرعا إلى حصان يونس فأمسكا بلجامه .
قال أبو الطايع :
- هل شرفت أخي وصديقي البيك بالنزول عنده قليل" ؟
أضاف البيك :
- لقد سمعنا عنك كثيرا" يا سيد يونس من تجار الزيت الذين ينزلـون فـي الخـان وتشـوقنا
لملقاتك والتعرف عليك .
ترجل يونس عن جواده .. سلمه لجوهر ومشى مع مضيفيه .. صافح الفندية الواقفين
.. اتخذ مجلسه بين البيك وأبي الطايع .
ابتدره البيك مرحبا" ..
- رمضان كريم .
- ال أكرم .
ثم تابع البيك وهو يشير إلى أحد الجالسين :
- لعلك تعرف صديقنا الدريملي شيخ الحدادين .. استدعاه درويش باشا لكي يدفع لــه أجــرة
الحدادين الذين أعدوا السيوف والحراب والبلطات للجنود .
صديقنا رفض أن يقبل قرشا" واحدا" .. قال للباشا ( إن أجرنا على ال ) .
هنأه يونس :
- بوركت وبورك رجالك وفي الحديث (( من جهز غازيا" فقد غزا )) .
رد الدريملي :
- لست وحدي من فعل ذلك .. أهل حارة الزيتون اشتغلوا في إقامة التحصينات حول المدينة
ليل نهار .. ورغم أن الباشا أبطل السخرة منذ سقطت قلعة العريش .. إل أنهــم رفضــوا أن
يتقاضوا شيئا" مقابل عملهم الدؤوب .
قال شيخ الحارة للباشا حين قدم له المال :
- لن نضن بأرواحنا في الدفاع عن بيوتنا وأهلنا .. فكيف نضن بالمال ؟ ثم أشار إلى عسكر
الباشا من الرناؤوط والشركس وغيرهم .. ادفع لهؤلء يا باشا .. عسى أن يصمدوا في غزة
ول يفعلوا ما فعلوه في العريش .
سأل يونس كمن يدافع خاطرا" كدر عليه صفوه :
- أتظنهم إذا اشتدت بهم الحرب يتركوننا ويفروا ؟
قال أبو الطايع في سخرية :
- إذا اشتدت ؟ وهل سينتظرون حتى تشتد .. لقد بدأوا في الفرار منذ الن
تطوع رشيد عليان بتوضيح ما يقصده أبو الطايع :
- شيخ المشايخ تيمور الضرغام .. اصطحب غلمه يلماز وهرب إلى الشام تاركا" نســاءه
الربعة للدفاع عن المدينة .
تمتم يونس بغيظ :
- الفئران تتراكض خارج السفينة الغارقة .
قال البيك وقد لحظ سيماء يونس :
- لماذا تكدرون ضيفنا بهذه الخبار .. هل تريدون أن يزهد في مجلسنا ؟ ل تعرهم التفاتا" يا
سيد يونس .. هذه المدينة محرمة على الكفار حسب ما يؤكد القاضي معروف .
أمسك البيك هنيهة ثم تابع :
- مولنا القاضي لحظ أن الباشا في الونة الخيرة يوسع النفقة .. فقرر المساهمة في الجهد
الحربي حتى ينوبه من الحب جانب .. صعد إلى الدبوية وقال للباشا ( غزة هذه هــي غــزة
هاشم .. والسيد هاشم جد الرسول هو المسئول عن حمايتها من الكفار .. وقــد علمنــا مــن
أجدادنا .. أن الكفار حين يصلون مشارف المدينة كل مرة .. يخرج لهم السيد هاشم بســيف
من خشب .. فل يكاد يشير بالسيف نحوهم حتى تطير رؤوسهم عن أجسادهم قولوا دستور يا
سيد هاشم .
قال الحضور بصوت واحد :
- دستور .
تابع البيك :
- اقترح مولنا القاضي أن يخرج الدراويش وأهل الطرق بالعدة والصاجات والطبول .. وأن
يطوفوا بالسيد هاشم ويتضرعوا له ويقعوا في عرضه حتى يقوم بحماية مدينته .
أعجب الباشا بالفكرة .. أجزل العطاء للقاضي ولمشـايخ الطـرق .. خـرج بنفسـه
معهم .. شارك في حلقة الذكر التي نصبوها عند المقام .
علق يونس ساخرا" :
- هكذا إذا ضمنا النصر على الفرنسيين .
حمل أهل الحارة نساءهم وأطفالهم إلى وادي الزيت .. ريثمــا تنجلــي المعركــة ..
توزعوا على المغاور والكهوف .. بعضهم اتخذ له خيمة أوبيتا" من الشعر .. حين مــر بهــم
شيخ الحارة يدعوهم إلى الجهاد قالوا له
- الجهاد يا شيخ الحارة في سبيل ال وليس في سبيل تيمور الضرغام وعصابته .
بعضهم كشف له ظهره ليريه أثر سياط الجباة .. حين عجز عن دفع ما على أرضــه
للملتزم .
البعض الخر تخلص بلباقة خشية انتصار التراك .
- يا اختيار إحنا فلحين .. الحرب صنعة العسكر .. إللى بياكلوا خبز السلطان يضربو بسيفو
.
حين عاد إلى يونس لم يكن معه من أهل الحارة سوى مبــارك وصــديقيه رضــوان
البطش وفرج السويسي .. الذين جاءا كرمى لمبارك .. وشهوان والشيخ محمود .
جمع يونس رجاله ..
- كنتم لي نعم العوان .. حاربتم معي ببسالة .. أحسنتم الصحبة .. إني فخور بكم .. معركة
غد ل تشبه أيا من حروبنا الماضية .. الذين أمامنا ليسوا عصابة من قطــاع الطــرق .. ول
قبيلة من القبائل الغازية .. هذا جيش ل مثيل له في عدته وعدده .. من شاركني القتال وأبلى
معي بلء حسنا" فهو حر لوجه ال .. إن شاء مصاحبتي بعدها فلـه مكانة أخي جوهر .. وإن
شاء أن يرحل فله ما يريد ونعينه على ذلك بكيس من المال
قال شيخ التفاح :
- ل درك .. ل درك .
تصايح العبيد :
- نحارب معك .. لقد رضيناك سيدا" .. لن نخذلك مادام فينا رمق .
دخل يونس الدار .. كانت فاطمة تضع له الزوادة في خرج الحصان .. نظرت إليهــا
كأنها تحاول أن تزود عينيها منه .. احتضنته بقوة .. قبلها في رأسها وأشار إلى مرجانــة ..
تساندت على كتف مرجانة وهي على وشك السقوط .
لحظ أن الحمل بدأ يظهر عليها واضحا" .. كان ذلك شهرها الخامس .. سحب حصانه
عند باب الفناء تلفت إليها .. كانت تجاهد الغماء .
هتف بلوعة :
- استودعك من ل تضيع عنده الودائع .
لوح لها بيده .. ومضى .
قاد يونس رجاله إلى المدينة .. كانت رياح شباط تعول في الحقول .. محاولـة اقتلع
كل شئ أمامها .. الشجار السامقة أحنت هاماتها لكي تمر الريح .. عندما وصلوا ضريح أبي
العزم .. هدأت الريح قليل" .. توجهوا صعدا" في الطريق إلى الدبويـة .. اهـتزت الشـرفات
بالهتاف والزغاريد .. لم يملك يونس إل أن يشهر سيفه ويلوح به :
- الروح من دونكم .. الروح تفداكم .
استلم يونس ورجاله مواقعهم خلف التحصينات .. قبل غروب الشمس أشعل الرجــال
النار والتفوا حولها فيما تولى مبارك المراقبة .. هشم المقدم صقر رغيفا" من الخـبز نصـفين
بطبره .. وأدناهما من النار .. انطلق آذان المغرب .. تناول يونس إبريق المـاء وشـرب ..
( اللهم لك صمت .. وعلى رزقك أفطرت .. وغدا" إن شاء ال نويت ) .
احتج شيخ التفاح :
- أتنوي صيام غد وأنت تعلم ما سيكون فيه .
- وال يا عم ما أفطرت يوما" واحدا" من رمضان منذ احتلمت .. ول أنوي أن أفعل .. سوف
أستعين بال على ما سيكون .. والثواب على قدر المشقة
تناول الرجال إفطارهم بصمت وعيونهم تحدق في الظلمة .. خيم صمت ثقيل فادح ..
حتى صوت الريح توقف .. حتى عواء بنات آوى .. همس شهوان للمقدم :
- أشعر بالوحشة يا عماه .. وحشة تنهش القلب .
- أما أنا فأشم رائحة أعرفها جيدا" .
- أية رائحة يا عماه ؟
بدأ شهوان يرتعد وتصطك أسنانه :
- رائحة الموت .
في الفجر كان درويش باشا قد استكمل كل اسـتعداداته لملقـاة الفرنسـيين .. أقـام
التحصينات حول المدينة في الماكن التي تهدمت من أسوارها القديمة .. نصــب الطــواب
داخل التحصينات .. وزع التعزيزات التي أرسلها أحمد باشا الجزار على المواقع المشرفة .
قال التفكجي باشا رئيس القراقول لمساعده لظوغلي أغا :
- ما أظن هذه الطواب صالحة للعمل .. فمنذ تجريده محمد أبو الذهب على بر الشام لم تجر
صيانتها أو فحصها .. طلبت من الباشا تجربتها بعد سقوط العريش لم نجد بــارودا" .. حيــن
وصل البارود كان الفرنسيون قد اجتازوا وادي غزة .. خشي درويش باشا أن يسمع بونابرت
صوتها إذا جربناها فيأخذ حذره .
هز مساعده رأسا كرأسu الملفوف :
- عفارم درويش باشا عفارم .. معلوم لزم مفاجآت .. الحرب خدعة أفندم .
في السهل الذي يمتد من وادي غزة حتى أعمدة الشـهداء .. علـى أطـراف حـارة
الزيتون .. كان كل الجانبين يحضر المسرح للحرب القادمة أربعـة آلف خيـال بغـداراتهم
وسيوفهم اصطفوا في مواجهة عشرة آلف من جنود نابليون .
في القلب اصطف وجاق القبيقول وعلى الميمنة وجاق النكشـارية وعلـى الميسـرة
مماليك ابراهيم الهاربين من مصر .. السبهلية والعيوانية ومتطوعوا الحارات اتخذوا مواقعهم
خلف التحصينات المحيطة بالمدينة .
صهلت مدافع الفرنسيين .. تساقطت القنابــل المحكمــة التصــويب علــى الخيالــة
والتحصينات .. أصدر درويش باشا أوامره بالهجوم .. انطلق الخيالة لللتحام بالجيش الغازي
.. لم يبتعدوا كثيرا" .. كانت طلئعهم قد وصلت مرمى رشاشــات الفرنســيين .. حصــدتهم
النيران .. عادت بعض الخيول المصابة تسحب أشلءها وتصيح مجنونة .. تأكد درويش باشا
أن أحدا" من خيالته لن ينجو إذا واصل هجومه .
اشتد قصف المدافع وعلت سحب الدخان .. لم يستطع فارس واحــد القــتراب مــن
خطوط الغزاة .
وقع في ذهن درويش باشا بأنهم سحرة لهؤلء الكفار .. لن الذي رآه كان أقرب إلى
السحر .. ذلك الخط الذي تساقطت عنده الخيالة ولم ينج أحد .
مرت ساعات لعينة قبل أن يأمر درويش باشا خيالته بالنسحاب إلى داخل التحصينات
.. استدعى درويش باشا رئيس النكشارية ورئيس المماليك إبراهيم باشا للتشاور .. فلم يعثر
لهم على أي أثر .
باقي الخيالة والعسكر لم يتوقفوا طويل" في انتظار تعليمات الباشا .. لم يبق حول التحصـينات
سوى بعض الجند والمتطوعين من الهالي .. قال المقدم صقر لشهوان وهو يراقــب رحيــل
الجنود:
- أل ترى هذا الطوب ؟ لقد استعملنا واحدا" مثله فــي حــرب المســكوب .. وأســتطيع أن
أعالجه .. تعال معي .
تبعه شهوان وهو ذاهل عن نفسه .. ها هي الحرب التي اشتهاها ذات يوم .
ناولني تلك القلة .. هناك .
انفجرت قذيفة للفرنسيين خلفهم .. قطع حصان شيخ الحارة عنانه وفر هاربــا" علــى
وجهه .. حاول مبارك اللحاق به .. لكنه رآهما يعالجان المدفع فهرع إليهما .. يده مــع يــد
شهوان .. حمل القلة والقماها بوز المدفع وضع المقدم صقر بعض البارود في الثقب وأشــار
بيده .. انبطحا على الرض .. أدنى الشعلة من الثقب .. وانبطح هو الخر .. دوى انفجــار
رهيب .. خرجت القلة تصفر باتجاه مواقع الفرنسيين .
- إلي بالثانية .
لكن الثانية رفضت النطلق .. أشار لهم المقدم :
- أهربوا قبل أن تنفجر فينا .. ولو الدبار ..
لمح يونس ثلثة من خيالة الفرنسيين يقتربون من التحصينات .. مد ماسورتي بندقيته
الجديدة باتجاهم .. فعل العبيد مثله .. قال شيخ الحارة
- إنهم يقتربون من أعمدة الشهداء .. هنا خاض صلح الدين معركة فاصلة مـع الصـليبيين
معركة أنقذت غزة من السر .
حبس الجميع أنفاسهم .. اقترب وقع السنابك .. صاروا في مرمى السـلح .. أشـار
يونس للرجال .. انطلق الرصاص .. أطلق يونس الطلقة الثانية على آخر الخيالــة .. هتــف
شيخ التفاح :
- ال أكبر .. لقد سقط الثلثة بين العمدة .. سقطوا على آثار من سبقهم من الغزاة .. أعــاد
يونس ورجاله تعبئة بنادقهم وانتظروا .. لم يظهر أمامهم أحد .. أشار أحد العبيد :
- إنهم يجتازون التحصينات .. هناك انظروا .
هتف يونس :
- إليj بالشعل .
امتطى جواده وصرخ :
- فتحت أبواب الجنة .. لبيك اللهم لبيك .
لكز جواده فطار به إلى حيث الفرنسيس .. لم يكد يبتعد حتى عاجلته قذيفة مــدفع ..
رآه شيخ الحارة يطير بحصانه إلى السماء السابعة ثم يهويان .. كلهما إلى الرض .. القذيفة
الثانية عجنت لحمه بلحم حصانه .
أعول جوهر :
- الحياة بعدك حرام .. وانطلق إلى موقع الفرنسيس .
شيخ التفاح أحس الضربة تقصمه .. ظل ذاهل" خلف التحصــينات إلــى أن اجتــازه
الجيش المهاجم .. هدأ كل شئ حوله .. خيم صمت فادح فداحة الفجيعة والثكل .. لم يعــرف
شيخ الحارة كم مر عليه من الوقت .. قبل أن يعود حصانه الهارب .
مد الحصان رأسه وأخذ يمرغ وجهه في صدر شيخ الحارة .. أمسك شــيخ الحــارة
بلجامه وقاده إلى حيث سقط يونس .. جمع ما استطاع استخلصه من جسد صهره ووضــعه
في خرج الحصان .
انطلق إلى مقام سيدنا هاشم .. فتح باب المغارة تحت المقام وسجى بقايـا صـهره ..
أهال التراب على باب المغارة ووقف يقرأ الفاتحة .. قبل أن يغادر التفت نحو المقام :
- ها هو واحد من أرومتك يرقد إلى جوارك وقد نال الشهادة .. فلنعم الجــوار فــي الــدنيا
والخرة .. لنعم الجوار في الدنيا والخرة .
تذكر فاطمة فانخرط في البكاء .
أحاطت خيول الفرنسيين بجوهر من كل جانب .. صاح قائدهم :
- أريده حيا" .
ألقوا عليه الحبال .. كتفوه وطرحوه أرضا" .
سأله بونابرته :
- لماذا تحارب وقد هرب العسكر وأهل المدينة ولم يبق سواك ؟
أجاب جوهر :
- قتلتم سيدي يونس .. أعيدوه لي حيا" إذا أردتم سلمي .
هز نابليون رأسه بأسى :
- ل نستطيع إحياء الموتي أيها العبد الوفي .
ثم أشار بيده :
- خذوه مع السرى .
التفت ساري عسكر إلى الضباط خلفه :
- تقدم يا شامبليون .. ها هي أول مدن الشام الكبيرة تسقط في أيدينا .. ما أسهل ما أحرزنــا
من نصر .. ماذا تقول كتبك عن هذه المدينة ؟
- سيدي !
- أعرف يا شامبليون أن هذا ابتذال .. لكن نبذة صغيرة لن تضير جلل التاريخ في شــئ ..
كم عمر هذه المدينة ؟
- المدينة موجودة منذ عصر البرونز .. ( كانت الخيل تخب بهم صعدا" إلى غزة ) .. لم تكن
تحمل نفس السم أو الملمح .. لكنها كانت في أوج ازدهارها حين غزاها الهكسوس قبل ستة
آلف سنة .
- أوج ازدهارها .. يا لمبالغاتكم أيها المؤرخون .. هل كانت باريس مثل"
- لم تكن باريس موجودة في ذلك الوقت .. ولم تكن فرنسا أيضـا" موجـودة كـان أجـدادنا
يخوضون عراة في مستنقعات ما حول نهر السين ..
في الوقت الذي بنى فيه أهل هذه المدينة القصور المزودة بغرف الستحمام الرحبــة
ومجاري المياه .. وغرف النوم ذات السرة المصنوعة من الخشب .. والوســائد المحشــوة
بريش النعام .. كانت شوارع هذه المدينة في ذلك الوقت معبدة .. تقطعها العربات التي تجرها
الخيل .. إن أهلها يا سيدي أصحاب حضارة رائدة .
- حضارة ؟! أهذه المسوخ المتخلفة هي وارثة تلك الحضارة .. تبا" للحضارة إذن .
سكت شامبليون ممتعضاv .. لكن القائد استحثه :
- أكمل يا شامبليون .
- حكمها الهكسوس حين حكموا مصر .. فلما انتصر عليهم أحمس أول ملوك مصر وأجلهم
عن بلده .. طارد فلولهم إلى هذه المدينة .. ثم دمروها على رؤوسهم تدميرا" شامل" .
- متى حملت المدينة هذا السم ؟
- حين عمرها الكنعانيون منذ ثلثة الف سنة قبل الميلد .. سموها غزة ومعناها في لغتهم (
العزة والكبرياء ) .. توالت عليها الغزوات طمعا" في مركزها التجاري بيـن مصـر والشـام
وجزيرة العرب .. إضافة إلى خصوبة أرضها وكثرة غللها .
- ماذا سيقول التاريخ عني يا شامبليون ؟
- ما قاله عن الفاتحين العظام قبلك .. هذه المدينة يا سيدي هي سـرة العالم .. كلهم مروا من
هنا .. الذين فتحوا الشرق والذين فتحوا الغرب أيضا" .
أحمس .. نبوخد نصر .. السكندر .. يوليوس قيصر .. منهم من ترك توقيعه علــى
قطعة من النقود أو كسرة من الجر .. ومنهم من لم يفعل .. كلهم جاءوا وذهبوا وبقيت هــذه
المدينة .. ل الزلزل ول الوبئة ول الطوافين استطاعت أن تقتلها .. في كل مرة كانت تولد
من رمادها
كما تولد العنقاء .
- أرى أنك وقعت في حب هذه المدينة يا شامبليون .. هل ستشفيك من حــب وادي الملــوك
وحواضر الفراعنة ؟
- المدن كالنساء يا سيدي .. كل مليحة بمذاق .
- إذا كانت المدن كالنساء كما تزعم فإن غزة ل تبدو لي أكثر من عجوز حيزبون .. أما زلتم
تعملون في كتاب وصف مصر ؟
- نعم يا سيدي .
- ربما توجب على علمائنا إضافة فصل عن وصف سوريا .. أم أنك ترى وضع ذلــك فــي
كتاب مستقل ؟
- المور مرهونة بأوقاتها يا سيدي .
اقترب أحد الفرسان من بونابرت وأدى التحية .
- ما وراءك يا بورين ؟
- وجهنا قوة إلى القدس عن طريق الرملة .. وقوة أخرى لتعقب الجيش المنهزم حتى مشارف
يافا للبدء في حصار المدينة .. ريثما تصل باقي قواتنا .
- يافا أمرها هين يا بورين .. المهم لدي عكا .. لو فتحت عكا فــإنني سـأجد فيهــا كنــوز
الجزار .. وأسلحة تكفي ثلثمائة ألف جندي .. عندها أهيج أهل ســورية الــذين يبغضــون
الجزار لظلمه وأسلح منهم جيشا" عرمرما" أفتح به دمشق وحلــب .. سينضــم لــي الهــالي
كمخلص لهم من المظالم .. أسير بهم إلى الستانة .. وأنشئ في المشرق امبراطورية عظيمة
الشأن .
¯¯¯
رواية العنقاء كاملة :الجزء 27: