رواية العنقاء كاملة : الجزء 17: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942 المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------
رواية العنقاء كاملة :الجزء 18:
رواية العنقاء كاملة :الجزء 16:
----------------
استمر المطر لليوم الرابع .. بدأت بركة قمر ترشح المياه باتجاه الحارة .. أحس
أهل الحارة بالخطر القادم .. بدأوا بتحصين مداخل بيوتهم حتى ل يقتحمها السيل ..
: بعضهم بنى مدماكا" في باب داره وبعضهم بنى مدماكين .. قال شهوان لزوجته
لن ينفعنا بناء الباب ولو بنيناه كله فبيتنا أوطأ بيوت الحارة .. خير لنا أن نرحل إلى -
بيت الزهار قبل أن تغمرنا المياه .. لقد دعانا الزهار للقامة عنده حتى يتوقف
المطر .. انهمك شهوان في إفراغ الحرادس من بقايا الغلة في أكياس صغيرة .. جمعها
في شوال وضعه على ظهر الحمار .. ثم رفع الفراش عليه وحزمه بالحبل .. وقال
:لزوجته
. اجمعي ثيابك وهاتي عطية والحقي بي -
: أجابت بسخرية
. قالوا للعنز ارحلي .. قالت توب عليه وتوب على الوتد -
غاصت سيقان الحمار في الوحل إلى الركبة قبل أن تصل إلى بيت الزهار ..
أفرغ شهوان الحمولة وربط الحمار في البايكة وعاد لصطحاب زوجته التي تأخرت
عن اللحاق به .. وجدها مستندة على الباب وقد أخذتها نوبة من القيئ .. هرع إليها ..
احتضنها وأجلسها على حافة اليوك .. ما بك .. هل أصابك البرد ؟
بل هو ضيف جديد يا شهوان .. أخا لعطية وربما أختا .. ماذا تريد هذه المرة ؟ -
. بل اريده أخا" لكي يصبح في بيت شهوان ثلثة حصادين -
ضمها إلى صدره وضحكا من القلب .. ها هي مريم التي أحبها تظهر أخيرا"
عطوفة رقيقة ممتلئة حبا" .. ل شراسة ول عنادا" ول لوما" تقريعا" .. ود لو أن اللحظة
تطول بهما إلى البد .. ولكن مريم نهضت تحمل عطيه من فراشه وتحكم لف الغطاء
.. عليه .. لشدما كبر هذا الطفل ذو العامين .. حتى إنها لتعجز عن حمله
حمل شهوان صرة الثياب وتقدمها إلى الزقاق .. كانت المياه قد ارتفعت في
الزقاق منحدرة منه إلى سواقي الحارة كأنها نهر صغير .. سارا بموازاة الجدران .. في
منتصف الطريق أبصرا كبير البطوش يجاذب الشيخ محمود أطراف الحديث .. والشيخ
: منهمك في بناء المدماك الرابع في باب دارهم .. قال له كبير البطوش
يكفيك ما بنيت .. هل تريد إغلق الباب كله يا شيخ محمود ؟ لقد صار باب دارك -
مثل سد مأرب؟
: قال الشيخ محمود
يا للفأل السئ .. أل تعلم بأن سد مأرب أكلته الفئران ولم يصمد أمام سيل العرم ؟ -
لم يكمل حديثه حتى كان السيل يعلو مقبل" من جهة بركة قمر ويجتاح ما بناه ..
انهار الجدار وتدفق السيل إلى داخل البيت .. حاول الشيخ محمود التقهقر فانزلقت قدمه
وغاص في الماء .. صرخت مريم : أبي .. ناولت عطيه لكبير البطوش وانطلقت نحوه
.. رمى شهوان صرة الثياب وغاص باتجاه عمه .. أخرجه من الماء وأخذ يمسح وجهه
. بطرف كوفيته
. ل بأس عليك يا عماه .. ل بأس عليك -
. احتضنته مريم وهي تولول
فتح عينيه فأبصر مريم وشهوان يحيطان به .. أسلمه شهوان لمريم وانطلق يعدو خلف
. صرة الثياب التي سحبها السيل
استمر المطر طوال الليل وحينما طلع النهار امتلت قلوب أهل الحارة
بالرعب .. كانت السواقي المحيطة بالحارة قد اتصل بعضها ببعض بعد أن غمرتها
. المياه وأزالت كل معالمها
: قال الشيخ محمود وهو يسرح البصر على امتداد الفق
ما هذا البحر العجاج المتلطم المواج ؟ -
: أجابه الريفي
لن يطول الحال حتى تهبط بيوتنا الواحد تلو الخر .. فقد جرف السيل أساساتها .. -
وما أظن أن جدرانها الطينية تحتمل المزيد .. لم يكمل حتى أقبل طبوع أبو الرواكي
. وقد تقطع نفسه من العدو
أين دارنا يا شيخ محمود ؟ قضيت الليل في الساقية وحين رجعت لم أجدها .. إذا فقد -
. جرف السيل أول بيت في الحارة ..حاول مواساته ولكنه أجهش بالبكاء
بدأ أهل الحارة يحملون متاعهم وينتقلون الى البيوت المرتفعة .. قبل أن تهبط
السقوف على رؤوسهم .. فتحت خضرة أبواب بيت العامري عسى أن يلجأ إليها أحد ..
. أشارت لهم بكلتا يديها
. تفضلوا -
أشاحوا بوجوههم ومضوا في طريقهم .. لم تيأس .. تركت البواب مشرعة لعل
أحدا" يفكر في اللجوء إليها .. بلغ ذلك مسامع نظمي افندي .. ورغم أن بيته لم يتضرر
. بشئ .. إل أنه حمل صرة ثياب وهرع إلى بيت العامري
. اقتحم الباب .. القى صرة الثياب على الرض
. النبي وصى على سابع جار -
. نظر إليها مليا".. كانت عيناها تلمع بنظرة جمدت الدم في عروقه
. لكنك دعوت الناس للقامة عندك -
. دعوت الناس وليس الكلب من أمثالك -
: اختطفت سكين المطبخ وأشارت إلى الباب
. أخرج -
اتجه إلى الباب وهو يتميز غيظا" .. نسي صرة الثياب .. تناولتها خضرة ..
. وقذفت بها على طول يدها فسقطت في الوحل
. طريق الوداود .. يودي ما يعاود -
في اليوم السادس أطاح السيل بعشرة بيوت دفعة واحدة .. كان بينها بيت شهوان
وبيت الشيخ محمود .. أخيرا" استقر رأي أهل الحارة على التشفع بالشيخ حيار ولي
الحارة لكي يطلب لهم من ال وقف المطر .. خاضوا في الماء إلى صدورهم ليصلوا
إلى مقام الشيخ حيار .. لكنهم لم يجدوا له أي أثر .. كان الماء قد جرف المقام والقبر
. معا"
وغير بعيد أبصروا الباب الخشبي المزخرف الذي كان يزين المقام .. يطفو على وجه
. الماء
: قال الشيخ محمود وهو يثبت العمامة على رأسه
. تال لقد اتخذ طريقه في البحر سربا" -
وصل حبوش متأخرا" يسحبه طبوع أبو الرواكي .. ما أن أشرفا على المكان
: حتى صرخ حبوش بعالي صوته
. سرك الباتع يا شيخ حيار -
: التفتوا إليه وهم يهزون رؤسهم اشفاقا" .. تولى شهوان الجابة
الشيخ حيار لم يعد هنا يا حبوش .. لقد رحل هو وأولياء الحارة جميعا" .. كانت -
قبورهم تمخر مياه السيل كالمراكب في طريقها إلى البحر .. أغلب الظن أنها ستواصل
. إبحارها إلى الحجاز بقصد الحج والعمرة
: انهالوا عليه باللوم والتقريع .. قال شيخ الحارة
!أتهزأ بأولياء ال في يوم كهذا يا شهوان ؟ -
: انبرى له حبوش وقد وجدها فرصة لكي يسلقه بلسانه الحاد
. إن الرقعاء من أمثالك هم الذين يستنزلون البلء على أقوامهم -
: قال الشيخ محمود وهو يخاطبه لول مرة منذ تزوج مريم
. استغفر ال يا شهوان -
: استغفر شهوان كما أمره عمه .. ولكن حبوش تابع هجومه
لقد استحق أهل الحارة غضب ال .. كما استحقه قوم نوح ولوط وعاد وثمود .. -
الفسق والزنى وشرب الخمر وأكل مال اليتيم .. ماذا بقي من المحرمات لم تدخلوه إلى
هذه الحارة ؟
: قال شهوان لسالم
. أنا المعني بالولى .. وأنت المعني بالخيرة -
: غلى الدم في عروق سالم فهجم على حبوش
. يا أعمى الكلب -
: أمسك به نظمي أفندي
لقد عرض بي أنا أيضا" .. ودائما" يردد أن بيتي هو خمارة الحارة .. وأن باب -
. الكلغاصي من أبواب النار .. ولكن ل بأس هذه المرة مادام قد أصاب خضرة
: ترك طبوع يد حبوش واتجه إلى نظمي أفندي
إنت بتشتغل في الدبوية وبتعرف كل شي .. شفت دارنا .. وين دارنا يا نظمي -
أفندي ؟
: أشاح عنه نظمي أفندي
. خلي حبوش يشوفها -
. انصرف نظمي افندي إلى سبيله .. قال الشيخ محمود وهو يتأمل السماء
. يا ألطاف ال .. أنظروا هناك -
نظروا إلى حيث أشار .. كان خيط من شعاع الشمس قد لح في الفق المكفهر ..
. خلل فرجة بين الغيوم أخذت تتسع شيئا" فشيئا"
سوف تصحو إذا ؟ -
: ردد الشيخ محمود قوله تعالى
. ( قلنا يا سماء اقلعي ويا أرض ابلعي ماءك وغيض الماء ) -